
كيف تكون الدعوة في المناطق المحررة من الطغاة؟
ما هي الصورة العملية التي يجب أن تكون عليها الدعوة في المناطق التي تُحرر من رجس الطغاة والطواغيت؟
كل سؤال عن “صورة عملية” لا بد وأن يستلزم:
(1) تحليل البيئة
(2) تحليل النفسية العامة للمجتمع
(3) تحديد الأولويات.
(4) رسم الخطة المرحلية.
(٥) رسم الخطة المستقبلية – الإستراتيجية
(٦) إحباط التأثير المضاد.
لا بد وأن نعي جيدًا أن العيش في حكم الطواغيت، يعني تدمير البنية النفسية والفكرية لعموم الناس، ولا يصمد إلا الأفذاذ.. وأنه بطول الحكم-وغالبًا ما يطول-تتحلل النُفس وتتفكك، وتتوغل “أمراض الاستبداد” داخل بنية النفس.. لدرجة يصعب علاجها في الجيل الحالي، وربما تخف آثارها، وتُعالج في الجيل الثاني، وتختفي تمامًا في الجيل الثالث.
ولقد بلغت عناية القرآن الكريم كل مبلغ في “تشريح” أمراض الاستبداد من خلال العرض التفصيلي الواسع لقصة “بني إسرائيل” في إشارة إلى الحالة التي ستكون عليها الأمة المسلمة في اتباعها سنن بني إسرائيل، وبيان طريق العودة.
وإن الداعية لا بد وأن يعي أنه يعالج نفوسًا معقدة، وسهلة الانقلاب، والتردد، والتذبذب.. ولا “يتوقع” نتائج مبهرة، أو ثمرة قريبة.. وإن كان ثمة ذلك فهو محض فضل الله على الأمة، وعلى الناس..
تحليل البيئة
إنما يتضمن الإحاطة بدرجة أمراض الاستبداد وحدتها، ومدى انتشارها، لتحديد الصورة التي يجب بها مخاطبة الناس، والأنسب لعقولهم، ومعرفة الشبهات وأنواع الجاهلية المنتشرة فيهم.
تحليل النفسية العامة للمجتمع
إنما تهدف إلى فهم خصائص كل مجتمع، وتأثير عامل الزمان والمكان فيه، وسابق ثقافته، وسابق معتقداته، وأنماط حياته.. حتى لا نصطدم أثناء الدعوة بعقبات فكرية ونفسية لم تكن في الحسبان.. فإن معرفة النتواءت والفجوات النفسية، وتسوية هذه بهدوء، وترميم تلك بأدب.. من شأنه أن يُخرج “النفسية السوية” المستقيمة.
تحديد أولويات الدعوة
إنما هو تابع للمستوى الفكري لدى الناس، فقد لا تَعلم الناس شيئًا عن معنى التوحيد، أو تدرك معنًى منقوصًا منه، أو لا تعرف حتى آداب الطهارة، وأركان الصلاة! وهذا-ولا شك-شيء متوقع أن نجده بين الناس، بل حتى بين أصحاب الشهادات العليا من الناس، وذلك من أثر التجهيل المتعمد الذي يقصده الطواغيت.. والمطلوب: هو أخذ الناس برفق وحزم إلى طريق الصواب.. دون تبكيتهم أو إهانتهم أو جرح كرامتهم..
البداية ب “لا إله إلا الله”
وإن البداية-ولا شك-مع معنى ومفهوم “لا إله إلا الله” وإزالة لوثات الجاهلية عما أحاط مدلولاتها في نفوس الناس.. سواء اللوثة الإرجائية أو اللوثة العلمانية (لا سيما العلمانية المتدينة، والقومية، والبرجماتية)، وإن معنى “لا إله إلا الله” ليس مجرد بيان “أحكام” الإيمان والكفر.. بقدر ما هو تعريف الناس إلى ربهم، وبيان معنى العبادة، والفرق بين التوحيد والشرك، والإيمان والكفر، والإسلام والجاهلية، وبقدر ما هو ربط القلوب بالله-سبحانه وتعالى-وتزيين الإيمان في قلوبهم وأرواحهم.. وتربية الناس على مقتضى التوحيد.. وتعميق الإيمان حتى يغمر أعماق النفس الإنسانية، مع مراعاة طاقات الناس، ومدى استيعابها.
