محطات بين الشبهة والشهوة (1)

“الشبهة” و”الشهوة”، هما أصلا الشّرّ في الوجود الإنساني، وهما من أمراض القلوب الخطيرة، اللذان ينافيان الخشية من الله تعالى، لذلك قال بعض العلماء: “أفضل الناس من لم تفسد الشهوة دينه، ولم تزل الشبهة يقينه”.

والشُّبْهَة في اللغة هي: الالتباس والاختلاط، وشُبِّهَ عليه الأَمْرُ تَشْبيهًا: لُبِّسَ عليه، وجمعها شُبَه وشُبُهات.

وفي الاصطلاح: التباس الحق بالباطل واختلاطه حتى لا يتبيَّن، وقال بعضهم: هي ما يشبه الثابت وليس بثابت، وقال الأخفش في الاختيارين: وإنما سميت الشبهة شبهة، لأنها تشبه الحق والباطل، ليست بحق واضح، ولا باطل لا شك فيه، فهي بين ذلك.

وقد عرفها ابن القيم رحمه الله فقال: “الشُّبْهَة: وَارِد يرد على الْقلب يحول بَينه وَبَين انكشاف الحق” (مفتاح دار السعادة).

أما الشهوة فهي تقديم الهوى على طاعة الله ومرضاته، كمن يقع في العشق المحرم، ومن يتلذذ بشرب المسكرات، أو يجمع الأموال بالربا .. يقول ابن القيم: “دخل الناس النار من ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثت شكا في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته، وباب غضب أورث العدوان على خلقه.” (الفوائد).

ومرض الشبهة والشهوة، كلاهما مذكور في القرآن، قال تعالى: “فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ” فهذا مرض الشهوة، وقال تعالى: “فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً”

وقال تعالى: “وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ”  فهذا مرض الشبهة، وهو أشد من مرض الشهوة، ففتنة الشُّبْهَة أخطر؛ لأنها إذا تمكنت في القلب قلَّ أن ينجو منها أحد، لاعتقاده أنه على الصواب والمخالف هو المخطئ، ولذا قال ابن تيمية رحمه الله: “وإتباع الأهواء في الديانات أعظم من إتباع الأهواء في الشهوات”.

إن الشبهة يتدين بها صاحبها، وتبقى في نفسه، وتترسخ في فكره وقناعته، بخلاف الشهوة التي تطرأ وتزول، ويقر مقترفها في خاصة نفسه بقبحها وحرمتها، ولكن غلبه هواه ونفسه الأمارة بالسوء، وهو قد يندم ويتوب ويستغفر ويأتي بالحسنات المكفرة .. الصلاة إلى الصلاة مكفرات، رمضان إلى رمضان مكفرات، العمرة مكفرة، الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.

وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: “القلب يتوارده جيشان من الْبَاطِل: جَيش شهوات الغي، وجيش شُبُهَات الْبَاطِل، فأيما قلب صغا إليها وركن إليها تشربها وامتلأ بهَا، فينضح لِسَانه وجوارحه بموجبها، فَإِن اشرب شُبُهَات الْبَاطِل تَفَجَّرَتْ على لِسَانه الشكوك والشُّبُهَات والإيرادات، فيظن الْجَاهِل أن ذَلِك لسعة علمه، وَإِنَّمَا ذَلِك من عدم علمه ويقينه” (مفتاح دار السعادة).

قال أهل العلم: “واجتماع الشهوة مع الشبهة يقوي الدافع إلى الشبهة ويورث فساد العلم والفهم، لأن العقل الصريح لا يمكن أن يناقض النقل الصحيح أبداً، وهذه قاعدة مضطردة .. كل عقلٍ صريح فإنه لا يمكن أن يخالف النقل الصحيح في الكتاب والسنة”.

(العقل الصريح): يعني الخالص من داءين عظيمين هما الشبهة والشهوة .. الشبهة ألا يكون عنده علم، والشهوة ألا يكون له إرادةٌ صالحة، لأن كل الانحرافات عن الحق لا تخرج عن أحد هذين السببين:

وهما الشبهة والشهوة، إما جهل وإما سوء إرادة.

ومن أمثلة مرض الشبهة، قوله جل وعلا: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ”.

يقول الشيخ محمد الحسن الددو: جبهة الشيطان لها جيشان، أحدهما: جيش الشهوات، والآخر: جيش الشبهات، والناس مقسمون بين هذين الجيشين، منهم أسارى الشهوات، ومنهم أسارى الشبهات، فالمأسورون بالشهوة ينقسمون إلى قسمين؛ لأن الشهوة نفسها تنقسم إلى قسمين: إلى شهوة حسية وشهوة معنوية، فالشهوة الحسية كشهوة البطن والفرج، والشهوة المعنوية كحب الرئاسة وحب الانتقام وحب الشهرة والظهور وغير ذلك.

والشبهة كذلك تنقسم إلى قسمين: شبهة في التعامل مع الله، وشبهة في التعامل مع الناس، فالشبهة في التعامل مع الله تنقسم إلى قسمين: شبهة عقدية تتعلق بالتصور والعلم، يلقيها الشيطان للإنسان، ولا يزال الشيطان بابن آدم يقول له: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول له: فمن خلق الله؟! فهذه شبهات الشيطان في المجال العقدي.

والشبهة الثانية في التعامل مع الله: الشبهة في التعامل معه في العبادة، فما يصيب الناس من الوسواس في الطهارة وفي الصلاة، وكذلك ما يعرض لهم من شُبه الأعذار عن الازدياد من الخير؛ هي من شبهات الإنسان التي تحول بينه وبين الازدياد من الطاعة قبل أن يفوت الأوان.

والنوع الثاني من أنواع الشبهات: الشبهات في التعامل مع الناس، وهي تنقسم إلى قسمين؛ لأن الإنسان فيها بين إفراط وتفريط: فالنوع الأول من الشبه في التعامل مع الناس: شبهة الإفراط؛ فيقدس الناس ويحترم بعضهم احتراماً كبيراً، حتى يضفي عليهم صفة من صفات الإلهية أو يعتبرهم بمثابة معصومين، ويستسلم بين يديهم حتى يكون كالميت بين يدي غاسل، وهذه لاشك مبالغة، فالإنسان يقدَّر ولا يقدس، وهو عرضة للقبول والرد، يمكن أن تحسن خاتمته ويمكن أن تسوء.

والنوع الثاني من الشبه في التعامل مع الناس: هو شبهة التفريط؛ بأن يظن الإنسان بالناس ظن السوء، فهذا يتهمه بالشرك، وهذا يتهمه بالبدعة، وهذا يتهمه بالفسوق، وهذا يتهمه بالتقصير، وهو دائماً مقوم للناس، قد شغل وقته بتقويم الآخرين، وكل ما له من الاهتمام هو في مستويات الناس، وهذا النوع على خطر عظيم، ولذلك فقد أخرج مالك في الموطأ “أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله، ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية”.

د. خالد النجار

طبيب وكاتب، أعمل كاتبا منذ عشرين عاما في مختلف المجلات والصحف العربية والإسلامية، ولي مجموعة… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى