الأربعين الأخدودية
إليك أخي الكريم أربعون مقتطفاً انتقيتهم لك بتصرف؛ من كتاب «أصحاب الأخدود» لشيخنا الجليل رفاعي سرور رحمه الله رحمة واسعة وتقبَّله في الشهداء، والكتاب رغم صغر حجمه إلَّا أنَّه لاقى رواجًا كبيرًا، وما فتئت دور الطبع تطبعه منذ السبعينات وحتى وقتنا الحاضر، كما تُرجم إلى عدة لغات، وقد أحسن الله خاتمة الشيخ فقد كان يقرأ القرآن قبل صلاة العصر من مصحفه يستلهم منه العبر ويكتبها في ورقة بين يديه، ثم وُضِع له الغداء، فقال سأُصلي أولاً، ولما سمع الأذان ذهب فورًا إلى المسجد، وعندما توضأ فاضت روحه الطاهرة إلى ربها، وحين نظر من كان معه في مصحفه وجدوا آخر جملة كتبها: الطواغيت لا يؤثر فيهم الأفعال الرمزية ما داموا آمنين في قصورهم، فينبغي أن نُبايع لا على الجهاد، بل على الموت
وللقارئ أن يعلم أن شيخنا رفاعي سرور كتب كتاب «أصحاب الأخدود» وهو في عمر فتى القصة، مُتأثرًا بارتقاء الشهيد سيد قطب تقبلَّه الله، قال الشيخ رفاعي سرور “عندما بلغني خبر إعدام الشيخ سيد قطب أغلقت علي غرفتي وبكيت، وفي المساء سمعت جدتي بكائي فسألت والدتي عن السبب فأخبَرَتها أن أحد أصدقائي مات، فعلقت بكلمة صغيرة لكنها أثرت في بشدة، قالت جدتي: «وهل سيعيد البكاء من مات؟» فقمت أبحث عن شيء أفعله ووجدت أمامي القلم فكتبت «أصحاب الأخدود».
والقصة بها تجربة كاملة للدعوة من بداية الدعوة الفردية إلى مرحلة الإيمان الجماعي، متضمنة النقلة المرحلية الأساسية للدعوة من السرية إلى العلنية، فأصحاب الأخدود: وقف لازم في قراءة تاريخية للدعوة، ودرس تام في منهجها، وتجربة كاملة في واقعها، وهذا هو الطريق، فاقرأها وتمعن النظر فيها، وأنر بها دربك، وأسقطها على واقعك.
- بدأ الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم: «كان ملك فيمن كان قبلكم»: (دون ذكر للزمان والمكان) فتجريد أحداث هذه القصة هو الأساس التسجيلي لها، حيث يربط هذا الماضي بحاضر الدعوة في عهده بعد تجريدها إلى واقع الدعوة القائم الآن.
- حتمية المواجهة منذ البداية بين واقع الدعوة والسلطة الكافرة التي تسيطر على واقع الناس المراد تحقيق غاية الدعوة فيهم، فالعداء بين الدعاة إلى الحق وبين حكام الباطل؛ أمر بدهي مفروض من البداية.
- الدعوة تكون للحاكمين والمحكومين (كما كان صلى الله عليه وسلم يبعث إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وهو لا يزال في مرحلـة الاستضعاف)، وأي دعوة تحمل في الواقع الباطل؛ توجيهًا نظريًّا أو فكريًّا مجردًا لا يتضمن تقدير مواجهة هذا الباطل في قوته وسلطانه ستكون قتيلة بسنن الوجود وتُلفظ من واقع الناس.
- من الملوك من كان يفهم قصد الرسول صلى الله عليه وسلم مثل هرقل، ومنهم من كان لا يفهمه مثل كسرى، وكانت قريش من الذين لم يفهموا، فظنت أنه لا يريد إلا الحكم، فقالوا له (إن كنت تريد سيادة سودناك علينا) فرفض صلى الله عليه وسلم، لماذا؟!
- الحكم ضرورة في تصور الدعوة، ولكنه لن يأتي منحة من المغتصبين لـه ولن يتحقق بالمساومات الرخيصة، بل يجب أن يسترد بالجهاد والعمل؛ ليكون ولاية شرعية حقيقية وليس مجرد تسلط شخصي أو سيادة فردية دون إمكانيات القيام بالحكم والاستمرار فيه بعد الوصول إليه. (تأملها وأسقطها على واقعك!).
- يجب ألا يمنع الاستضعاف ضرورة المواجهة بين الدعوة والحكم الظالم، وليس في تلك المواجهة دون اعتبار للإمكانيات المادية أي تهور، ولهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن سيد الشهداء من يقوم إلى حاكم ظالم يأمره وينهاه، وهو يعلم أنه سيقتله.
- الحكم بكل أشكاله سيطرة على الواقع الإنساني فإما أن يكون الحكم سليمًا فيقوم على بناء كيان الإنسان وصيانته، فمن مصلحته أن يكون الإنسان الذي يواليه عاقلاً، وهذا هو الحكم الإسلامي، وإما أن يكون الحكم جاهليًّا فيقوم على تفتيت كيان الفرد وتشتيت كيان المجتمع، لأن الحكم الجاهلي لا يريد إلا السيطرة دائمًا ولو إلى الدمار، فمن مصلحته أن يكون الإنسان الذي يواليه غبيًّا جاهلاً.
- الشيطان يملك تجربة الوجود الإنساني كله من بدايته والتي يستطيع بها ربط الأجيال الجاهلية كلها جيلاً بعد جيل ليستهلك تلك الأجيال كلها باستمرار الفساد وبقائه، كما طلب الساحر غلامًا لكي يعلمه السحر.
- يجب أن نُدرك خطورة الوجود الجاهلي باعتباره وجودًا ممتدًا، فليس الامتداد تعاطفًا بين الأجيال، لأن الجيل الجاهلي مفتت ومشتت لا يمكن أن يتعاطف حتى مع نفسه! وليس هذا الامتداد (حتمية تاريخية) فالتاريخ وأحداثه لا يتحقق إلا بقدر الله وحده، والمسلمون وحدهم هم الذين يملكون بعقيدتهم وتصورهم سنن هذا القدر وأسباب تحقيقه وهم وحدهم أيضًا القادرون على إنهاء الوجود الجاهلي إذا التزموا بتلك السنن وأخذوا بهذه الأسباب.
- ضياع الفطرة وإفسادها في مناخ المجتمعات الظالمة، أشد ما يُحزِن المرء، فماذا لو نرى إنسانًا يضيع وفطرة تفسد، وماذا لو نرى إنسانًا قد مات على الكفر بعد أن وُلد على الفطرة، ولم نكن قدمنا لـه أسباب الهداية والحق؟!
- الداعية الحقيقي هو الذي يشعر بمسئوليته تجاه الفطرة الإنسانية وحمايتها من أي تأثير جاهلي، ويحس إحساسًا عميقًا بقيمة تلك الفطرة في واقع دعوته، وهذا ما قصده نوح عندما دعا بهلاك قومه.
- وقد جاء طلب الساحر – في رواية الترمذي- بعبارة: «انظروا إلي غلامًا فَهمًا أو قال: فَطِنًا لَقنًا فأُعلِّمه علمي» وهذا يكشف بُعدًا خطيرًا للخطة الجاهلية الرامية إلى إفساد الفطرة، وهي التركيز على النابهين المتفوقين أصحاب المواهب والقدرات الخاصة، لضمان السيطرة الجاهلية على الواقع البشري.
- طبيعة التلقي لهذا الدين هي التي تحدد طبيعة اعتناقه والالتزام به والدعوة إليه، والذين يتلقون هذا الدين على أنه بلاء، هم الذين يبقون إلى النهاية، وأخذ هذا الدين بقوة هو ضمان الاستمرار عليه.
- الحاسة السليمة للدعاة هي التي تكشف علة شكوى الأتباع وتعالج شكواهم، وهذا واجب تفرضه الدعوة على الدعاة ليمهدوا الطريق أمام من يستجيب لهم، وتمهيد طريق الدعوة أمام السالكين لـه.
- التصرف التلقائي عندما يواجه الداعية موقفًا خطيرًا أو حدثًا هائلاً فيذهب متلهفًا إلى من تلقى منه منهج الدعوة ليسمع منه تفسير هذا الموقف بتصور الدعوة.
