الفلوجة.. قصة لن تنتهي بالسقوط

منذ عرفت الأرض بنيانها والتاريخ يسطر أحداثها والأمثال تضرب لأمجادها.. هي مدينة عنوانها الصمود ومصيرها المواجهة بين الحق وألوان الباطل، بين عباد مسلمين أحرار وعبيد كافرين أشرار، إنها مدينة أبت إلا أن تشغل صفحات الماضي بسجل ثقيل من الدماء والتضحيات والمواقف المشرفة. هكذا تميّزت “الفلوجة” بعزة وإباء في كل نازلة، محتفظة لنفسها بذاك البقاء والاستمرارية بهويتها الإسلامية، ولتصبح اليوم ثالث أكبر المدن السنيّة في العراق، والتي رغم ما حفرته المعارك في آثارها وما صنعته جحافل الأعداء في معالمها، إلا أنها تزدان بطبيعة خلابة هادئة، يخترقها نهر الفرات العتيق، ليجرف معها تلك الذكريات المؤلمة التي تظهر مع كل محطة في تاريخ زمن لا زال ينسدل.

هي المدينة التي أبت بكل ما تملك من قوة الاستسلام للقوات الأمريكية المعتدية بعد أن اجتاحت أراضي العراق بترسانتها العسكرية المتضخمة، ولم تتمكن إلا من التورط في وحل ترابها بعد سير الدبابات على جثث أبنائها الذين لم يسلموها إلا بثمن أرواحهم، اليوم “الفلوجة” تجدد تاريخ الصمود المضرج بالدماء بعد أن دخلت فى حربها الثالثة مع إعلان رئيس الوزراء العراقي الرافضي حيدر العبادي مؤخرا بدء عمليات ما يمسى “تحرير” مدينة الفلوجة المستعصية.

الفلوجة قبل الإسلام مدينة مهمة

مدينة الفلوجة

الفَلُّوجَةُ هو اسمها الحديث ويعني الأَرض المُصْلَحَةُ لِلزَّرْع حيث تتفلج تربتها حين يمسها ماء السماء عن خيرات الأرض، بينما عرفت أسماء أخرى قديمة مثل اسم «هوكست ديزه» (أي الحصن البعيد)، وبعد أن استولى عليها الرومان تسمت بـ «المدينة الوسطى» ثم بعد أن فتحها سابور، سماها بمدينة (سابور المنتصر). وهكذا، على امتداد ستة قرون، بقيت الفلوجة المدينة المهمة التي لا بد من الظفر بها خلال الحروب الفارسية – الرومانية.

الفلوجة بعد الفتح الإسلامي

وحين أطل الفتح الإسلامي على بلاد ما بين النهرين في القرن السابع الميلادي، دخل الإسلام ديار الفلوجة، وقد كانت قريبة من مدينة الأنبار القديمة التي فتحها خالد بن الوليد رضي الله عنه عام 12 هجرية الموافق لـ 633 م، في عهد الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والأنبار هي عاصمة العباسيين الأولى قبل تشييد أبي جعفر المنصور عاصمته بغداد، وقد تحولت الفلوجة مع الوقت لمدينة استراتيجية لأنها كانت المحطة الرئيسية الذي تتوقف عندها القوافل المتجهة من مناطق الصحراء العربية إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط. ولأنها كانت غنية بالموارد المائية، غدت أرضها موقعًا مثاليًا للنشاط الزراعي.

وفي عام 1941م، إبان الانتداب البريطاني الذي فُرض على العراق، بعد أن احتلته القوات البريطانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى وفصله عن سلطان الدولة العثمانية، حاولت هذه القوات دخول الفلوجة لتأديب المقاومة هناك، فواجهت دفاعًا مستبسلًا وشرسًا من أهلها وهزمت بالمدينة فكانت صفحات من الصمود.

وخلال فترة الحكم البعثي، ورغم تمركز البعثيين في الفلوجة إلا أن هذا لم يمنع من قيام بعض الحركات ضد حكم الرئيس السابق صدام حسين كحركة محمد مظلوم الدليمي في التسعينات والتي انتهت بقمعها وإعدام قادتها ومواجهات واسعة في الرمادي.

لماذا تزعج الفلوجة الرافضة؟

تقع الفلوجة في ما يعرف باسم «المثلث السني» الذي هو عبارة على رقعة من أرض، في غرب العراق وشمال غربه، قدمت الجزء الأكبر من النخبة العسكرية العراقية منذ حكم العثمانيين وتعتبر حامية عسكرية بارزة وحيوية. لقد اشتهرت الفلوجة باستعصائها على الغزاة وبصفة الدفاع عن النفس، عززه شخصية الفلوجة الدينية، إذ تعد المدينة أكبر نقطة تجمع لأهل السنة منذ القرن التاسع عشر ولهذا يحرص الرافضة على إسقاطها ومن قبلهم الأمريكان.

اقرأ أيضًا: بعيدًا عن أخبار الفن والكرة… هذا ما يحدث في الفلوجة على أيدي الرافضة

إباء الفلوجة إبان الغزو الأمريكي الأول للعراقNB-111998-635724461206120539

في غزو العراق الأول عام 2003، قصفت الفلوجة بالصواريخ التي لم تميّز المدني من العسكري، بل كان أول استهداف لسوق شعبي مفتوح بداخلها أسفر عن مقتل نحو 150 من المدنيين الأبرياء. فضلًا عن اغتصاب القوات الأمريكية لمباني في المدينة لاتخاذها مقرات لجنودهم، الأمر الذي أدى إلى توالي موجات الإستنكار من الأهالي، بشكل أزعج الأمريكان.

ومنذ ذلك الحين والفلوجة تمثل مسرحًا للمظاهرات شبه اليومية التي تندد بالغزو الأجنبي حتى غدت مركزًا رئيسيًا للمعارضة التي تأسست ضد التحالف الغربي. وبفضل الموقع الجغرافي للفلوجة تمكن المقاومون من شن حروب عصابات ضد الجيوش الغازية، فالمدينة تحيط بها بساتين نخيل كثيفة ومزارع، كما أنها بنيت على ضفتي نهر الفرات، مما يعني إمكانية التحرك عن طريق النهر دخولاً وخروجًا دون أن ننسى الطبيعة الطينية لأرض المدينة التي تجعل من الصعب على المعدات العسكرية التوغل فيها بسهولة. وتتميز الفلوجة بمتاهات من الأزقة والشوارع الضيقة التي تعج بأعداد هائلة من الناس الذين يعيشون في مساكن صغيرة نسبيًا.

الفلوجة في قلب المعارك

معركة الفلوجة الأولى

اندلعت معركة الفلوجة الأولى عام 2003 على إثر قيام مقاومين بقتل أربعة من عناصر شركة “بلاك ووتر” الأميركية، وسحل جثثهم وتعليقها. وقد فشل الأميركيون في اقتحام المدينة في تلك السنة وتكبدوا خسائر فادحة، إلا أنهم صبّوا جلّ غضبهم في القصف العشوائي، ورغم سقوط عدد كبير من المسلمين فيه، لم تستسلم المدينة ولم تسقط.

وتكبد الجيش الأمريكي في هذا المعركة خسائر جسيمة لم تكن في الحسبان، دفعت الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن أن يعلق بأسى قائلًا: (لقد واجهت قواتنا أسبوعًا قاسيًا. وأنا أصلي كل يوم من أجل أن تتراجع الخسائر) ولا زال الأمريكيون يذكرون تاريخ 2 أكتوبر 2003 الذي أسقط فيه المقاومون مروحية شينوك أمريكية في الفلوجة – ضاحية الكرمة مما أدى إلى مقتل 16 جندي أمريكي وجرح 26 أخرىن.

لقد سطرت معركة الفلوجة الأولى صفحة صمود رائع في تاريخ العراق بينما كانت للأمريكيين صفحة عار لا يُنس.

معركة الفلوجة الثانية

القنابل الفسفورية على أهل الفالوجة
القنابل الفسفورية.

بعد فشل الأمريكيين في معركة الفلوجة الأولى جاءت معركة الفلوجة الثانية والتي وقعت في الفترة ما بين 7 نوفمبر، و23 ديسمبر 2004، حيث دفع الفشل الأول بالأمريكيين إلى جعل معركتهم التالية الأشرس، فضاعفت القوات الأمريكية تعزيزاتها 7 أضعاف عن المعـركة الأولى، وبلغت أعداد جنودها أكثر من 15 ألف جندي، مقابل حوالي 1000 مقاتل فقط كانوا متحصنين داخل المدينة فضلًا عن استخدام الأميركيين لأسلحة محرمة دوليًا والدفع في الصفوف الأولى بقوات الجيش العراقي ذي الأغلبية الشيعية سعيًا منهم لإخماد أي صوت للمقاومة هناك.

شرعت القوات الأمريكية بقطع تيار الكهرباء والمياه عن المدينة وبقصف شرس مدة خمسة أشهر متواصلة منذ شهر أيار 2004 إلى بداية الهجوم في نهاية عام 2004. وركزت على المستشفيات والمراكز الطبية. ويجدر الإشارة إلى أن القوات الأمريكية كانت قد عجزت عن اقتحام المدينة بعد عدة محاولات لاختراقها من جهاتها الأربع وبقيت تحاول أكثر من 7 أشهر دون جدوى أمام المقاومة الباسلة لأهالي الفلوجة، مما دفعها إلى الإستعانة بطائرات B52 العملاقة وقاذفات من أحدث طراز، ليصل القصف إلى ذروته الوحشية باستخدام الأسلحة الكيماوية، والفسفور الأبيض، والقنابل العنقودية، والقنابل فائقة الوزن وقنابل النابالم شديدة الاحتراق مما أدى إلى مقتل العديد من المدنيين ونزوح الآلاف فضلًا عن تدمير المباني والمساجد وبيوت الأهالي.

لقد استعملت أبشع الأسلحة في الفلوجة، حتى ظهرت تشوهات في المواليد الجدد، مما دفع بأستاذ السموم البيئية في جامعة ليدز البريطانية بمطالبة قوات التحالف الغربي بكشف طبيعة الأسلحة التي استخدمت في الفلوجة والتي تسببت في حدوث هذه التشوهات للمواليد الجدد بالمدينة.

ويرجع مراقبون تأخر القوات الأمريكية في حسم معركة الفلوجة الثانية من جهة للمقاومة الشرسة، ومن جهة لخشية الأمريكيين من ارتفاع أعداد قتلاهم وخسارتهم البشرية والعسكرية وخاصة الإعلامية التي يحرصون على إخفائها عن أمتهم خشية استذكار أيام فيتنام، وفي الواقع فإن مشروعهم لغزو العراق تفاجأ بحقائق لم تكن في الحسبان، ألا وهي مقاومة هذا الشعب المسلم للغزو الأمريكي.

صمود الفلوجة كلّف الأمريكان حينها 500 قتيل أمريكي حسب مصادرهم الرسمية، فضلًا عن سقوط ما يقرب من 2000 من المرتزقة الخدم للجيش الأمريكي.

تقدم الجيش الغازي للفلوجة الصامدة بعد استنفاذ جميع الوسائل الوحشية في مقدمته الجيش العراقي ذو الأغلبية الشيعية، والبشمركة الذين وُعدوا بدولة كردية تُقام في الشمال، ثم انتهت المعركة بدك المدينة دكًا بجميع أنواع الأسلحة المحللة والمحرّمة، فهدمت البيوت، والمساجد، وقصفت بأسلحة فظيعة ولا زالت صور القتلى الغريبة تأبى أن تنمحي من الذاكرة منذ ذلك الحين.

لقد دخل الأمريكان الفلوجة ولكن بعد أن دمروا 90% من مرافق وبنايات المدينة. ورغم  دخول القوات الأمريكية للمدينة الصامدة إلا أن المعارك لم تتوقف بل استمرت المقاومة المسلحة في مواجهة الأميركيين مما كلّفهم الأثمان الباهظة. ومع أن الأمريكيون ضخوا جهودًا مضاعفة للسيطرة على الفلوجة وتسليمها للحكومة الرافضية في العراق برئاسة المالكي، إلا أنها في الأخير خرجت عن سيطرة هذه الحكومة في الأول من يناير عام 2014 على يد أبناء العشائر المنتفضين بوجه المالكي.

اقرأ أيضًا: ما لا تعرفه عن جرائم الجيش الأمريكي في معركتي الفلوجة

معركة الفلوجة الثالثة

في 23 مايو/أيار 2016، بدأت عشرات الآلاف من قوات الأمن العراقية الرافضية وعناصر الحشد الشعبي الرافضي عملية جديدة لاحتلال الفلوجة كانت بدايتها قصف مكثف عشوائي أودى بحياة الكثير من سكانها و أخضعت الفلوجة إلى حصار جديد محكم، تمهيدًا لاقتحام المدينة.

وبحسب تقارير صحافية ميدانية فإن معركة الفلوجة الأخيرة صنفت على أنها الأكبر في الكُلفة البشرية في كل المعارك المعاصرة، بمعدل 70 قتيلًا في اليوم الواحد!

وهذا يعكس الأسلوب العسكري الذي ينتهجه الإيرانيون في حربهم والذي يعتمد على تكثيف الهجوم بحشد بشري كبير غير مدرب جيدًا -دون الاهتمام بالخسائر في الأرواح– حتى يتم التمهيد للقوات الخاصة المدربة لتتمكن من الدخول لإنهاء المعركة لصالحهم!

ولا شك أن معركة الفلوجة الأخيرة مصيرية في تاريخ الرافضة في العراق، فهي تحدٍ حقيقي دفعهم للضخ بكل ما يملكون لأجل إحكام قبضتهم على مدينة الصمود، مدينة المساجد، مركز مقاومة أهل السنة في العراق، ومما يدل على أهميته، مقتل شقيق أحمدي نجاد رئيس إيران في المعارك الضارية التي تشتعل هناك والذي شارك بنفسه فيها باعتبارها فارقة بالنسبة لإيران.

هذه المعركة الثالثة لا تقل بطولة عما سبقها من معارك، فصمودها وصف بالأسطوري، حصار محكم وقصف مستمر كشف نفاق المجتمع الدولي الذي يدعي حفظ حقوق الإنسان بينما يشارك في قصف الأطفال والنساء ولا تحرك معه صور القتلى البشعة أي ضمير إنساني.

الفارق بين معركتي الفلوجة الأولى والثانية والمعركة الحالية

منذ أسابيع يقوم عشرات الآلاف من الجيش العراقي الرافضي بحملة مسعورة لاستعادة فلوجة الصمود، يرافقه الحشد الشعبي الرافضي والدعم الإيراني العسكري والمادي، دون أن ننسى الغطاء الجوي الأمريكي الواسع، في مشهد يشبه معركتي الفلوجة الأولى والثانية مع فارق بسيط، هو تنحي الأمريكيين عن المواجهة المباشرة وفتح المجال لمن رخصت دماء أبنائهم (الرافضة) ليكونوا وكلاءهم في هذه الحرب مقابل غنيمة الأرض وقمع أهل السنة في العراق.

سر صمود المقاومة في وجه الاحتلال الأمريكي

قد يتساءل سائل كيف يمكن لترسانة عسكرية مهيبة للأمريكيين أن تتعثر أمام بعض المقاومين بأسلحة بسيطة؟!

والجواب على هذا السؤال يلخصه الخبراء العسكريون في أن أي ترسانة عسكرية ضخمة ستكون شبه عاطلة أمام حرب عصابات قائمة على التنظيم المحكم ونصب الكمائن واللجوء إلى تقنية الكر والفر والهجمات الخاطفة، ولا يسع الجيش الأمريكي إلا القصف العشوائي الذي يطال غالبًا المدنيين والذي يفقده أي دعم شعبي مما يقوي حاضنة المقاومين ويضعف موقف القوى الغازية غير المرحب بها وباختصار يضطره لإسقاط قناع النفاق الدولي باسم الحريات وحقوق الإنسان.

قصة لن تنتهي

نعم لقد اجتاحت قوات الرافضة الفلوجة بعد خسائر مهولة في صفوفها، ورغم إعلانها السقوط الكامل للمدينة قبل أن تسيطر على 50% منها إلا أن تاريخ الفلوجة ومعاركها السابقة مع الأمريكيين لابد أن تكون عبرة للغزو الرافضي-الأمريكي الجديد، فلا يمكن لمدينة الصمود إلا الانتفاضة من جديد على الظلم والعدوان ومن شبّ على شيء شاب عليه، فعلى الرافضة ألا يستعجلوا الفرح وليتعظوا من فرحة الأمريكان التي لم تكتمل أبدًا وأن ينتظروا تلك الأيام التي يداولها الله بين النّاس وليعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى