إبداع الصحابة؛ جمع القرآن وتدوينه نموذجاً
لقد أعاد الإسلام تشكيل العقل المسلم، ليتأهل لحمل الدعوة الجديدة؛ التي كانت تقدمية جداً بالنسبة للعقل البشري.. وأُريدَ لهذا العقل أن يظل متوهجاً منذ لحظة الوعي الأولى، وحتى اللحظة التي يطفئه فيها برد الموت. وطرح أمامه آفاق شاسعة، بعيدة الحدود، ممتدة الجوانب، دُعي للتحرك إليها.
لقد منح الإسلام أتباعه قدرات إضافية، تحولوا بها إلي طاقة فذة في ميدان الفعل والانجاز. وقدرة مذهلة في مجال العطاء والإبداع، لقد أصبحوا عدَّائين عرفوا كيف يُحطمون الأرقام القياسية وهم يجتازون الموانع والمتاريس.
العقل الإسلامي؛ عقلٌ مُبتكر
يقول الدكتور عماد الدين خليل :”لكن العقل المسلم لم يقف عند هذا الحد .. كانت هناك وظيفة أخرى تنتظره، وتُعد بمثابة النتيجة لشروط قد توفرت سلفاً… إن العقل الإسلامي المتحضر قَدر على أن يكتشف ويبتكر عناصر وقيماً جديدة بالكلية، وأن يقدمها للعالم ثماراً يانعة لجهده الخاص… لقد أبدع العقل الإسلامي، ابتداء، قيماً جديدة، وابتكر واكتشف الكثير الكثير من المعطيات والنظم الحضارية… ولقد كانت الرؤية الجديدة قديرة على التألق والابتكار .. وكان العقل الإسلامي جديراً بالمهمة .. وهكذا صنع الذي صنع”.
عرَّف بعض المفكرين الغربيين الإبداع بأنه :” عملية ينتج عنها عمل جديد يُرضى جماعة ما أو تقبله على أنه مفيد”. ويرى “سيمبسون” أن الإبداع هو :” المبادرة التي يبديها الشخص بقدرته على الانشقاق من التسلسل العادي في التفكير إلي مخالفة كلية”. ويقول “سميث” إن :” العملية الابتكارية هي التعبير عن القُدرة على إيجاد علاقات بين أشياء لم يسبق أن قيل إن بينها علاقات”. ويُعرف “هافل” الابتكار بأنه :” القدرة على تكوين تركيبات أو تنظيمات جديدة”. ويرى “والاس” الإبداع من خلال مراحله الأربعة وهي : الإعداد، والاختمار، والإشراق، والتحقيق. ويرى “جيلفورد” أن هناك عوامل مبنية للتفكير الإبداعي وهي: الطلاقة الفكرية، والأصالة، والمرونة التلقائية للمشكلات. والإبداع في الأدب والفن هو: الخروج على أساليب القدماء باستحداث أساليب جديدة. وكلمة بديع تعنى الجديد من الأشياء.
إبداعٌ يتجلّى
والقرآن نزل مُنجَّماً – مُفرقاً – على رسول الله في ثلاث وعشرين سنة، لوقائع موجبة وأحوال داعية، وأعلن ختامه في السنة العاشرة من الهجرة قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر، وبعد أن رُتبت آيه وتمت سوره؛ إلا أنها لم تُجمع في مصحف واحد في حياته، وإنما تُوفي رسول الله والقرآن إما مسطور في العُسُب والّلخاف والأكتاف، وإما مذكور على ألسنة الصحابة، وفي صدور الحُفاظ منهم، وفي صحف مفرقة كتبها كتاب الوحي. وكان كثير من المهاجرين يكتبون.
ولم يكن شائعاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حفظ الصحابة لجميع القرآن، بل كان حفظ القرآن موزعاً عليهم، ولم يكمل حفظ القرآن جميعه إلا القليل من الصحابة، عُرفوا بالقُراء. يقول أبو عبد الرحمن السُّلميُّ : حدثنا الذين يقرءون القرآن كعثمان بن عفان وعبدالله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، وقال أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد – عظم – في أعيننا.
ولما قُتل أكثر من سبعين رجلاً من القراء ومشاهير الحفاظ في معركة اليمامة، سنة 11هـ، فزع المسلمون وأشفق عمر بن الخطاب أن يذهب القرآن بذهاب حُفاظه، فأشرق ذهنه بفكرة إبداعية، وتفكير استشرافي يرى فيه المستقبل من خلال الواقع، وبإيجابية تقدم بخطة واضحة المعالم ورأي مُتفرد لم يسبقه إليه أحد؛ إلى صاحب السلطة مباشرة، أو صاحب القرار، أو المسؤول؛ يُطالبه فيه بجمع القرآن. يقول أبو بكر:” إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر بقُراء القرآن يوم اليمامة وإني أخشى أن يستحر القتل بالقُراء في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقال أبو بكر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: هو والله خير، فلم يزل يُراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري بما شرح له صدر عمر ورأيت الذي رأى”. ولذلك قال سيدنا علي بعد ذلك :” أعظم الناس أجراً في المصاحف أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع بين اللوحين”.
خطةٌ وتنفيد
وتبدأ مرحلة التنفيذ للمقترح العُمري بعد الاقتناع والدراسة، بالبحث عن الأكْفاء، وتشكيل مجموعة العمل منهم. فعهد سيدنا أبو بكر أمر التنفيذ إلى عمر بن الخطاب صاحب الفكرة والعلم، عضواً عاملاً، ومعه زيد بن ثابت، مسئولاً؛ وكان أحد كتبة الوحي، وصاحب العرضة الأخيرة علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذى استدعاه أبو بكر وكلفه. وقال له: ” إنك شاب عاقل، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله، لا نتهمك! فاكتبه. فقال زيد: والله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل على منه”.
ورسموا خطة العمل: بجمعه من السطور والصدور؛ سطور الصحف المختلفة التي كُتبت فيها آيات القرآن وسوره، وصدور الرجال الحفظة، ومن ثَمَّ كتابته في قراطيس وصحائف. وقد حدد لهما أبوبكر موقع ومقر لجنة جمع وتدوين القرآن بمسجد المدينة، فقال لهما:” أقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه”. قال زيد: “فتتبعت القرآن أنسخه من الصحف والعُسُب واللخاف- الحجارة- وصدور الرجال”.
ثم أعقب الجمع مرحلة الفرز والتوثيق.. ليتأكد لهما من الشاهدين: الحفظ والكتاب، أو بأن ذلك المكتوب كُتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يشهدان بأن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن، وكان غرضهم أن لا يُكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لا مجرد الحفظ. كما قال ابن حجر في فتح الباري. يقول زيد: حتى فقدت آية كنت أسمع رسول الله يقرأ بها “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ” فالتمستها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت فأثبتها في سورتها. بمعنى أن زيداً لم يعتمد في جمع القرآن على علمه، ولا يقتصر على حفظه، إنما أراد التثبت عمن تلقاها بغير واسطة، وفائدة التتبع المبالغة في الاستظهار، والوقوف عند ما كُتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وتأتي المرحلة الأخيرة، بعد انتهاء اللجنة من الجمع والمراجعة والتدقيق والتوثيق، بحفظ هذا العمل المهم وهذه المادة العظيمة في دار الخلافة، فكانت تلك الكتب عند أبي بكر حتى تُوفي، ثم عند عمر حتى توفي، ثم كانت عند حفصة زوج النبي. فلما اتسعت رقعة الدولة وانتشر القُراء في الأرض اختلفوا في قراءاتهم اختلافهم في لهجاتهم، فخشي عثمان بن عفان أن يختلفوا في دلالته كما اختلفوا في تلاوته.
وتأتي الأفكار البديعة، والابتكارات الرائعة، للتغلب على المشكلة الجديدة، بتشكيل لجنة عليا رفيعة تتكون من أكْفاء: زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث ابن هشام، ومهمتها نسخ تلك الصحف، وجمعها في مصف واحد؛ فكان هذا العمل الخلاق المبدع، ورتبوا سوره على الطول والقصر، واقتصروا فيه على لغة قريش لنزول القرآن بها، وأمر عثمان بأن ينسخوا منه سبعة، وأرسلها إلي مكة والشام واليمن والبحرين والبصرة والكوفة وحبس بالمدينة واحد، وهو مصحفه المسمى بالإمام، ثم أمر بجمع ما عدا ذلك فأُحرق.
كاتب المقال: وليد شوشة