مكانة القلب في القرآن

احتار الناس في أمر القلوب كثيرًا، وزاد من تلك الحيرة خروج بعض من يسمون أنفسهم بالمشايخ ليحرم ويحلل كيفما يشاء. فحرموا الحب وحللوه، حتى نفر الناس منهم. وكان من نتائج ذلك النفور أن بزغت بعض المفاهيم الشاذة عن الدين، كحديث أهل الأدب والنقد، وحديث أهل الفن، وأهل الطبقة المثقفة الراقية، وحديث المُغنين والمُغنيات عن القلب ومكانته. حتى لقد ترسخت بعض تلكم الأفكارِ في أذهان الناس، وصار حال من يتحدث في هذا الأمر كأنه يتحدث في محرمٍ، أو أنه منحل الأخلاق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

مكانة القلب في القرآن تتلخص في ثلاثة عناصر:

فالأولُ أن القلب محل القرآن ومحتويهِ

إذ ما نزل القرآن الكريمُ على النبيِّ ﷺ عامةً، إنما نزل على قلبه خاصة. يقول سبحانه وتعالى: ” نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ”. ويقول أيضًا: “قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ”. فنزول القرآن على قلب النبي ﷺ معناه أن الله اصطفي هذه المضغة لتكون محلًا لكتابه، دلالةً منه على عِظمِ مكانة القلب في دين الله، وكلنا يحفظ الحديث: ” ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب “.

والثاني أن القلب في القرآن مناط الذكرى

 قال تعالى: ” إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُو شَهِيدٌ “. معنى هذا أن الذي ليس له قلبٌ لا يتذكر بالقرآن ولا ينتفع به.

والأخير أن غاية القلوب الفقه

فالقرآن الكريم يُثْبِت القلوب وينفي مُقتضاها، قال تعالى: ” وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا”. فأثبت القلوب لكنه نفي المُقتضَى، ومقتضَى القلب وغايته أن يكون فقيهًا بكتاب الله.

لذا فعندما نرى حديث الناس عن القلوب في أيامنا هذه، ندرك أن الفرق شاسع، والطريق طويلة، والنهاية مُوحِشَة. فأغلب البنات اليوم يبررن أفعالهن بما يَدَّعِينَه بالحب، ويقضين الأيام والليالي بالحديث عن ” قلبي بيتقطع ” وما شابه ذلك، ويقضين الساعات على الهاتف مع (أحبائهن) بل ويجلسن معهم كأصدقاء، وقد يتجاوز الأمر ذلك إلى مضاحكة أحدهم الآخر بل ويصل إلى الخروج والتنزه معًا، وكل هذا باسم القلب، وما للقلب ولا للدين صلةٌ بذلك.

فالأصل في هذا أن لا علاقة لهم بهن، حتى في النظر؛ إذ أن الحلال فيه هو نظرة الفجأة وحسب، وما تجاوزها فهو حرام. فالصحيح أن لا حديث بين الرجل والمرأة إلا لضرورةٍ شديدةٍ لا يقضيها إلا هذا الحديث. حتى أنه إذا رغب فيها فأول حديثه ليس معها، إنما مع وَليِّها!

إلا أن هذا لا ينفي وجود الحب في الإسلام–كما قد يتخيل البعض–بل على النقيض، فالإسلام مملوءٌ بالحب، ولكن بشروطٍ وُضعت لتضبِطَه. والأمثلة كثيرةٌ يصعب ذكرها في هذا المقال، فعلى سبيل المثال أن رسول الله ﷺ قال: “لم ير للمتحابَّين مثل النكاح”، وقال أيضًا عندما تحدَّث عن السيدة خديجة: إني قد رزقت حبها، وقوله: يا فاطمة إني أحب عائشة فأحبيها. وقد ألف علماء المسلمين كتبًا في الحب وحده! منها كتاب ” منزلة المحبة ” لابن القيم، وكتاب ” طوق الحمامة ” لابن حزمٍ الأندلسي.

واهمون نحنُ عندما نتحدثُ عن المحبةِ دون أن نرُدَّها لأصلها وحقيقتها، ونطلق لها عنان إدراكنا. إن المحبة لا تقاسُ فقط بالقلب، وإنما توزن فيها نزوات القلب بنظرات العقل. وأما عن المحبوب فهو نوعان: محبوبٌ لذاته، ومحبوبٌ لغيره. ولا يوجد محبوبٌ لذاته إلا الله، أما المحبوب لغيره فإنه إن لم يكن مرتبطًا بالله فهو وبالٌ على صاحبه؛ أي أن المحبوب يُحَبُّ لصفاته الحميدة المرتبطةُ بالله، ولذا فإن أي حبٍ دون السعي فيه للارتباط بحب الله فهووهمٌ!

أما عن حديث الناس بالقلوب: فمن مساوئ فهمنا للقلوب أن الناس اليوم صاروا يستخدمون مصطلح القلب في غير محله. قد يجد الواحد صديقه في أزمةٍ فيواسيه بقوله “قلبي معاك” أو “قطعت قلبي بكلامك” وهذا الكلام ما هو إلا جهلٌ بيِّنٌ، وضلالٌ مبين. فأنت تعبِّرُ بالقلب ولا تفقه، فتلقى بكلماتٍ كالندى في يومٍ بلا غيم! ماذا أفعلُ بقلبك الذي هو معي مَعِيَّة كلام؟! وهذا الدين ليس بدين كلامٍ يُلقَى في الهواء بلا أساس. لوكان قلبك سليمًا لساندت أخاك ذاك في محنته بالفعل لا بالقول، ولأنفقت ما تملك في سبيل ذلك.

ولتفهم هذه النقطة جيدًا؛ جاء جابرُ بن عبد الله يومَ الخندق–وهو ابن سبع عشرة سنةً ونصف -إلى رسول الله ﷺ فقرأ في وجهه الجوع، فما سأله أجائعٌ أنت يا رسول الله، ولم يقل “قلبي بيتقطع عشانك”، إنما أسرع إلى بيته وقال لزوجته: قرأت في وجه رسول الله الجوع، فماذا عندك من الطعام؟ فأخرجَتْ إِليه جِرابًا فيه صاع من شعير، وكان لهم بُهَيمَة دَاجِن، فذَبَحتُها؛ وأعدت طعامًا ودعا رسول الله إليه.

نأتي لمن يقول بأن تحقيق أي من هذا صعبٌ، بل قد يرقى إلى الاستحالة، ولا يحضرني للرد على هذا إلا قول الكاتب: المقدرة تكون على قدر التكليف، فبما أنّ التكليف عظيمٌ فالمقدرةُ عظيمة أيضًا، ولكن لا تبصرون. وكما قال ابن القيم: القلب إنما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي تُسَيِّرُه.

واعلم أن الفراغ الحادث من خلو القلب من طيب المشاعر وصدق المعاني وجميل القيم والتعبير، لهو الفراغُ الحقيقيُ المؤلم.

بقلم: أحمد قابيل

ضيوف تبيان

يمكن للكتّاب والمدونين الضيوف إرسال مقالاتهم إلى موقع تبيان ليتم نشرها باسمهم في حال موافقة… المزيد »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى