القومية العربية كما يراها عبد الله عزام – الجزء الأول
كانت القومية –وتظل- أمرًا هامًا بالنسبة لمن أراد أن يفهم كيف وصل حال واقعه إلى ما يراه حاليا؟! كيف حدثت كل تلك التغيرات الفجة في فكر الشعوب بمجرد مرور بعض الوقت!؟
كان ذلك ما فكر فيه كاتبنا ” الشيخ عبد الله عزام” وَشَغَله، وأدرك أهميته جيدا حتى إنه قد تفرغ له تماما في فترة من حياته التي كان يملؤها الجهاد من كل ناحية… فجهاد بالقول، وجهاد بالسيف أيضا! كاتبنا الذي عُرِف بأنه قائد الجهاد الأفغاني وهو فلسطيني المنشأ والأصل، فضرب لنا بذلك مثلا على حقيقة المعتقد الإسلامي! وليتضح ذلك دعونا نبدأ.
تلخيص كتابه (القومية العربية)
إلى الذين يودون مخلصين أن يعرفوا الحق وينشدون اتباعه.
ابتدأ الكاتب ببيَانه (لمن يُقَدم ذلك الكتاب؟)، ثم شرع في بَيان الأسباب التي دفعته للبحث في ذلك الموضوع والكتابة فيه؛ وهي ببساطة أنّ القومية شهدت رواجًا ضخمًا في واقعنا الحالي، وليس ثمة كتاب قد تتبّعها تاريخيًا بشكل جيِّد؛ فأعطاها الكاتب اهتمامه وقرَّر تتبُّعها تاريخيًا في المنطقة الإسلامية والعربية، ثم أن يوضح ما قالته شِرعتنا التي نتّبعها -كمسلمين- فيها.
ثم بدأ الكاتب بحثه بعدة فقرات أوّلها (القومية العربية)، وبدأه بمعنى القومية.
ما هي القومية العربية
يتضح من المُسمّى أنها آتية من كلمة “قوم”، وقوم كل رجل: شيعته وعشيرته.
أما عن القومية في الاصطلاح: فهي مبدأ سياسي اجتماعي يفصل معه صاحبه كل ما يتعلق بأمته على سواه مما يتعلق بغيرها، أو هي عقيدة تصور وعيًا جديدًا يمجد فيه الإنسان جماعة محدودة من الناس يضمها إطار جغرافي ثابت، ويجمعها تراث مشترك، وتنتمي إلى أصول عرقية واحدة.
فأتبع ذلك ببيان أن كلمة العرب كانت إما نسبة إلى يعرب بن قحطان أبو اليمن كلهم، وهم العرب العاربة (الخالصة)، ويقابلهم العرب المستعربة الذين سكنوا بلاد العرب (الجزيرة العربية) وتكلموا العربية، وإما سبب تسميتهم بذلك الاسم أنهم سكنوا وادي العَرَبات. والأعرابي: البدوي، والعرب: هم الذين استوطنوا القرى والمدن.
الإسلام والعرب
كيف أصبح القبطي عربيا
كانت كلمة العرب لا تطلق إلا على الذين يسكنون الجزيرة العربية، ولكن حين جاء الإسلام وتوالت الفتوحات بدأ الدخول في الإسلام كثيرًا من غير العرب الأصليين، فعرّبهم الإسلام؛ حيث بدأوا تعلم العربيّة؛ لتأدية شعائر دينهم مثل تلاوة القرآن، والأحاديث، والأذكار، ومنهم من برع في العربيّة أكثر من العرب الأصليين أنفسهم؛ فتولّوا مجالسًا هامة مثل القَضاء، ومن أمثالهم: طاووس ومكحول وعكرمة ومجاهد، ويتلوهم أبو حنيفة والبخاري وابن ماجة وابن سينا وابن اسحق والفرابي وابن حبان وأبو داود والترمذي والنسائي والرازي والسرخسي..
التطور التاريخي للفكرة القومية
بدأت حكاية التحوُّل العجيب الذي أصاب العرب (من الإسلام إلى القومية) مع حملة نابليون وكان ذلك بعد المقاومة التي حركها الأزهر بنداء (الله أكبر)، واقتنع الغرب بهذه الفكرة، ثم خرج الفرنسيون من مصر، وجاء محمد علي باشا (ضابط ألباني، لا يعرف العربية، يتيم، طموح، ذكي، أمي؛ فسبب له ذلك عقدة نقص) إلى مصر مع الحملة التي أرسلها الخليفة إلى مصر لمقاومة نابليون، وأراد محمد علي باشا الذي كان متأثرًا بالفرنسيين، ومنذ صغره على صلة بالفرنسي (ليون) أن يطور مصر، وبالفعل نودي به حاكمًا على مصر، واستقدم (د. كلوت) إلى مصر فأشار عليه بفكرة القومية.
د. كلوت هذا فَهِم اللعبة جيدًا وعمل عليها بجُهدٍ كبير فاهتم بأن يطبع الطلاب في المدارس العليا التي كان يديرها هو على الشعور الصحيح بالقومية العربية، وتوالت البعثات إلى فرنسا، وكلما عادت بعثة ظهر التغيُّر الفَج على أفرادها!
أرسل محمد علي ابنه إبراهيم باشا إلى الشام ليحتلها، واحتلها 7 سنوات أثّرت في تغيير مجرى الأحداث في الشام ولمدة قرن ونيف.
وكان له رجال كُثُر يعملون جميعًا من أجل هدف واضح (إحلال القومية محل الدينية في القلوب!): فمنهم من ترجم التوراة، ومن أسس (جمعية بيروت السرية) ذات الطابع القومي، ومن له قصائد شعرية تدعو إلى الثورة على الأتراك (المسلمين) لأنهم ليسوا (عَرَبًا)! ومنهم من أصدر مجلة (الجنان)؛ وهي صحيفة نصف شهرية سياسية وأدبية شعارها:(حب الوطن من الإيمان)!ومن أصدر في فتنة 1860م بين النصارى والدروز في لبنان مجلة اسمها (نفير سورية) يدعو إلى الوحدة القومية!
وكان من ثمار البعثة الأمريكية إقامة (الجامعة الأمريكية) في بيروت، والتي كان اسمها (الكلية السورية الإنجيلية)، وكان أول رئيس لها راهب أمريكي يحمل دكتوراه في اللاهوت!
الجامعة تُخرِج أجيالًا، مؤكّدًا أنها تزرع فيهم شيئًا… فكانت تلك الجامعة لها أثر في تقدم الفكر القومي ليس يساويه أثر! ويُذكر أنه كان من الرواد الأوائل لهذا الفكر (اليازجي) و(البستاني)؛ حيث كان تلاميذهم أساس التنظيمات القومية التي أدت لإقصاء الدين عن الحياة، وتبديله بالقومية! وتبع تلك البعثة بعثات أُخرى تُكمل مسيرتها.
الجمعيات القومية
تلك البعثات التبشيرية قامت بإنشاء الجمعيات التي تنادي بالفكر القومي، ومن المخزي حقا أنه من بينهم الجمعية العلمية السورية والتي كان من أعضائها بعض (المسلمين)!
(كان أول صوت ظهر لحركة العرب القومية هو صوت إبراهيم اليازجي أحد أعضاء الجمعية فألقى قصيدة اتخذت صورة النشيد القومي)
يقول جورج انطونيوس: ( يرجع أول جهد منظم في حركة العرب القومية 1875 أي قبل ارتقاء عبد الحميد العرش بسنتين – حين ألف خمسة شبان من الذين درسوا في الكلية البروتستنتينية السورية -الجامعة الأمريكية- ببيروت جمعية سرية وكانوا جميعا من النصارى ولكنهم أدركوا قيمة انضمام المسلمين والدروز إليهم، فاستطاعوا أن يضموا إلى الجمعية نحو اثنين وعشرين شخصا ينتمون إلى مختلف الطوائف الدينية ويمثلون الصفوة المختارة المستنيرة في البلاد، وكانت الماسونية قد دخلت قبل ذلك بلاد الشام على صورتها التي عرفتها أوروبا، فاستطاع مؤسسو الجمعية السرية، عن طريق أحد زملائهم أن يستميلوا إليهم المحفل الماسوني الذي كان قد أنشئ منذ عهد قريب ويشركوه في أعمالهم)
الهجـرة إلى القاهــرة
كانت القاهرة حينها مكانا مناسبا لنمو الفكرة القومية والعلمانية أكثر لنشرها في مصر، ومحاربة تركيا; حيث كانت تمثل محضن الرعاية البريطانية حيث يجثم كرومر -المعتمد البريطاني-; فهاجر كثير من المنصرين حتى تحل الرابطة العربية تدريجيا محل الرابطة الإسلامية، وبدأوا في إقامة بعض الصحف التي تدعو إلى فكرتهم، وحرصوا على شد الناس اليهم وعدم تنفيرهم بشكل مباشر بأن يقولوا: أقصوا الدين عن حياتكم! فمن بينهم كانت روزاليوسف: جاءت من الشام نصرانية ثم تظاهرت بالإسلام وسمت نفسها فاطمة اليوسف، ولكنها أصدرت المجلة باسمها القديم (روز اليوسف).
الأفغاني وعبده والكواكبي
( دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم الأخرى فقط، دعونا نجتمع على كلمة سواء، ألا وهي فلتحيا الأمة، فليحيا الوطن، فلنحيا طلقاء أعزاء)، (هذه أمم اوستريا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق الاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري)
تلك كلمات قالها (عبد الرحمن الكواكبي) ولا عجيب! فقد دعا إلى المساواة بين الأديان لتحقيق التماسك القومي، ونادى بمبايعة خليفة “عربي”. وكان الأفغاني رئيسا لمحفل الشرق الماسوني، وكانت علاقته جيدة مع بريطانيا حتى أنه عندما حاول الخليفة منع الأفغاني من الخروج من تركيا توسط له السفير البريطاني وخرج.
أما محمد عبده فكان على ود مع كرومر حتى أن كرومر نفسه قد صرح بأنه ما دامت بريطانيا في مصر، سيبقى محمد عبده مفتيا فيها، وكان من تلاميذه: أحمد لطفي السيد العلماني الذي أعلن كفره البواح في صحيفته (الجريدة) وسعد زغلول. وقاسم أمين (صاحب كتاب تحرير المرأة).
وقد جاء في تقرير كرومر سنة 1906 المقدم إلى الحكومة البريطانية – عن حزب محمد عبده (… وهؤلاء راغبون في ترقية مصالح مواطنيهم وإخوانهم في الدين. ولكنهم غير متأثرين بدعوى الجامعة الإسلامية ويتضمن برنامجهم – إن كنت فهمته حق الفهم – التعاون مع الأوروبيين لا معارضتهم في إدخال الحضارة الغربية إلى بلادهم). ويقول صديقه بلنت الانجليزي:(أخشى أن أقول أن محمد عبده – بالرغم من أنه المفتي الأعظم – ليس له من الثقة بالإسلام أكثر ممالي من الثقة في الكاثوليكية).
الدعوة القومية في بداية القرن العشرين
يا مسلمي العالم اتحدوا!
كان ذلك هو الشعار الذي رفعه السلطان عبد الحميد -سلطان الخلافة العثمانية- في وجه دعاة القومية، ثم جاء وقت قرار إنشاء وطن لليهود في فلسطين التي كانت جزءا من الخلافة العثمانية، فكان رد السلطان -الذي قد عرف بالزهد- قاطعا: (بأن قطع عضو من أعضائي أهون علي من أن تقطع فلسطين – من الدولة العثمانية).
لم يسلم السلطان من شرور أعدائه الذين كانوا قد تكالبوا عليه وبثوا بين أبناء الشعب كراهية له في القاهرة، وفي الوقت نفسه كان في باريس تكالب آخر بقيادة بعض النصارى السوريين ومنهم: نجيب عازوري. الذي قال عنه ساطع الحصري: (إن القومية ابتدأت بنجيب عازوري الذي يضع آماله العربية السورية في فرنسا أولا وفي انجلترا ثانيا). حيث كان قد أصدر عدة مجلات وكتب للدعوة إلى القومية.
الأسباب الحقيقية وراء الدعوة القومية
السبب الرئيسي
هو محاولة الغرب استبعاد الإسلام كرابطة وحيدة وإحلال رابطة جديدة مكانه، بعد فشل الغرب في الحروب الصليبية، فأراد أن يستعمل أسلوب الفكر واللسان بدل السنان.
طموح محمد علي
باشا وإبراهيم باشا إلى عمل امبراطورية قومية عربية.
التخلص من تركيا المسلمة
والقضاء عليه حتى يرث الغرب ممتلكاتها.
محاولة النصارى التخلص من تركيا
لأنها كانت تطبق عليهم الجزية وبعض الواجبات الاستثنائية التي تقابل عند المسلمين دفع الزكاة والقيام بالجندية لحماية الدولة الإسلامية. وطمعا من النصارى أن يقودوا المجتمعات التي يعيشون فيها ويوجهوا دفتها ويصبحوا سادتها وعلية أقوامها..
عوامل هامة في تطور الحركة القومية
- استلام جمعية الاتحاد والترقي الحكم، ويذكر أن من يقودها يهود كلهم ليس من بينهم واحد مسلم.
- تشكيل الجمعيات العلنية والسرية، تلك الجمعيات تدعو إلى القومية العربية وفصل العرب عن الأتراك ولو في الحكم الداخلي فقط للدول العربية.
- تولية جمال باشا واليا على بلاد الشام.
- دخول الشريف حسين الحرب العالمية بجانب بريطانيا ضد تركيا.
ولم يقف التطور ها هنا، وإنما قد حدث ما أحدث طفرة في تاريخ الفكر القومي كله فزاد وانتشر أكثر بشكل عجيب، بشكل تعجب له حتى للقوميين أنفسهم! نتعرف على ذلك الحدث في الجزء القادم إن شاء الله.
لتحميل الكتاب ⇓