تعميمات مخلة عن مجمل العصر العثماني
إلصاق صفات الضعف والجهل والدمار والركود بأقوى دولة في العالم!
وكما كان الانطباع الخاص بالتتريك مخلاً ” كما ذكرنا في المقال السابق 6 تعميمات مخلة تصف الدولة العثمانية بالإستعمار” فكذلك كانت الانطباعات الخاصة بالضعف والجهل والهزيمة والتراجع تعميمات نسيت أن الدولة العثمانية كانت “من أعظم الإمبراطوريات في التاريخ وأكبرها وأطولها عمراً”، وما من شك أنها كانت سنة 1500 “أقوى دول العالم ربما باستثناء الصين”، وقد أثرت في مستقبل وأوضاع دول عديدة في الشرق والغرب مثل دولة المماليك والدولة الصفوية، وإمبراطورية الهابسبيرغ وروسيا القيصرية إلى زوال الحكم الملكي فيهما في بداية القرن العشرين، وقامت أيضاً بدور في السياسة الدولية بعد تحولها إلى “قوة مرهوبة الجانب إلى درجة أن فيليب الثاني ملك إسبانيا دعا إلى حرب صليبية لإيقاف المد العثماني” كما يقول المؤرخ البريطاني الأمريكي دونالد كواترت، فقد سيطرت على ثلاثة بحار كبرى (الأبيض والأسود والأحمر) وما بينها من أراض، وأن ” العرب وجدوا أنفسهم جزءاً من أعظم وأقوى إمبراطورية إسلامية عُرفت منذ ظهور الإسلام وأنه يصح القول بأن الحكم العثماني حمى الأقطار العربية والإسلام من التعدي الخارجي قرابة أربعمائة سنة” وفقاً للمؤرخ العربي زين نور الدين زين والدكتور فهمي جدعان والدكتور أحمد شلبي، وأن هذه الدولة “أعظم إمبراطورية إسلامية في العالم في ذلك الوقت” في تقدير المؤرخ البريطاني يوجين روجان، ووصفها المؤرخ الفرنسي أندري كلو بأنها كانت “إمبراطورية الإمبراطوريات” في زمن السلطان سليمان القانوني ، وأنها كانت عند وفاته ليست الأقوى بعدتها وعددها عسكرياً وحسب، بل وبامتداد أراضيها، وبثروة عاهلها، وأيضاً بعدد سكانها الذي جعلها الأولى بين أمم أوروبا (35 مليوناً مقابل 5 ملايين لإنجلترا و7 ملايين لإسبانيا و12 مليوناً لإيطاليا و18 مليوناً لفرنسا) وجعل عاصمتها الأولى كذلك بين عواصم أوروبا ويزيد عدد سكانها بضعف على أكبر المدن الأوروبية، وتؤلف قلباً لشبكة “لا خلل فيها من إدارة وجيش لم يوجد أحسن منهما في ذلك العصر”.
ويصف المستشرق البريطاني الأمريكي الصهيوني برنارد لويس (*) حالها بالقول إنه قد “رافق توسع الإمبراطورية وقوتها العسكرية اقتصاد متين، وإدارة دقيقة، وثقافة غنية رفيعة.
الحضارة العثمانية
أصبحت إستنبول العاصمة الآخذة في التطور منذ عهد أسلاف سليمان “المدينة الأم” الواسعة المزدهرة، وبمثابة مغناطيس لأصحاب الطموح والمواهب، وازدحم فيها الشعراء، والعلماء، والفنانون والمهندسون، والإداريون، ورجال الدين من جميع أنحاء الإمبراطورية وما ورائها، وأسهم كل هؤلاء في إعطاء الحضارة العثمانية الجديدة طابعها المتميز الخاص، وبلغت هذه الحضارة في عهد سليمان وتحت رعايته الخاصة إلى حد كبير أرقى مدارجها وتحققت أعظم إنجازاتها… وظلت الإمبراطورية العثمانية بعد وفاة سليمان بأكثر من قرن قوة جبارة. وكانت قادرة في سنة 1683 أن تقوم بالحملة الثانية العظيمة على فيينا”، ويؤكد المؤرخ البريطاني بيتر مانسفيلد ذلك بالقول إن إسطنبول كانت “من أروع المدن في العالم وملتقى الحضارات الغربية والشرقية”، وهو ما يقوله أندري كلو أيضاً إذ أنها “أعظم مدينة في الشرق والغرب”، ويتابع مانسفيلد إن الدولة العثمانية ظلت بعد أوج مجدها زمن السلطان سليمان بأكثر من مائة وخمسين عاماً تالية “قوة عظيمة قادرة على أن تغرس الفزع والرهبة في نفوس الباباوات المتعاقبين، وفي أرجاء الولايات المسيحية لأوروبا الغربية خشية أن تقوم باجتياح تلك الولايات ثانية….وحتى عام 1683م ، لم يكن أحد في أوروبا ليصدق أن المسلمين لن يعودوا ثانية، وقد مر وقت طويل حتى اقتنع فيه الأوروبيون أن الخطر العثماني قد ولى إلى غير رجعة”، ويقول المؤرخ البريطاني بيري أندرسون إن “حمية وضخامة وبراعة قوات السلطان جعلتهم قوة لا تغلب في أوروبا لمدة مائتي عام” منذ فتح القسطنطينية.
وتصف موسوعة السياسة التي حررها المؤرخ القومي الدكتور عبد الوهاب الكيالي الدولة العثمانية بعد اندفاعها في الفتوحات بما يلي:
” وهكذا أصبحت الإمبراطورية العثمانية أوسع إمبراطورية أقامها المسلمون عبر تاريخهم الطويل وأولى الإمبراطوريات الإسلامية التي تنتقل بسلطة المسلمين من أطراف أوروبا إلى قلبها”
انتصارات الإمبراطورية العثمانية
ومما يؤكد حيوية هذه الدولة ومرونتها، قدرتها العجيبة على الخروج من أزمات عديدة تعرضت لها فاجتازتها وكأن شيئاً لم يكن، ومن ذلك الانتصار على الحلف الصليبي في كوسوفو (1389) رغم استشهاد السلطان مراد الأول، ثم الانتصار على صليبية جديدة في نيقوبوليس (1396)، واجتياز محنة الغزو المغولي الذي قاده تيمورلنك (1402) بعدما تمكن من تحطيم الدولة وأسر السلطان بايزيد الأول في معركة أنقرة ومرور الدولة بأكثر من عشر سنوات من التفتت حتى بعثت ثانية بقوة مذهلة على يد السلطان محمد الأول (1413) وتمكنت من استئناف مسيرتها لتفتح القسطنطينية (1453) وتحاصر فيينا مرتين (1529 و 1683)، كما اجتازت هزيمة ليبانتو (1571) التي سحقت الأسطول العثماني ولكنه تمكن من الانبعاث سريعاً وحافظت الدولة على سيادتها على البحار الأبيض والأسود والأحمر وعلى جزيرة قبرص التي استهدفها الحلف الصليبي وتمكنت أيضاً من القصاص لهزيمتها بفرض غرامة على البندقية والنيل من السواحل الإيطالية بعد المعركة، وبعد سنتين من تلك المعركة البحرية وصف تاجر بندقي الأسطول العثماني بقوله :”إن أسطول السلطان رهيب مثل جيشه”.
اقرأ أيضًا: ما لا تعرفه عن دور العثمانيين في الأندلس
الأسطول العثماني
وينقل الدكتور وهيب أبي فاضل عن المؤرخ روبرت مانتران قوله إن العثمانيين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر احتاجوا إلى أسطول يدافع عن مصالحهم في البحار الأبيض والأسود والأحمر أثناء صراعهم ضد البندقية وجنوى وإسبانيا والبرتغال والقراصنة، ولحماية التجارة العثمانية والربط بين أجزاء الإمبراطورية، ولهذه الأسباب قرر السلاطين “أن يعتمدوا طريقة في الحرب تختلف عن طريقتهم التقليدية ، أي أن يعتمدوا على تقنية أعدائهم البحرية، وتوصلوا إلى غايتهم بنجاح كبير، حتى تمكن الأسطول العثماني أن يسيطر على البحار…وساهم في ذلك أمران هما غنى السلطنة ثم الاعتماد على خبرة قراصنة البحر الذين اعتنقوا الإسلام وأبرزهم بربروسا الذي جعله السلطان سليمان قائد الأسطول الأعلى..” ، ويتحدث الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى عن دور اللاجئين اليهود من إسبانيا والمرتزقة الإيطاليين في تزويد العثمانيين بالبارود والبنادق والمدافع ومساعدتهم على استعمالها بمهارة. وفي الوقت الذي كان فيه بناء أسطول يقتضي وقتاً طويلاً وجهوداً مالية كبرى عند الغرب الأوروبي، كانت بضعة شهور كافية للعثمانيين “لوضع عدة مئات من السفن في الأحواض ودفعها إلى البحر”.
الاقتصاد العثماني
وعن الاقتصاد العثماني في الفترة ما بين منتصف القرن السادس عشر ومنتصف القرن الثامن عشر تقول المؤرخة ثريا فاروقي إن “الأقاليم العثمانية كانت تتمتع بالاكتفاء الذاتي في السلع الضرورية اليومية والمواد الحربية”، وإن الدولة كانت “لا تزال قادرة على الأداء بدون استيراد تلك البضائع الاستهلاكية التي يحتاج إليها غالبية السكان مثل الحبوب والمواد الغذائية الأخرى، وكان يتم تصنيع الحديد والنحاس والأقمشة وكل الأشياء اللازمة للاستعمال اليومي بكميات كافية داخل الأقاليم التابعة للسلطان، أما فيما يتعلق بالمواد الحربية فقد كان العثمانيون مكتفين ذاتياً إلى حد كبير”، وقد وصف المؤرخ فرنان بروديل البلاد التي حكمها السلاطين العثمانيون بأنها “اقتصاد عالمي” قائم بذاته بفضل السلام العثماني جزئياً وهو ما يعني أنها لم تكن وحدة سياسية فقط بل منطقة يسهل التبادل التجاري بين أقاليمها.
ويقول المؤرخ أندرسون إن الولايات الآسيوية في الدولة العثمانية شهدت “انتعاشاً وتقدماً ملحوظين أثناء ذروة الجبروت التركي في القرن السادس عشر، وفي حين بقيت الروملي (شرق أوروبا العثماني) المسرح الرئيس للحرب لجيوش السلطان، فإن الأناضول وسوريا ومصر تمتعت بفوائد السلام والوحدة اللذين حققهما الفتح العثماني في الشرق الأوسط، إن عدم الاستقرار، الناجم عن انحلال دول المماليك في المشرق، قد حلت محله إدارة مركزية قوية، قضت على قطاع الطرق ونشطت التجارة الداخلية، ووضع حد للركود الاقتصادي في سوريا ومصر، والناجم عن الغزو والطاعون في أواخر العصر الوسيط، ذلك بانتعاش الزراعة وزيادة السكان.. كان النمو السكاني ملحوظاً.. وازدهرت التجارة..”.
اقرأ أيضًا: بيري ريس: البحار العثماني الذي حيَّرت خرائطه العالم
المجتمع العثماني
ويتحدث كثير من المؤرخين بإعجاب عن القدرة العثمانية على استيعاب علوم وتقنيات عصرها بمرونة فائقة، كما مر عن برنارد لويس، مما يناقض صفات الجهل والركود والتخلف التي ألصقت بها، وفي ذلك يقول كواترت إن الدولة العثمانية “نجحت بفضل استيعابها للكثير من الأقوام والأعراق المختلفة والاستفادة من طاقاتهم واعتمدت عليهم في ترسيخ سلطة الدولة وهيبتها”، وإن المجتمع العثماني متعدد الأجناس والأديان يدين بنجاحه إلى هذه التعددية السكانية، وإن الهوية الإسلامية للعثمانيين بصفتهم مجاهدين في سبيل رفع راية الإسلام لم تمنعهم من استيعاب عناصر مسيحية من اليونان وبلغاريا وصربيا بل وغرب أوروبا في جيوشهم وفي ميادين أخرى، في الوقت الذي كان العثماني فيه يمثل “الآخر” و “المقابل” للأوروبيين والأمريكيين، وقد كان العثمانيون “يتمتعون بفضائل يحسدون عليها من وجهة نظر بعض المفكرين السياسيين أمثال مكيافيلي وبودان ومونتسكيو الذين امتدحوا في كتاباتهم استقامة وانضباط الموظفين العثمانيين من مدنيين وعسكريين”، وإن “عناية العثمانيين باستخدام الأسلحة النارية وتحديداً المدفعية كان له الفضل الأكبر في الانتصارات الكبرى التي حققوها في القرون الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر”، وإن تفوقهم في استخدام هذه الأسلحة منحهم سلاحاً ماضياً في حروبهم مع أن استعمالها كان يتطلب تدريباً طويلاً وانضباطاً غير مألوف في مفهوم الفروسية في العصور الوسطى.
قوة الإمبراطورية العثمانية
كما وصف المؤرخ الأمريكي زاكري كارابل الدولة العثمانية بأنها
“دامت قرابة 500 سنة، فكانت أطول الدول عمراً باستثناء عدد قليل من الأسر الحاكمة التي عرفها العالم”
ووصف المؤرخ البريطاني جاسون غودوين العثمانيين بأنهم “سادة الآفاق” وأن دولتهم كانت “أعجوبة في الحيوية، قوية جداً ومنظمة جداً، معجزة من معجزات العبقرية الإنسانية التي جعلت معاصريها يشعرون أنها مؤيدة بقوي غير بشرية، سواء شيطانية أو إلهية حسب وجهة نظر كل مراقب منهم”، وقد وصفها أحد معاصريها هو مؤرخ العثمانيين لدى الملكة إليزابيث الأولى الإنجليزي ريتشارد نولز في كتابه تاريخ الترك (1603) الذي صدر فيما بعد بإضافات السير بول رايكوت (1687): “في الوقت الحاضر، إذا اعتبرت قيام هذه الإمبراطورية العثمانية وتقدمها، فإنك لن تجد في هذا العالم أمراً يثير الإعجاب والدهشة أكثر مما تثيره هذه الإمبراطورية، وإذا اعتبرت عظمتها وشهرتها المتألقة فإنك لن تجد شيئا يضاهي هذه العظمة وهذا التألق، وإذا نظرت في قوتها ومضائها فإنك لن تجد ما يفوقها رهبة وخطراً…هذه الإمبراطورية التي تهزأ بالدنيا (المعادية) وترعد فتمطرها دماً وخراباً، وهي شديدة الاقتناع بأنها ستسود العالم بأسره، وبأنها هي التي ستضع حدوداً لملكها، ولن تكون هذه الحدود إلا أقاصي المعمورة من مشرق الشمس إلى مغربها”، وفي الزمن المعاصر وصفها المستشرق الفرنسي جان سوفاجيه بأنها ظلت طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر “دولة من أعظم دول الغرب وأقواها، إن لم نقل أعظمها وأقواها على الإطلاق.. فقد كانت مساحتها تبلغ بضعة ملايين من الكيلومترات المربعة، وكانت مصادر ميزانيتها أعظم وأثبت من مصادر أية دولة أوروبية أخرى بما في ذلك إسبانيا ومعادن الذهب فيها ،وكانت إدارتها الحكومية منظمة تنظيماً محكماً تهدف إلى توفير الخير العام ،وكانت تثق بولاء شعبها وإخلاصه لها. أما جيشها النظامي فقد كان أحسن الجيوش تدريباً وكانت مدفعيتها أحسن مدفعية تملكها أية دولة وكان أسطولها يسيطر على البحر الأبيض المتوسط كله ،فكان السلاطين يفرضون على الدول الأوروبية أن تحسب لدولة قوية كدولتهم حسابها..” كما جاء في كتابه مقدمة تاريخ الشرق الإسلامي (1943) ويؤيد مؤرخون آخرون هذا الكلام، وكثيراً ما وصف الجيش العثماني في أوروبا بأنه الجيش الذي لا يُقهر.
وتعزو المؤرخة نيللي حنا تهمة عدم التطور إلى رغبة الأوروبيين في أن يظهروا الفترات التي احتلوا فيها الشعوب بأنها كانت فترات ازدهار، فوصفوا مصر مثلاً بالتأخر زمن الدولة العثمانية “لإظهار أن الفترة اللاحقة، وهي الاحتلال الإنجليزي كانت أكثر ازدهاراً”، وترفض تلخيص الحقبة العثمانية بوصف مختصر كالازدهار أو الانحسار، وتقول إن الدولة العثمانية امتدت لأكثر من 600 سنة على مساحة واسعة وضمت أقواماً ينتمون لأكثر من عشرين ديانة تعايشت جنباً إلى جنب، وشهدت فترات عديدة من التطور الاقتصادي والازدهار الحرفي، كما شهدت فترات أخرى أزمات اقتصادية، وهذا هو حال كل الدول في التاريخ.
(*) تتميز بحوث المستشرق الصهيوني برنارد لويس عن الدولة العثمانية بكثير من الفوائد التي يمكن للباحث أن يستخلصها منها، وإذا عرف السبب بطل العجب، فهذا الموجه اليميني لسياسات المحافظين الجدد يتعامل مع التاريخ العثماني بصفته أثراً متحفياً زال الخطر من جهته، والمعروف أن الحضارة الغربية لا يضاهيها منافس في تسجيل الحقائق بعد انتهاء خطرها وفوات أوانها، أما موقفه الحقيقي من العالم الإسلامي المعاصر فيتجلى في تأييده المطلق بل توجيهه للسياسات الصهيونية للمحافظين الجدد الذين يتخذون منه أباً روحياً.