- قول الراهب للغلام «أي بني أنت اليوم أفضل مني» هو موقف فاصل في حياة كل داعية، فقد تُخفي الدعوة في الإنسان الذي يمارسها حبًّا خفيًّا للتميز، باعتبار أن هذه الممارسة صورة من صور تميزه على الناس، ولكن الراهب كان تقيًّا نقيًّا.
- الراهب المعلم كان أصيلاً إذ أخبر الغلام أنه قد أصبح أفضل منه بلا حرج، ومن أين سيأتيه الحرج وقد خلصت نفسه لله تبارك وتعالى؟ ولهذا يفتح الطريق لمن يظن أنه يملك خدمة الدعوة أكثر منه.
- لما ذكر الراهب للغلام ميزته أتبعها بالمسئولية التي تقع عليه، وهذا في الواقع حماية للإنسان من الغرور؛ فشعور المرء بميزاته ينحرف به إلى الغرور، ولهذا لما قال الراهب للغلام: «إنك اليوم أفضل مني» قال لـه: «وإنك ستبتلى».
- السرية في منهج الحركة يُعطي بها الدعاة لأنفسهم فرصة لتجميع الطاقات وحشد الإمكانيات، وهي ضرورة تنشئها ظروف الدعوة وتتحدد ضرورتها بمنهجية الفكر وواقعية الأسلوب الشجاع.
- السرية مرحلة أساسية في تاريخ الدعوة منذ بدايتها؛ فهذا نوح أول رسول لأهل الأرض أسرَّ لقومه إسراراً، وتظهر قيمتها أيضًا في قصة موسى عليه السلام وحمايته من فرعون، وأيضًا مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، بل وزوجة فرعون رغم خطورة الأسرار في العلاقات الزوجية.
- ولم يبق الغلام في مرحلة السرية؛ لأنه لو فعل ذلك لأفقد الدعوة إمكانية التأثير العلني.
- المعجزة لم تكن خارقة كونية فحسب ولكنها كانت أيضًا منفعة مادية، لكي يعلم من يمارس الدعوة بعد الأنبياء أن الإقناع مهما بلغت إمكانياته لا يكفي دون تقديم الخير للناس، ليكون الإقناع بالعقل في الدعوة مع تأليف القلوب بالحب لها، وأن نطاق الدعوة لن يتعدى نطاق المنافع التي يؤلف بها هؤلاء الدعاة قلوب الناس.
- لما كان الغلام من أمة عيسى عليه السلام كانت كرامته من جنس معجزة نبيه فكان يُبرئ الأكمه والأبرص ويُداوي الناس من سائر الأدواء.
- يجب أن ترتبط المنفعة المقدمة بالعقيدة المعروضة، وهذا الارتباط هو الذي سيعطي لتلك العقيدة قيمتها في نفوس الناس كما فعل الغلام مع جليس الملك وكما فعل يوسف -عليه السلام- مع صاحبي السجن.
- يجب أن يعلم الدعاة أن التعامل مع الإنسان بصورة صحيحة هو الذي سيعطي للكلمة في الدعوة الإسلامية قيمتها ويحقق أثرها؛ ولذلك نلاحظ أن الغلام لم ينطق في تبليغه لقضية الدعوة إلا بثلاث عبارات في القصة كلها، قوله:(إنما يشفي الله) وقوله: (كفانيهم الله) وقوله: (وأن تقول: باسم الله رب الغلام) ولكن هذه العبارات الثلاث تُمثل في الحقيقة ثلاث نقاط في خط واحد، وهو خط الإثبات العقيدي لقضايا الدعوة من خلال الواقع.
- موقف الغلام عندما دلَّ على الراهب ليس خيانة ولا عمالة، ولكنها الطاقة البشرية المحدودة، ولا يكون هذا إلا بعد بلوغ حد الاستطاعة في الصبر والتحمل والثبات، وهذا هو الحد الفاصل بين أن يكون المتكلم في محنة التعذيب معذورًا أو مقصرًا، وواجب الجماعة في ذلك الموقف الإعذار والعون.
- بلوغ حد الاستطاعة في الثبات والتحمل، لا يكون إلا بمعرفة إمكانية المواجهة الصحيحة لمحنة التعذيب، وأهم عناصر هذه الإمكانية هي دخول المحنة بالعزم المسبق على مقاومة الانهيار.
- إذا وصل الفرد الممتحن إلى مرحلة الانهيار، فيجب ألا يتوقف عن مقاومة الوصول إلى مرحلة الانهيار النهائي، والمقاومة الدائمة هي أكبر إمكانيات المواجهة.
- أساليب التعذيب لا تتجاوز في مجموعها غرض سلب الإرادة، وأخطرها الإهانة النفسية، ومن هنا فإن الشعور بالاستعلاء والعزة من أهم موانع فقد الإرادة والانهيار.
- ما بين التوكل الذي ندخل به المحنة، والرضا بالقدر الذي نخرج به منها، تكون ضرورة التفكير العملي للمحافظة على واقع الدعوة في المرحلة السرية، وعدم الارتكاز في ذلك بصفة كلية على إيمان الأتباع.
- الملك كان حريصًا على أن يرتد الراهب والجليس قبل أن يقتلهما، لأن ارتدادهما قتل للدعوة، وقتلهما حياة لها، ولهذا لم يقتلهما إلا بعد أن عرض عليهما الدعوة ويئس من الاستجابة.
- المساومة مع أصحاب الدعوة لا يتناسب مع الإرادة السياسية العليا، ولكن الجاهلية عندما ترغب في المساومة، فإنها توكل بها مجهول يساوم خفية، لكي لا يؤثر على مهابة الدولة، أما القتل والتعذيب فهو الأمر الذي يتفق مع تلك المهابة بل يزيدها.
- وليست الحياة هدفاً يحرص عليه الدعاة إلا من خلال كونها ضرورة من ضرورات الدعوة، سواء أكان تحقيق هذه الضرورة يتطلب الحرص على الحياة أو الحرص على الموت، لذلك عاد الغلام إلى الملك بعد أن نجاه الله.
- والذين يُفسرون مصلحة الدعوة بالحرص على حياة الدعاة فحسب، هم أصحاب التصور الناقص الذي لا يعدو أن يكون فلسفة للجبن أو للارتداد عن سبيل الله.
- والذين يندفعون إلى الموت برغبتهم النفسية دون اعتبار لمصلحة الدعوة، إنما يبددون بذلك الاندفاع والتهور طاقة الدعوة وإمكانياتها.
- الجبن هو عدم الاستعداد للتضحية، والتهور هو التضحية بلا ضرورة أو منفعة.
- ولقد حرص الغلام على إنهاء هذا الادعاء في ذلك الموقف، لأنه الموقف الأخير الذي يجب أن ينتهي معه هذا الادعاء الفظيع.
- بدأ الغلام أوامره بأن يجمع الناس في صعيد واحد؛ لأنه يعلم أن مثل هؤلاء الحكام يخفون الحقائق التي تفيد الناس وتساعدهم على الإيمان ومعرفة الحق.
- ففي لحظة الانطلاق من قيود الوهم والجهل، وفي لحظة العزة بعد القهر والذل، وفي لحظة القوة بعد الوهن والضعف؛ يؤمن الناس.
- وتبقى مشاهد العذاب وأخاديد النيران بشررها المتطاير ولهيبها ترتفع ألسنته بأجساد المؤمنين الطاهرة، ويبقى أثر تلك النار في قلب كل مؤمن استضعافًا في الأرض وجاهلية في الحياة ترتفع ألسنتها كلما استشهد شهيد في سبيل تلك الدعوة من أجل التمكين لها في الأرض وهذه الحياة.
وفي ذلك جاء قول الله تعالى: “وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) [ البروج].
مقال ماتع، جزاك الله خيرا ووفقك للمزيد
ورحم الله العلامة رفاعي سرور فقد افتقدناه كثيرا.
سبحان الله هذا الفهم لا يفقهه دعاة قد تجاوزوا الخمسين من العمر
فكيف لشاب عمره 18 عاما أن يكتب هذا الكتاب ويفهم هذا الفهم
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء