حرية الإنسان وحرية الحق

خلق الله –سبحانه وتعالى– الإنسان “حر الإرادة”، “حر الفعل” –وإن كان تحت المشيئة الكلية الإلهية– وبذلك صار الإنسان وحده -دون باقي المخلوقات- هو المخلوق المتفرّد بهذه الحرية، وهذه هي “الأمانة” التي حملها الإنسان أي: أمانة الحرية والاختيار. وعلى أساسها يتم “الحساب والجزاء”، و”الثواب والعقاب”.

وطبقًا لهذه الحرية، كان هناك إرادة الخير، وإرادة الشر. وكان هناك نجدين (سبيلين) سبيل للحق، وسبيل للباطل، وكان هناك اعتقادين: الإيمان، والكفر. وللإنسان كامل الحرية، والقدرة، والمشيئة أن يأتي الخير أو الشر، أو يسلك طريق الحق، أو أن يمضي في طريق الباطل، أو إن شاء آمن، أو إن شاء كفر.

الحرية الإنسانية في كل فعل؛ لأنه سيُسأل عنها يوم القيامة! ولا يمكن أن يُسأل عنها إلا عند “حريته” وقدرته على الاختيار، وإلا لو كان مجبرًا على فعل الخير لما كان لثوابه معنى، ولو كان مجبرًا على فعل الشر لما كان لعقابه معنى؛ ولذا فهو يملك حرية الإرادة، وحرية الفعل.

بل جاء الإسلام، وشُرع الجهاد ليحرر الإرادة الإنسانية ذاتها مما يمارسه الطغاة ومدّعي الربوبية من البشر على الخلق، فيحرره من هذه الأغلال المادية، وكذلك يُحرره من الأثقال المعنوية التي يستجيب فيها الإنسان لغيره من البشر ويخضع لهم، فيُصدق دجلهم، ويتبع ضلالاتهم.

هذه هي حرية الإنسان. ولكن عندما يستجيب الإنسان، ويختار دواعي الشر، وطريق الباطل، لا ينتهي عند ذلك فحسب، بل إنه يريد أمرين؛ الأول: إنشاء مجتمع الباطل والشر. والثاني: محاربة مجتمع الحق والإيمان. وإعلانه البدء بهذه الحرب، والتوحش في العدوان. فلا يطيق الباطل أن يرى الحق موجودًا فضلًا عن أن يكون منتصرًا.

محاور الحق

وهنا، يعمل الحق على ثلاثة محاور:

  • دعوة الإنسان.
  • استقامة المجتمع.
  • حرية إقامة الحق والعدل.

دعوة الإنسان

ذلك المحور هو محور ذاتي. والإنسان فيه حر الاختيار والإرادة؛ فالحق يدعو الإنسان للاستقامة، ويُزين ويحبب له طريق الخير، كما يفعل الباطل وهو يُزين القبيح! والإنسان حر في أن يختار الحق، أو يتركه، فحسابه على الله في الآخرة، وسيُحاسب وحده على ما قدّمت يداه. والدنيا –في النهاية– ليست “دار عدل”، بل “دار امتحان وعمل”.

استقامة المجتمع

أما ذلك المحور فهو محور عام. ومقدس كذلك، لا يترك الحق فيه مجالًا للإنسان أن يشيع فيه الباطل والفواحش؛ فمحاولة نشر الباطل والفواحش هو “عدوان” على حرية الإنسان في التماس طريق الخير.

ولا يخلط بين الحرية الذاتية الفردية الخاصة للإنسان، وبين حرية المجتمع وضرورة استقامته؛ لأنه محضن الإنسان والأسرة عمومًا، ويجب أن يبقى مطهرًا نقيًا على أحسن مظهر، وأجمل صورة.

ولكن أهل الباطل يريدون لهذا المجتمع أن يكون على الباطل، بحجة “الحرية”؛ فتراهم يرون في العري، والشذوذ، والإلحاد، والكفر، والزندقة… “حرية”! وهي بالفعل حرية، ولكنها حرية ذاتية فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر؛ فليس هناك لأحد من البشر سلطان على القلوب والضمائر.

ولكنهم لا يريدون ذلك فحسب، إنهم يريدون أن ينقلوا هذا الباطل إلى “الفضاء العام الاجتماعي”؛ ليكون له “السيادة والقيادة والسياسة” وهنا تكون الكارثة، والخلط، والتدليس. ولأهل العلمانية صولات وجولات وطنطنة كثيرة حول هذه “الحرية”، وقد يعطون “جرعات صغيرة” منها لمن يزعجهم الحديث الواضح المباشر، وقد يغالون ويعطون “الجرعة كاملة” فينصدم البعض، ويستجيب الآخر!

بل وترى بعض من يزعم الدعوة إلى الإسلام يُصدق دعوات “المساواة والحرية وحقوق الإنسان” ويتأثر بالجرعات الصغيرة المتتالية من العلمانية، حتى نجده في نهاية المطاف “داعية إسلامي إلى العلمانية لا إلى الإسلام!”، ودعوات المساواة والحرية إنما هي الغطاء الجميل الناعم الذي يغطي وجه “أيديولوجيا الباطل” القبيح.

حرية إقامة الحق والعدل

فالحق له أصالة في ذاته، أصالة فطرية فطر الله الناس عليها، وأصالة عقلية تنهض بها العقول الراشدة، وقبل هذا وذاك رسالة الوحي إلى رسل الله. فهذا الحق الأصيل شرعًا ربانيًا، وفطرة سوية، وعقلًا راشدًا، له كامل “الحرية” في دعوة الإنسان، واستقامة المجتمع، ومقاومة الباطل.

وليس هو القول الشائع:” إن حريتك تنتهي عند حرية الآخرين”، فماذا لو كانت حرية الآخرين هي (الشر والباطل)؟ والقول الصحيح –فيما أرى– هو:

إن حريتك الذاتية تنتهي عند حرية إقامة الحق الرباني، وعند حرية المجتمع الطاهر النظيف.

فمثلًا: كان العري قبل سنوات لا تُمثل في عمر البشرية شيئًا قبيحًا مستهجنًا من الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم، ثم تحول إلى “نمط حياة”، وصورة اجتماعية من يرفضها فهو من المتخلّفين الرجعيين المتطرفين.

وكان الشذوذ الجنسي في قلب أوروبا محرمًا وجريمة يعاقب عليها القانون، ثم بعد ذلك صار شرعًا! وليس ذلك فحسب، بل من يرفض هذا الشذوذ أصبح مريضًا يجب علاجه، وسمّوا ذلك “رهاب المثلية”! فأصبح النافر فطرة وعقلًا من الشذوذ مريضًا يجب علاجه، ولا عجب أن نجده غدًا قد أصبح مجرمًا يجب عقابه!

بل أصبح هذا الشذوذ أيديولوجيا خطيرة تنضم إلى البرامج السياسية للمرشحين الانتخابيين، وتُدرس في المدارس للأطفال، والدعايا الإعلانية، والبرامج الفنية والثقافية، والتشريعات القانونية من أجل عولمة الشذوذ، وإنشاء مجتمع الشذوذ؛ فهو ليس مجرد فاحشة، أو شهوة يقترفها البعض، بل هو محاولة بناء نظام اجتماعي، وحراك سياسي، ينمو ويتكون وينشر نفسه في كل مكان تحت زعم الحرية!

جوهر الحرية… كما يريدونه

وليس ذلك فحسب، بل إنهم يجعلون من “أيديولوجيا التعري أو أيديولوجيا الشذوذ” ليس مجرد حرية ممارسة الفعل، أو حتى حرية تنميطه اجتماعيًا، أو عولمته ثقافيًا، بل إنهم يريدون أن يجعلوا من ذلك هو “جوهر” الحرية ومضمونها وتعريفها؛ فيجعلون من التعري أو الشذوذ -مثلًا- هو هوية الحرية، والتقدم، والثقافة!

وهناك من يحاول محاولة خبيثة ضمن استراتيجية “الجرعة الصغيرة” من الباطل؛ وهي -بعد الخلط بين الحرية الذاتية، وحرية المجتمع في التطهر والنظافة–: طرح المسألة للرأي العام.

مثلًا: ما رأيك في الشذوذ؟ ما رأيك في التعري؟ وبالطبع يختلف الناس، هناك فريق مؤيد، وفريق معارض، ولكل رأي وجاهته. ثم ينتقل إلى مرحلة تالية “مرحلة الأغلبية” التي تريد الباطل، ثم إلى مرحلة ثالثة وهي عزل ومحاربة الأقلية التي على الحق، ثم يأتي أصحاب الفكر الحر المستنير –كما زعموا– ليدافعوا عن بعض حقوق الأقلية التي على الحق.

فيظهر أن أهل الباطل أصحاب فكر متحرر متسامح! مثلما حصل في فرنسا عندما حظرت لباس “البوركيني” على الشواطئ، مطالبة بالعري الصريح، ورفض أي مظهر من مظاهر الاحتشام! وفرضت على من تلبسه غرامات مالية، وملاحقات من الشرطة!

ولقد تَوعد القرآن الكريم الذين “يحبون” أن تشيع الفاحشة بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فما بالنا بمن يريد ويقرر ويدعو وينشر ويدافع ويسن التشريعات؛ ليجعل من الفاحشة نمط حياة، ومحور اجتماع، ونظام سياسة؟!

الحرية الحقة

وهنا تأتي حرية إقامة الحق؛ لمحاربة محاولة انتقال الباطل للفضاء الاجتماعي لإضلال الإنسان… كل الإنسان. فالفرق كبير بين من يأتي الشذوذ –مثلًا– وهو متخفٍ، ساتر لنفسه، وبين من يريد أن يجعل منه نظامًا اجتماعيًا، ونمط حياة يجب فرضه على كل الناس.

هناك فرق بين من تتعرى في محيط مغلق، وبين من يريد أن يجعل التعري والإباحية نمط حياة، ونظام اجتماعي. هنا يحارب الحق هؤلاء جميعًا حربًا لا هوادة فيها، ولا غبش عنها، ولا تردد.

خاتمة

فللحق الحرية الكاملة في الحفاظ على الفطرة السوية النظيفة، وللحق مواجهة كل هؤلاء الذين يحاولون أن يدعوا للباطل ليكون محور اجتماع ونمط حياة، وللحق أن يواجههم بكل وسيلة مكافئة، وناجعة.

فيُفرق بين الحرية الذاتية في اختيار الإنسان ما يشاء، وأن يفعل ما يشاء، وبين حرية المجتمع في أن يكون مستقيمًا ظاهرًا على الحق، وحرية الحق ذاته في مواجهة ومعاداة كل باطل، وحرية دعوة الإنسان للاستماع لرسالة الحق، وممارسته، وإظهاره.

ومن ثم يجب التربية الصحيحة على “الاستعلاء” بالإيمان والحق –وليس الاستعلاء بالذات أو الحزب أو الجماعة أو القومية أو الجنس أو اللغة–، ومعرفة سبل المجرمين في الإضلال، والوقوف في وجه الباطل بكل حرية، وقوة. وتحصين المجتمع من دعوات الباطل، ومقاومته بكل وسيلة، بلا ركون إلى الظالمين، أو الاستسلام للمبطلين.

أحمد طه

كاتب ومهتم بالشأن الإسلامي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. يواجه المسلمون الحريصون على مبادئ دينهم واحكامه حربا على كافة الجبهات وبكل الاشكال والمحزن ان الذين يشنون هذه الحرب يحملون اسماءنا ويدينون بديننا ..غنى عن البيان انه لا يوجد “مجتمع اسلامى”تكون السلطة فيه لشرع الله …هناك فقط افراد قلائل يحاولون اقامة شرع الله فى انفسهم وبيوتهم ما استطاعوا الى ذلك سبيلا …ربما استطاع هؤلاء الافراد “القابضون على الجمر “…ولو بالتدريج ان ينشؤوا ذلك المجتمع الاسلامى …ربما تكون البداية من نظام التعليم!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى