إيلان بيرمان: الصين تُعِيد تشكيل السياسات الإقليمية في الشرق الأوسط
هذا المقال هو ترجمة بتصرف لمقال: “China In The Middle East: Reshaping Regional Politics – Analysis ” لكاتبه: إيلان بيرمان. الآراء الواردة أدناه تعبر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبر بالضرورة عن تبيان.
يتزايد النفوذ الصيني بشكل كبير في منطقة الشرق الأوسط، حيث تبذل بكين الآن جهودًا متضافرةً لتوسيع وجودها الاستراتيجي ونفوذها الاقتصادي في المنطقة، وذلك بعد سنوات من السلبية النسبية.
وقال نائب رئيس المجلس الأمريكي للسياسة الخارجية والخبير في الأمن الإقليمي للشرق الأوسط وآسيا الوسطى وروسيا الاتحادية إيلان بيرمان- في تحليل نشره مركز «أوراسيا ريفيو» الأمريكي للدراسات والبحوث- إنه بالنسبة لدول الشرق الأوسط، يُعد التوجُّه الصيني الجديد للبروز الإقليمي أحد أهم الاتجاهات في السنوات الأخيرة، رغم ضعف تناوله في الإعلام، مشيرًا إلى أنها تمتلك القدرة على إعادة تشكيل الأسواق الإقليمية، حيث تُعِيد الحكومات المحلية توجيه اقتصاداتها بشكل متزايد للاستفادة من التوسُّع والسخاء الصينيين.
ومع ذلك، يُهَدد انتشار النفوذ السياسي والاقتصادي الصيني بشكل متزايد بقلب الترتيبات الأمنية الإقليمية طويلة الأمد والتماسك المُفَتَّت في العالم الإسلامي رأسًا على عقب. وفي الوقت ذاته، يحمل انتشار النموذج الصيني للرقابة المُعَزَّزَة تقنيًا في طياته القدرة على تعزيز بعض أسوأ الدوافع السياسية للحكام المستبدين في المنطقة.
توسيع النفوذ
اعتبر الكاتب إيلان بيرمان أن جدول الأعمال الإقليمي الصيني النشط مهم بقدر ما هو مفاجئ؛ فقبل بضع سنوات فقط، يمكن القول إن ارتباط الصين بالشرق الأوسط كان يقتصر على أولويتين: الأولى بيع الأسلحة إلى الدول المتعطشة للأسلحة في المنطقة، وبشكل خاص إيران، والثانية الحصول على موارد الطاقة الإقليمية لدعم التوسُّع المستمر للاقتصاد الصيني، لافتًا إلى أن السنوات القليلة الماضية شهدت انفجارًا في الاهتمام الصيني بالمنطقة والشراكة معها.
من الناحية السياسية، انعكس هذا الأمر في سلسلة من الاتصالات رفيعة المستوى بين القادة الصينيين ورؤساء دول المنطقة، وربما كانت أبرزها زيارة عاهل السعودية الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود إلى بكين عام 2017، حيث وقَّع العاهل السعودي مذكرة تفاهم مع الرئيس الصيني شي جين بينج لاستثمار 65 مليار دولار أمريكي في مشروعات مشتركة، وحظيت زيارات الرئيس الصيني عام 2016 إلى السعودية وإيران ومصر، ثم إلى الإمارات العام الماضي، بنفس القدر من الأهمية، حيث كان الهدف من هذه الزيارات تعزيز معرفة الحكام الإقليميين بأن الشرق الأوسط مهم بشكل متزايد في حسابات القادة الصينيين.
ومن الناحية الاقتصادية أيضًا، ينمو الوجود الإقليمي للصين على قدم وساق؛ فمنذ عقد مضى، كان نصيب منطقة الشرق الأوسط كلها مليار دولار فقط من إجمالي الاستثمارات الصينية السنوية. أما الآن، ارتفع هذا الرقم بشكل كبير؛ ففي الاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون الصيني-العربي الذي عُقد الصيف الماضي في بكين، تعهد المسؤولون الصينيون بتقديم قروض ومساعدات تنموية ضخمة بقيمة 23 مليار دولار لدول المنطقة. كما تشارك الصين الآن بقوة في العديد من مشروعات البُنى التحتية في جميع أنحاء المنطقة، من بينها «مدينة الحرير» المخطط لها في الكويت وميناء الدقم العماني.
ومن الناحية العسكرية، انتقلت الصين من مجرد لاعب هامشي إلى مشارك متزايد الأهمية في الأمن الإقليمي. ومنذ عام 2015، عندما افتَتحت أول قاعدة إقليمية لمكافحة القرصنة في جيبوتي، عملت بكين بجد لتعزيز وضعها العسكري في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتضمن ذلك زيارات متكررة للقوات البحرية التابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني إلى موانئ في جنوب الخليج العربي، ونشر السفن العسكرية الصينية بشكل موسَّع في خليج عدن. كما وسَّعت الصين وجودها في عمليات حفظ السلام في المنطقة، وأصبحت ثاني أكبر مساهم مالي -بعد الولايات المتحدة- في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد تكون هذه مجرد البداية؛ ففي تقريرها السنوي الأخير للكونجرس حول القوة العسكرية الصينية، حذرت وزارة الدفاع الأمريكية (بنتاجون) من أن بكين يمكن أن تستغل هذا الانفتاح قريبًا لإنشاء قواعد عسكرية في مختلف أنحاء المنطقة.
وأشار الكاتب إيلان بيرمان إلى أن هذه الاستثمارات مدعومة برؤية صينية موسَّعة بشكل متزايد للأمن القومي؛ تلك التي تتطلب مشاركة عسكرية استباقية في الشرق الأوسط من جانب جمهورية الصين الشعبية. وتحدد استراتيجية بكين الوطنية العسكرية لعام 2015 الحاجة إلى معالجة جميع أنواع الطوارئ والتهديدات العسكرية ضد سلامتها الإقليمية وسيادتها الفضائية والبحرية، لدعم إعادة التوحيد الوطني بحزم، والحفاظ على الأشكال الجديدة للأمن والمصالح والحفاظ على سلامة المصالح الخارجية، والحفاظ على الردع الاستراتيجي والإعداد لهجمات مضادة نووية، والمشاركة في التعاون الأمني الإقليمي والدولي من أجل السلام الإقليمي والعالمي، وتعزيز جهودها لمكافحة الاختراق ومكافحة الانفصال ومكافحة الإرهاب، وحماية الأمن السياسي الوطني والاستقرار الاجتماعي، والمشاركة في الإغاثة في حالات الكوارث، وحماية حقوق ومصالح الشعب الصيني، ودعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية الوطنية.
فهم المصالح الصينية
طرح الكاتب إيلان بيرمان تساؤلًا عن السبب وراء تركيز الصين على الشرق الأوسط. وأوضح أن الإجابات عملية وأيديولوجية على حد سواء.
عمليًا، تُعتبر منطقة الشرق الأوسط أكثر أهمية من أي وقت مضى لاستمرار ازدهار الصين؛ فاستهلاك الصين للطاقة يرتفع، ويأتي المزيد والمزيد من هذه الطاقة من الشرق الأوسط، حيث قفزت واردات البلاد من النفط الخام -الذي يُمثل أكثر من 50% من إجمالي استخدام الطاقة الصينية- من حوالي 6.2 مليون طن في عام 2014 إلى أكثر من 9.25 مليون طن في العام الماضي، ويرجع مصدر حوالي 40% من هذا الرقم حاليًا إلى الشرق الأوسط.
علاوة على ذلك، فإن هذا الاعتماد يتعمق، إذ إن موردي الشرق الأوسط -بما في ذلك السعودية والكويت وسلطنة عُمان- هم من بين أسرع مصادر الطاقة نموًا بالنسبة للصين، ومن المتوقع أن يُمثلوا حصة أكبر من إجمالي واردات النفط الصينية خلال السنوات المقبلة. وبعبارة أخرى، أصبح الشرق الأوسط محركًا رئيسيًا للنمو الاقتصادي الصيني.
وبنفس القدر من الأهمية، أُعِيد توجيه السياسة الخارجية الصينية التي حدثت في السنوات الأخيرة بتوجيه من الرئيس شي جين بينج. وهذا التحوُّل وسَّع بشكل كبير مشاركة الصين الدولية ومصالحها الاستراتيجية، كجزء من سياسة خارجية عدوانية توسعية متزايدة، وفقًا للكاتب.
وتتوافق هذه الرؤية الجديدة مع مبادرة «الحزام والطريق»، التي تُعد الهيكل الآخذ في التمدد للعلاقات التجارية بين الصين ومختلف مناطق العالم، والتي أصبحت مبادرة بكين الخارجية المميزة منذ إطلاقها الرسمي عام 2013. وقد أوضح المسؤولون الصينيون أنهم يرون الشرق الأوسط كجزء جوهري من هذه المبادرة، ووسعوا استثماراتهم في المنطقة تبعًا لذلك.
آثار جانبية خطرة
رأى الكاتب إيلان بيرمان أن التدخل الصيني المتزايد ينطوي على عواقب وخيمة على بلدان الشرق الأوسط؛ فقد بدأت البصمة المالية والاستراتيجية المتنامية لبكين في تغيير السياسة والأمن في المنطقة -ببطء ولكن بثبات- على الأقل في ثلاثة مجالات ملحوظة.
المجال الأول
هو العلاقات الاستراتيجية طويلة الأمد بين إسرائيل والولايات المتحدة، والتي تتأثر بشكل مباشر -وبصورة عكسية- بتعمُّق الوجود الاقتصادي للصين في الدولة اليهودية؛ فعلى مدى العقد الماضي، عملت إسرائيل بجد لتوسيع جاذبيتها العالمية باعتبارها «دولة ناشئة» في التكنولوجيا والابتكار لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر على نطاق واسع.
وفي حين أن الكثير من هذا الاستثمار قد جاء تاريخيًا من الولايات المتحدة وأوروبا، إلا أن هناك حصة صينية متزايدة؛ فعلى مدى السنوات العديدة الماضية، وضعت بكين نفسها كأحد أصحاب المصلحة الرئيسيين فيما يُسمى «وادي السيليكون» (التقنية العالمية)، حيث تُبرم اتفاقيات تعاون وتشتري شركات إسرائيلية في صفقات تراكمت قيمتها بمئات الملايين من الدولارات. وتشير التقديرات الآن إلى أن الصين تتجه لتجاوز الولايات المتحدة كأكبر مصدر منفرد للاستثمار الشامل في إسرائيل في المستقبل القريب.
هذا الأمر زاد من التأثير الصيني المحتمل على الشراكة الاستراتيجية الإسرائيلية مع الولايات المتحدة. ويشعر المسؤولون في واشنطن اليوم بقلق متزايد إزاء تغلغل الصين المتزايد في قطاع التكنولوجيا المتقدمة في إسرائيل، مشيرين إلى أنه بعد سنوات من الاستثمارات الممنهجة، أصبح الصينيون يسيطرون الآن بشكل مباشر، أو لديهم نفوذ على ما يصل إلى رُبع إجمالي صناعة التكنولوجيا في إسرائيل، بما في ذلك المتعاقدون في قطاع الدفاع، الذين يعملون في مشروعات حساسة يُجرى تطويرها بشكل مشترك مع الولايات المتحدة، بحسب الكاتب.
المجال الثاني
هو أن النفوذ الصيني في الشرق الأوسط كان له تأثير على تغيير المواقف الإقليمية تجاه الممارسات التي تتخذها الصين، لا سيما القمع الرسمي الذي تقوم به ضد سكانها المسلمين؛ فخلال السنوات الثلاث الماضية، أطلقت بكين حملة واسعة النطاق تهدف إلى تهدئة الأوضاع في مقاطعة شينجيانغ الغربية التي تقطنها الأقلية المسلمة «الإيغور»، والتي يرى المسؤولون الصينيون أنها عرضة للتطرف بشكل خاص. وتشمل التكتيكات التي استخدمتها بكين المراقبة، وفرض القيود على التقاليد الإسلامية، والاعتقال الجماعي لمليون أو أكثر من المواطنين فيما يُشبه معسكرات «إعادة التعليم».
وقد يتوقع المرء أن هذا الأمر يثير غضبًا بين الدول ذات الغالبية المسلمة في العالم، إلا أن هذا لم يحدث، مع استثناءات محدودة؛ فقد ظلت الدول الإسلامية صامتة وقلقة من أن أي انتقاد للسياسة الصينية في شينجيانغ قد يزعزع علاقاتها الاقتصادية والتجارية الواسعة مع بكين. وفي الواقع، عندما قرر أكثر قادة المنطقة نفوذًا إبداء آرائهم في الهجوم الصيني على المسلمين، فعلوا ذلك دعمًا لبكين، بدلًا من معارضتها. واُعتبر أن النتيجة هي التخلي عن مسلمي الصين من قبل إخوانهم في الدين في الشرق الأوسط لأسباب اقتصادية، على حد قول الكاتب.
المجال الثالث
ويُعتبر التأثير الأكثر عمقًا لتوسُّع الوجود الصيني في الشرق الأوسط- هو تأثيرها السلبي على الحكم في جميع أنحاء المنطقة؛ فاليوم، بدأت النزعة الاستبدادية المُمكّنة رقميًا -التي استخدمتها حكومة الصين لإعادة تشكيل مجتمعها في اتجاه أكثر تشددًا وأكثر مراقبة- في الانتشار في دول الشرق الأوسط (بنفس الطريقة التي استخدمتها بالفعل في أجزاء أخرى من العالم، مثل أمريكا اللاتينية).
ونوَّه الكاتب بأن التأثير الأكثر وضوحًا تمثَّل في أن الشركات الصينية تساعد منذ فترة طويلة نظام رجال الدين في إيران على قمع الشعب؛ فعلى سبيل المثال بعد الثورة الخضراء عام 2009، اتجهت طهران إلى شركة الاتصالات الصينية «زد تي إي» العملاقة لتوفير تكنولوجيا مراقبة متطورة للتطبيقات المحلية، وهو ما ساعد جهود حكام إيران على مراقبة اتصالات السكان الأسرى في البلاد منذ هذا الوقت. واعتبرت الولايات المتحدة أيضًا أن مجموعة «هواوي» التكنولوجية الصينية تمارس مثل هذه التجارة المشكوك فيها مع إيران، في انتهاك للعقوبات الأمريكية.
وأشار الكاتب إيلان بيرمان إلى أن إيران ليست حالة منعزلة؛ فبالمثل، سمحت مصر للصين بالحصول على حصة كبيرة من قطاع الاتصالات، ونشر التقنيات التي عززت قبضة الرئيس عبد الفتاح السيسي على السلطة على حساب حرية التعبير هناك. وبفضل المساعدات الصينية، أصبحت مصر الآن الدولة الوحيدة الأخرى في العالم التي اعتمدت جميع «عناصر التحكم الرئيسية في الإنترنت» التسعة التي حددتها منظمة مراقبة الحرية «فريدم هاوس»، وهي: حجب المنصات والمحتوى، والتعطيل المتعمد للاتصالات، والتلاعب في النقاشات على الإنترنت، وإقرار قوانين جديدة أو تشديد التحكم، والاعتقال أو السجن أو الاحتجاز لفترة طويلة أو الاعتداء البدني أو الأذى ردًا على المحتوى السياسي أو الاجتماعي، وتنفيذ هجمات إلكترونية ضد المنتقدين أو المنظمات الحقوقية.
ولفت الكاتب إلى أن دول المنطقة الأخرى يمكن أن تسير قريبًا في نفس الاتجاه، حيث يجذب المسؤولون في لبنان -الذي تعمل الصين منذ خمسة أعوام على تطوير قطاع الاتصالات الوطني به- الآن بنشاط استثمارات صينية أكبر. وفي الوقت ذاته، تعمل شركات صينية مثل «هواوي» و«هيكفيجن» على تسويق أنظمة المراقبة البيومترية في جميع أنحاء الخليج العربي، حيث تلقى نجاحًا تجاريًا هائلًا هناك.
وتعزز هذه الاتجاهات المخاوف من أن عمالقة التكنولوجيا في الصين ستساعد حتمًا على تمكين وتحسين الممارسات القمعية للحكام المستبدين في المنطقة، لأنه مع زيادة ارتباط الصين بالمنطقة، سوف يزداد أيضًا توفُّر الوسائل التي تمكنت بكين من السيطرة عليها بنجاح والتلاعب بها مع سكانها. وبالتالي، يمكن لـ«نموذج الصين» للرقابة الاجتماعية أن يصبح بسهولة سلعة تصديرية في تعامل بكين مع الشرق الأوسط، وهو ما يضر بفرص التعددية والديمقراطية في المنطقة، بحسب الكاتب.