كيف خطط الغرب للقضاء على الخلافة الإسلامية – الجزء الثالث
●علاقة الغرب بإلغاء الخلافة الإسلامية
1-وثائق دامغة
لما بدأت الحرب الكبرى الأولى (1914) أصبح القضاء على الدولة العثمانية هدفاً متداولاً ومعلناً بين الحلفاء كما صرحت بذلك الصحف البريطانية فور الدخول العثماني في الحرب، فما “أن بدأت الأعمال العسكرية ضد تركيا، في 5 تشرين الثاني، سنة 1914، حتى شرعت الصحافة البريطانية بإيضاح ما سيحل بتركيا، وما عسى أن يكون مصيرها، ففي يوم 23 تشرين الثاني كتبت جريدة الدايلي مايل (Daily Mail) تقول:
“لسنا نشك في أن الامبراطورية العثمانية على الأرض الأوروبية التي أنشأها الأتراك بحد السيف، سيُقضى عليها بحد السيف”، وفي 31 تشرين الثاني كتبت جريدة الدايلي نيوز (Daily News) تقول: “إذا خسرت ألمانيا الحرب فإن عقاب تركيا لدخولها الحرب إلى جانب ألمانيا سيكون القضاء التام عليها كدولة”، وبما أن هدف بريطانيا كان القضاء على تركيا قضاء مبرماً، فإنها وجدت نفسها عالقة في ديبلوماسية شائكة معقدة” .
بل إننا نجد قبل بداية الحرب الكبرى ما يشير إلى نوايا التقسيم والتجزئة منذ سنة 1912 عند اللورد كتشنر القائد الأعلى للقوات المسلحة في مصر وسفاح السودان ثم المعتمد البريطاني في مصر ثم وزير الدفاع البريطاني، إذ تبين أنه كان أثناء وجوده في مصر راسخ الاعتقاد بأن سوريا الجنوبية من خليج العقبة إلى حيفا وعكا تؤلف “منطقة ذات مغنم لا يستغنى عنها بالنسبة إلى الإمبراطورية البريطانية” وذلك بعد دراسة عسكرية لصحراء سيناء أمر بإجرائها سنة 1913 .
وقد صرحت الدوائر الرسمية للحلفاء بعد اندلاع الحرب بهذا الهدف كما كشف عن ذلك”بيان عن السياسة الخارجية مرفوع إلى المجلس الحربي الملكي” الذي قام اللورد بلفور وزير الخارجية البريطاني وصاحب الوعد المشئوم ورئيس البعثة البريطانية الخاصة الذي كان في زيارة للولايات المتحدة بتسليم نسخة منه إلى وزير الدولة الأمريكي وجاء في هذا البيان الصادر في سنة 1917:
“لاشك أن القضاء على الامبراطورية العثمانية قضاء تاماً هو من أهدافنا التي نريد تحقيقها،وقد يظل الشعب التركي،ونأمل أن يظل،مستقلاً أو شبه مستقل في آسيا الصغرى،فإذا نجحنا فلا شك أن تركيا ستفقد كل الأجزاء التي نطلق عليها عادة اسم الجزيرة العربية (Arabia) وستفقد كذلك أهم المناطق في وادي الفرات ودجلة،كما أنها ستفقد استانبول،أما سوريا وأرمينيا والأقسام الجنوبية من آسيا الصغرى فإنها،إن لم تضم إلى الحلفاء،فمن المرجح أنها ستبقى ضمن حكمها”
وهذه الوثائق وردت لدى المؤرخ زين زين،هذا بالإضافة إلى وثائق كتبها لورنس العرب أثناء الثورة العربية.
ففي تقرير كتبه لورنس في يناير/كانون الثاني/ جانفي 1916 تحت عنوان سياسات مكة قال:
“إن تحرك (الشريف حسين) يبدو مفيداً لنا، لأنه ينسجم مع أهدافنا المباشرة:تحطيم الجبهة الإسلامية الموحدة وهزيمة وتمزيق الامبراطورية العثمانية، ولأن الدول التي سيقيمها (الشريف) خلفاً لتركيا ستكون غير ضارة بنا كما كانت تركيا قبل أن تصبح أداة في أيدي الألمان.إن العرب أقل توازناً من الأتراك، وإذا عولج أمرهم بشكل مناسب فإنهم سيظلون في حالة من الشرذمة السياسية، نسيج من الإمارات الصغيرة المتحاسدة غير القابلة للتوحد، ومع ذلك يمكنها الاجتماع في مواجهة أية قوة خارجية”.
وهذا الاجتماع الذي يقلق لورنس ورؤساءه هو ما يعمل الغرب جاهداً لمنعه منذ تلك الأيام.
ويختم تقريره قائلا:
إن الشريف حسيناً يفكر يوماً بالحلول محل السلطة التركية في الحجاز، ولو تمكنا من ترتيب هذا التغير السياسي ليكون بالعنف، سنقضي على خطر الإسلام بجعله ينقسم على نفسه في عقر داره، وسيكون هناك خليفة في تركيا وخليفة في الجزيرة العربية في حالة حرب دينية، وسيصبح عجز الإسلام كما كان عجز البابوية عندما كان الباباوات في أفنيون” (وهي فترة تراجعت فيها هيمنة البابوية وسميت الأسر البابلي للكنيسة 1309-1377 تشبيها بأسر بني إسرائيل على أيدي البابليين في القرن السادس ق.م، وقد أعقبها انقسام وصف بالعظيم نتيجة وجود بابا في روما وآخر في أفنيون 1378-1417).
وفي تقرير حمل عنوان “لو تم احتلال سوريا” وكتبه لورنس سنة 1916 أيضاً لاقتراح حل للمشكلة التي يسببها إعلان الخليفة العثماني الجهاد ضد الحلفاء الذين يحتلون بلاداً يقطنها ملايين المسلمين، قال لورنس:”مهما نتج عن هذه الحرب، فإنها يجب أن تقضي تماماً ونهائياً على السيادة الدينية للسلطان” وهي وثائق أوردها فيليب نايتلي وكولن سمبسون في خفايا حياة لورنس.
2-اختلاف مصير الدولة العثمانية عن مصير ألمانيا بعد الحرب
وكان المصير الذي تعرضت له الدولة العثمانية التي ساحت جيوش المحتلين في أراضيها يختلف عما نال ألمانيا التي لم تحطم في نهاية الحرب، وهذا ما صرحت به الصحافة البريطانية منذ بداية الحرب كما سبق، ولم تخف هذه المفارقة عن ملاحظة المؤرخين:”إن الامبراطورية العثمانية لم (تنهار).هذا تعبير شديد السلبية.لقد مزقوها إرباً مثلما تخلع مفاصل الدجاجة قبل الأكل،حتى ألمانيا نفسها لم تتكبد تقطيع الأوصال وانتزاع الأحشاء”كما يقول المؤرخ جيرمي سولت .
وقد لاحظ المؤرخ فيليب كورتن نفس الملاحظة حين قال إن الحلفاء وضعوا أثناء الحرب خططاً متنوعة لتقسيم تركيا (الدولة العثمانية) ، وكان هناك تفكير مسيطر وراء العهود المحددة التي أطلقتها الطبقة السياسية في بريطانيا، وفرنسا وإيطاليا يتمثل بعدم عد الدولة العثمانية دولة مهزومة وعدواً متحضراً مثل ألمانيا، بل كدولة يجب أن تعامل كما عوملت ممالك أخرى غير غربية أثناء العهود الاستعمارية الكبرى، وكانت غايتهم تجزئة الإمبراطورية العثمانية وتقسيم الباقي إلى مناطق نفوذ مما أعطى فرنسا وبريطانيا وإيطاليا على التوالي سلطات واسعة في الإمبراطورية العثمانية السابقة وعلى ما تبقى منها .
وقد شاركت الولايات المتحدة أوروبا في كراهية العثمانيين بشكل خاص، وفي ذلك يقول المؤرخ مايكل أورين إن الرئيس الأمريكي وودرو ويلسن عندما حضر إلى مؤتمر السلام في باريس سنة 1919 كان يحمل قيمه ومثله وأفكاره المسبقة كذلك، فقد كان يحتقر كل أشكال الاستعمار الأوروبي، ومنها الاستعمار البريطاني (ونسي استعمار القارة الأمريكية الذي كان قد اكتمل قبل سنوات قليلة)، وأظهر نفوراً خاصاً للأتراك، ومنذ 1889 كان يصف الإمبراطورية العثمانية بأنها غير طبيعية ومثال متأخر على الأشكال غير المتقنة للسياسة التي نمت عليها أوروبا”، ويقر المؤرخ نفسه أن الرئيس كان “لا يعرف عن جغرافية المنطقة وثقافتها وتقاليدها أكثر مما قرأ في الإنجيل” .
وكان التقارب الحضاري بين ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة مما دفع المنتصرين لتشخيص مصالحهم في بقاء القوة الألمانية وعدم الموافقة على تحطيمها لتظل عامل حفظ للتوازن الأوروبي تجاه فرنسا وللوقوف في وجه المد الشيوعي ، كل هذا يختلف عن حالة العداء الحضاري تجاه العثمانيين الذين كان القضاء عليهم قضاء مبرماً هو المصلحة الغربية، ومع ذلك لم تعجب الالمان سياسة الإملاء للحفاظ عليهم على مقاس المصالح المنتصرة وأدت شروط الصلح القاسية إلى اندلاع الحرب الكبرى الثانية في الوقت الذي كان الإجهاز على وحدتنا دافعاً لنا للتلاؤم مع المصالح الغربية والانسجام معها إلى حد أداء الخدمات لها.