بين المبدأ والفعل، والظرف والحكم

المبدأ

هو الرسالة التي نؤمن بها، ونُبلغها للناس، بلا مداهنة، أو تلون، أو تردد. وهو الغاية التي نجتمع عليها وندعو الناس إليها، ويجب أن تكون من الوضوح والشفافية والبيان بما لا يدع مجالًا للشك في بيان الحق والحقيقية. وفي المبدأ؛ نشهد لله وحده، ونقوم بالقسط وحده. وهذه المبادئ ليست عرضة للمتاجرة أو التنازل أو المشاركة مع ما هو ضدها، لأنها في رسالة الإسلام مبادئ إلهية، والإيمان بها واجب، وإظهارها لازم، وعلوها أمر الله سبحانه وتعالى.

الفعل

هو الفعل البشري المحكوم بالظروف والملابسات والسياقات والموازنات، والمواءمات، والأحداث. والفعل البشري دومًا يقع في دائرة «المُمكن المُستفرغ الوسع، المستنفذ الجهد، المتبع السنن» فلا يُكلف الله نفسًا إلا وسعها.

أحياناً يحتاج المسلم-في مشروع التغيير-إلى بعض «الخداع السياسي» أو «المكر بالعدو» أو من جانب آخر قد يكون هو مخدوعًا في الحكم على الأشياء والأشخاص وفي النظر إلى الواقع، لكن المبادئ عنده واضحة سليمة.
ومن ذلك قد يظهر بعض التناقض بين المبدأ والفعل، فنجد الشخص الواحد يكتب عن المبدأ كأحسن ما يكون، وأما فعله: فيكون مخالفًا للمبدأ! رغم أنه قد لا يقصد المخالفة من جانب، أو حكمه على الواقع غير صحيح فيتخذ القرارات الغير صحيحة.

الظرف

واقع الحياة البشرية يتجه إلى التعقيد يومًا بعد يوم، وتتشابك فيه المصالح والخطوط السياسية والاقتصادية إلى درجة جعلت العالم كله كأنه «مدينة كبيرة» يؤثر بعضها في بعض. هذه الظروف تفرض على أصحاب «مشاريع التغيير» بعض الأقوال والأفعال التي قد لا تتفق مع المبادئ، ويجدوا أنفسهم مُكرهين على أغلب الأمور.. فإما الاعتزال الكلي، وإما المشاركة بأقل تأثير ممكن. ولكن المشكلة ليست في المشاركة من عدمها، المشكلة إن مشروع التغيير ذاته لا يخضع إلى المعايير التي تلزم له الحياة في ظل هذا الواقع، ولا يكاد نجد رجال المبادئ التي تستطيع تحويل المبدأ إلى فعل.. دون التنازل عن المبدأ، نتيجة لظروف التربية الفكرية والنفسية والحزبية؛ فتخلط الأمور أشد اختلاط.

الحكم

الحكم على المبدأ يجب أن ينفصل عن الحكم على الفعل. فالمبدأ يجب أن يظل في حالته الطبيعية، دون محاولة لإخراجه عن مكانته وقيمته ليوافق الأفعال البشرية. والحكم على الفعل البشري يجب أن يكون في سياقه وظروفه وتحدياته ومرحلته وتاريخه، ومدى تحقق الإيجابية فيه، ومدى انتفاع الأمة منه.

مكمن الكارثة

أن يتحول «الفعل البشري» حاكمًا على المبدأ. ويتحول الخطأ البشري أو الظروف التي نشأ فيها صاحب التجربة إلى «معالم هادية» بديلة عن المبدأ، بمعنى؛ أن يتحول مثلًا «الخداع السياسي» أو «المكر بالعدو» أو «بعض الموازنات»… إلخ إلى هدف في حد ذاته، ومنهج تُربى عليه الأجيال، فيحل الفعل البشري محل المبدأ.
ويأتي الخطر التالي تباعًا وهو «التعصب الجاهلي» الذي سيعمي عن رؤية الحقيقة، ويصم عن سماع الحق. فيؤدي إلى «التعصب للخطأ» أو «للفعل البشري» والتبرير للأشخاص.
وبعد فترة من الزمن، اختلفت ظروفها، وسياقتها، وأحوالها. سيكون الحكم على الفعل البشري قياسًا بالواقع المعاصر مسألة جد معقدة.
والحل الذي يوفر علينا هذا الجهد هو: الشهادة لله، والقيام بالقسط. والقيام بالقسط والشهادة لله. ولكنها عزيزة على أصحاب الأهواء والمتعصبين.

مثال بين المبدأ والفعل

المبدأ: عدم المحاباة في دين الله، ومعاقبة المعتدين.
الفعل: امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الخونة الذين حاولوا اغتياله في «العقبة التبوكية» رغم علمه بهم، وقال: «حتى لا يتحدث الناس أن محمدًا وضع يده في أصحابه يقتلهم».

وهنا مراعاة للظروف السياسية أو الصورة الإعلامية التي يهتم لها النبي صلى الله عليه وسلم، ومراعاة لأفهام الناس في عصره. وهذه مسألة قد تتغير من جيل لأخر، ومن ظروف لأخرى، ومن حالة لأخرى. ولا يمكن أن نجعل منها دليلًا على عدم معاقبة المعتدين أو التهاون مع من يريد قتل قادة المسلمين.
وقد يكون الفعل مبدأ في حد ذاته، أو يكون موازنة بين المبادئ الأخرى.
فنجد المبادئ صحيحة في ذاتها، والفعل محكوم بظروف القدرة والمآل والمقاصد ومحاط بالسياق الذي وُجد فيه. وأما المبادئ فهي ما يتربى عليه أجيال المسلمين. وأما الأفعال: فهي ما يتربى عليه الوعي الفكري والسياسي للحالة التي تعيشها أجيال المسلمين، وتكون محكومة بقدرتهم وباتباعهم السنن.

الخلاصة

هذه العلاقة بين المبدأ والفعل، والظرف والحكم.. تكشف لنا عن مدى خطورة التعصب للأشخاص، والدوران في فلكهم.. وتكشف أيضاً عن أهمية «تقدير الأفكار» والتعامل معها هي، وتكشف كما نخسر في معارك جانبية تستنزف منا نحن لا من العدو، وتكشف أيضاً عن سطحية حكمنا على الأشياء. وتكشف عن مدى الصعوبة في تحقيق الأمور على وجهها الصحيح-ومعرفة الحقيقة-عندما نجد المحاباة وشهادة الزور على دين الله مسألة هينة عند الناس.
إن الشهادة لله وحده، والقيام بالقسط وحده، والقيام لله وحده، والشهادة بالقسط وحده هي الضمانة الأولية لوضعنا على الطريق الصحيح، وتجعلنا نُعلي المبادئ الإسلامية ونضعها في إطارها الصحيح، ونمضي في الفعل البشري – قدر الوسع والطاقة – نحققه، ونحكم على الأفعال في سياقها وظروفها وأحوالها، دون دجل أو تبرير.

راجع-إن شئت-مقال: فصل الدين عن “العمل السياسي“.

أحمد طه

كاتب ومهتم بالشأن الإسلامي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى