أُمَمٌ أَمْثَالُكُم: عَالَمُ الجن نموذجًا
ممّا يدل على قدرة الله سبحانه وتعالى وعظم سلطانه، هذا الخلق الكثير المختلف: من ماء وسماء، وأرض ودواب وجبال راسيات، ومن الجن ومن الإنس، ومن كائنات حية متنوعة لربها مسبّحات، فجعل لكل منها موطنًا وسكنًا إنه عزيز حكيم، قال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء: 30].
وقال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الرعد: 3]. وقال تعالى: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [هود: 6]. قال ابن كثير رحمه الله: (تقدسه السموات السبع والأرض ومن فيهن-أي من المخلوقات-وتنزهه وتعظمه وتبجله وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وإلهيته).
ففي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
عالم الجن
إن من أعظم هذه الدّلائل أنه سبحانه خلق عالمًا آخر محجوبًا لا نراه ولا نسمعه، ولكن أخبرنا عنه في كتابه العزيز، إنه عالم الجن. قال الله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) [الرحمن: 33]. وقال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56], وسُمِّي الجن بهذا الاسم لاجتنانهم أي استتارهم من العيون، قال الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 27].
أمَّة مستترة عن العيون
يعتبر الجن خلق من خلق الله تعالى وأمّة من الأمم، قال تعالى: (قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 38]. جاء في كتاب تأويل مختلف الحديث: إن كل جنس خلقه الله تعالى من الحيوان أمَّة كالكلاب والأسد والبقر والغنم والنمل والجراد، وما أشبه هذا، كما أن الناس أمة، وكذلك الجن أمة، يقول الله تعالى: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم). يريد أنها مثلنا في طلب الغداء والعشاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك.
الجن مخلوقون من نار قال الله تعالى: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ) [الرحمن: 15]، وقال تعالى: (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ) [الحجر: 27]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خُلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)، وهذا الكلام ورد في أصل خلقهم لأنهم الآن على هيئة مخالفة لأصلهم الأول، مثلهم مثل الإنس أصلهم من طين ولكنهم أصبحوا خلقا من لحم وعصب وعظم كما هو معلوم.
تكاليف وشرائع
الجن قوم مكلفون خلقهم الله سبحانه وتعالى ليعبدوه ويوحدوه قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الجن مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم، فإنهم ليسوا مماثلين للإنس في الحد والحقيقة، فلا يكون ما أمروا به ونهوا عنه مساويًا لما على الإنس في الحد، لكنهم مشاركون الإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي، والتحليل والتحريم، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعا بين المسلمين). قال الإمام السيوطي رحمه الله: (قال ابن عبد البر: الجن عند الجماعة مكلفون مخاطبون. وقال القاضي عبد الجبار: لا نعلم خلافًا بين أهل النظر في ذلك، والقرآن ناطق بذلك في آيات كثيرة).
قال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) [الأنعام: 130]، ظاهر الآية أن من الجن رسلًا، ولكن الصحيح أنه ليس منهم رسل ولكن منهم نذرًا يبلغون عن الرسل، قال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِين، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الأحقاف:29-30]، فقول الله تعالى: (ألم يأتكم رسل منكم) معناه رسل من البشر ونُذر من الجن يبلغون عن الرسل ولهذا سمي الجميع رسلًا.
أهل إيمان وأهل ضلال
بما أن الجن مكلفون ومأمورون بعبادة الله سبحانه انقسم الجن إلى قسمين قسم آمن واستجاب للحق وقسم كفر واستكبر على الحق، فمن آمن وصدق دخل الجنة وكان من أهلها ومن كفر خُلد في النار ويسمون بالشياطين، ولا غرابة في ذلك فإن الجن يحسون بالعذاب رغم أنهم خلقوا من نار، تمامًا كالإنس يحسون بالوجع لو ضربوا بالطين رغم أنهم خلقوا منه، قال الله تعالى: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَـٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) [الجن: 14-15].
وقال الله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة: 13]، وقال تعالى: (وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ ) [الأنعام: 128]، قال ابن كثير رحمه الله: النار مثواكم: أي مأواكم ومنزلكم أنتم وأولياؤكم، وقال الإمام السيوطي رحمه الله:
(لا خلاف في أن كفار الجن في النار. واختلف: هل يدخل مؤمنهم الجنة، ويثابون على الطاعة؟ على أقوال، وأحسنها: نعم، وينسب للجمهور.)
وقال ابن كثير في قوله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن: 46]: وهذه الآية عامة في الإنس والجن فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا، ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان.
لا يُرى الجن على هيئتهم
إن الإنس لا يرون الجن وهم على هيئتهم الأصلية، قيل لأن الله جعل لأعين البشر حجابًا لا يمكنهم رأيتهم به، وقيل لأن أجسامهم رقيقة خفيفة، وقيل لأن أجسامهم لا لون لها، والصحيح أن الله حجبهم عنا لحكمة لا يعلمها إلا هو، الحاصل أننا لا نراهم وهم يروننا. قال الله تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف: 27].
ولكن يمكن للإنس رأيتهم حين يتشكلون، فللجن قابلية للتشكل، فهم يتشكلون على صورة البشر وعلى صورة الحيات والكلاب والبغال، ومن الأدلة على ذلك ما روي أن الشيطان أتى قريشا في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لما أرادوا الخروج إلى بدر، قال تعالى (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّى جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 48].
رغم أن عالم الجن عالم غيبي إلا أن الله عز وجل أخبرنا عنه وبينه لنا، وهذا من فضل الله تعالى إذ علمنا ما لم نكن نعلم، لهذا يجب على كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤمن ويصدق بما أخبر الله به ورسوله من الغيب كي يكون من المؤمنين المتقين، فالله سبحانه وتعالى لما ذكر المتقين وصفاتهم، وصفهم بأنهم يؤمنون بالغيب فقال تعالى: (الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [البقرة: 1-2-3].
طلب شرعي