بين الداعية والحاكم المسلم
وإن الداعية إلى الله.. لا “يدافع” ولا “يبرر” مواقف الحاكم المسلم الذي يحكم بالشرع، بل وحتى لا “يبرر” الاختيارات الفقهية لهيئات الدولة.. إنما الداعية هو شخصية متجردة من كل الرؤى السياسية للحاكم المسلم، ومن الاختيارات الفقهية، فموضوع دعوته هو “الله ودينه وشرعه” بصورة غاية في التجرد، فقد يخطئ الحاكم في رؤيته السياسية، وقد يرجح الفقهاء أقوالًا ضعيفة أو غيرها، والداعية ليس دوره الدفاع عن الحاكم المسلم واختياراته الفقهية إنما هذه مهمة هيئة الحاكم الشرعية والإعلامية.. أما الداعية فهو يدافع عن الدين والشرع بصورة عامة وكلية-بعيدة عن ظرف الحاكم ومكانه-تربط الناس بالله وشرعه، بعيدًا عن اجتهاد البشر، فاجتهاد البشر إنما هو اجتهادهم، أما الدين والشرع فهو ما يجب أن يلزمه الناس في كل زمان ومكان.. وهذه الصورة من الدعوة تحافظ على ربانية المجتمع وتوازنه بعيداً عن “تديُّن” الحاكم ومدى التزامه، فالداعية ليس من “رجال الحاكم”، إنما هو من “رجال الإسلام” المجرد عن أي ظروف سياسية.. وبمرور الوقت يتحول المجتمع إلى الحامي والحافظ لشرع الله ودينه.
كيف يكون الداعية إلى الله
إن الناس ترقب “رسالة الداعية” فإذا وجدت نفسها في فجوة هائلة عنها، استهولت واستصعبت اعتقادها أو الإيمان بها.. أو آمنت بها على مضض! أو آمنت بها في الظاهر بسلطان القوة، بينما تُخفي في نفسها غير ما تُبديه!!
وإن الناس لديها حاسة تعرف بها الداعية.. إذا كان صادقًا وحريصًا عليها، يبتغي بدعوته رضى الله والجنة أم لا.. لذا يجب أن يكون “الحرص” على الناس صفة حقيقية دائمة، ليس فيها تصنع ولا تَكلّف.
كل هذه الأمور لا بد أن تكون في حس الداعية، وهي يمضي في طريقه وهو يأخذ الناس برفق، ويطرق عقولهم بأدب، ويتحبب إليهم بصدق..
وهنا-وأحياناً كثيرة-يحتاج الداعية ليس إلى الكلام.. وإنما إلى “الإنصات” والاستماع للناس، والصبر عليهم، وعلى تفصيلاتهم التافهة، وموضوعاتهم الساذجة.. ولا يقول الداعية في نفسه أو للناس: أن وقته الثمين لا يسمح له بالاستماع إلى لغو الناس! هذا خطأ فادح..
إن الناس-في عمومهم-لا سيما بعد حكم الطواغيت، يكونون في حالة من “الكبت” و”الضمور النفسي” لا يظهر للواقع نعم، بل قد تكون الصورة الواقعية مخالفة للكبت والضمور.. لتعَوُّدِ الناس إخفاء مشاعرها، لكن ذلك حقيقة واقعة.. فواقع سياسة الطواغيت تقلص النمو الطبيعي للنفس في مراحل مبكرة، وتكون أقرب إلى التشوه منها إلى الصورة السوية!
وفي هذه الحالة يجب أن يكون صدر الداعية يتسع لتفريغ “الكبت النفسي” لدى الناس.. بل قد تكون أعظم خدمة يقدمها الداعية-أحيانًا-هو أن يجلس يسمع فقط، ويسمع حتى “يفرغ” المتكلم، فبعدها يشعر المتكلم بالراحة لمجرد أن وجد من استمع إليه..
وإن حالة الكبت والضمور تجعل عموم الناس أشبه بـ “المريض النفسي” وفي عيادات المعالجة النفسية يكون دور المعالج أو الطيب هو “الانصات الجيد” للمريض، ولا يفعل شيئًا أكثر من أنه يسمع باهتمام وتركيز، ويشير إلى بعض النصائح أو غيرها في النهاية..
هذه الصورة مع الدعوة.. تربط قلوب الناس بالداعية، ولا تنظر إلى الداعية على أنه صورة مستحيلة من “الطهر والعفاف والعبادة والتبتل والانقطاع” يعجز الناس عن الوصول إليها، فتنظر إلى الداعية نظرة “الطاهر المقدس” وإلى نفسها صورة “الدنس الحقير” ولا شك هذه صورة منحرفة من الدعوة.. ولا يجب أن تكون أبدًا في ذهن الناس..
يجب أن يفهم الناس أن الداعية بشر مثلهم، وأنه قريب منهم، وأن الطريق إلى الله يُسرٌ، وأن الجميع يستطيع أن يمضي فيه.. وأن هذا الطريق ليس العبرة فيه بكثرة الطاعات.. إنما هو بـ “حقيقة الإخلاص والتجرد وابتغاء وجه الله الكريم”
هذا من شأنه أن يرفع قيمة ونظرة الناس إلى أنفسها، وأن الطريق لا يستلزم سوى صفاء القلب لله سبحانه وتعالى، والمضي في أنوار النبوة ما استطاع الناس لذلك سبيلًا.
وعلى هذا الأساس والفهم من تحليل البيئة ونفسية المجتمع العامة، وأولويات الدعوة.. توضع الخطط الإعلامية التسويقية للداعية.. بما لديه من إمكانات وأدوات، ومن ثم تفتح الطريق للخطط المستقبلية استعدادًا للمستقبل، ولتطوير الوسائل والأدوات وفنون الإقناع والتأثير.
حتى تعود خلافة على منهاج النبوة
فنحن بحاجة إلى تأسيس مثل هذه العلوم.. علم الدعوة وغيره، والذي يجمع بين فنون الإعلام والإقناع والتأثير، وبين فنون الأدوات والآليات، وبين فنون تحليل البيئة والنفوس، وبين فنون رسم الخطط والإستراتيجيات.. والحقيقة هذه العلوم موجودة أو مبثوثة بين علوم أخرى، ومختلط بعضها بلوثة الجاهلية، ونحن بحاجة ماسة إلى تنقيح وتأسيس هذه العلوم، وانتقاء الشخصيات البارزة والموهوبة التي حباها الله.. بحب الناس، وبسهولة القرب والانتشار بين الناس.. لتربية جيل دعوي قادر على تزيين الإيمان في القلوب، وإعادة الأمة المسلمة إلى الرشاد، وحمل رسالة الله إلى العالمين.
إننا بحاجة في المناطق المحررة من حكم الطغاة والطواغيت:
(1) إلى بيان معنى الشرع بحدوده ومقاصده.
(2) رفع الشبهات، وإزالة لوثة الجاهلية برفق وأدب ولين.
(3) تقديم التصور الإسلامي في صورته الشاملة الربانية التي تمحق التصورات الباطلة.
(4) إزالة أثر سحر إعلام الجاهلية والطواغيت.. الذي لا يتوقف بثُّه لحظة، فنكون بحاجة إلى أن لا نتوقف نحن كذلك عن رفع تأثيره.
(5) معالجة أثر الاستبداد التي تركها الطواغيت في نفوس الناس.
(6) كتابة المنشورات والمطويات بلغة قريبة سهلة، يفهمها الناس، وفيها احترام لهم، وفيها “الحرص” على إفهامهم.
(7) بحاجة إلى قوافل دعوية.. تجوب القرى والمدن والمناطق النائية، وليس شرطًا أن يكون موضوعها خطبة أو درسًا دينيًا.. بل تكون مجرد زيارة إنسانية، تتخللها كلمات بسيطة قد يكون لها أثر أبلغ من عشرات المحاضرات.. وتكون بصورة متكررة ودائمة.
(8) بحاجة إلى الاندماج في الناس، للتأثير فيهم، وشعور الناس بقرب الداعية، بل قد يكون السعي في حاجة الناس.. أبلغ دعوة.
الكنيسة وفن الدعوة
وإن الكنيسة-على باطلها-قد قطعت شوطًا طويلًا في فنون الدعوة والتأثير.. وأذكر أنني كنت في إحدى الدول الأوروبية، ووجدت شابًا مهذبًا هادئًا يضع اسمه على صدره، مع اسم الكنيسة التابع لها.. لا يستوقف الناس، إنما “يسير” معهم، يقف عند محطة القطار الداخلي، والناس تذهب من المحطة إلى السوق في مسافة حوالي خمسمئة متر، يسير هذا الشاب مع الناس من محطة القطار إلى السوق، وكان يسألهم أسئلة خفيفة-وهو استوقفني مرة، وسألني هل تؤمن بالمسيح، قلت: نعم، لكنه عبد الله ورسوله، قال لي إذن أنت مسلم، ومضى يودعني!- يهامس الناس وهو يسير معها، وربما دلها على ما تجهله.. وفي النهاية يعطيهم بطاقة “كارت” صغيرًا .. فيه كلمات بسيطة والموقع الإلكتروني للكنيسة! العجيب أن هذا الشاب نفسه أتى من دولة أخرى ليُبشر بكنيسته!
هذا نموذج صغير، مما قطعه أهل الباطل في طرق التأثير ومخاطبة الناس !
الدعوة حركة
إذن.. الدعوة ليست مجرد خطبة جمعة أو منشور أو مطويات.. بل هي أعم من ذلك، هي حركة اجتماعية تهدف نقل المجتمع من التيه إلى الرشاد.. فتشمل كل شيء، ولا يستلزم للداعية أن يكون ملمًا بكل التفاصيل الفقهية.. بل ولا أن يكون مفتيًا في شيء، يكفيه أن يحمل رسالة ويُبلغها للناس بكل تواضع.. لكن يُبلغها حق البلاغ، ويوفيها حق الوفاء، فلا يختلج في صدور الناس شيءٌ منها، ولا يترك الناس إلا وقد تشبعت بها فآمنت عن بيّنة ويقين.. ولا يترك الناس إلا وقد أفرغت ما بنفسها وعقلها وروحها كل ما تحمله من تصورات وجاهلية.. وما كان منها خيرًا وحقًا أبقينا عليه، وأكدناه بدعوة الإسلام وحولنا نيته خالصةً لله جل جلاله، وما وجدناه من جاهلية وباطل أزلنا وجوده من أعماق جذوره.. بما يناسب واقع الناس، وأفهامهم، ولغتهم.
وإن الرسالة الإسلامية لا شك هي أرقى من كل التصورات الأرضية الوضعية سواء أكانت فكرية أو فلسفية أو مادية… إلخ. فالداعية يحمل رسالة السماء.. وهي رسالة ربانية منصورة بوعد الله، فلا يخاف شيئًا، وعليه أن يستمع لكافة تصورات الناس، ويردها بالقرآن كما قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) [الفرقان : 33] رددها بالحكمة والموعظة الحسنة: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل : 125]