بانسحاب المسلمين من ميدان الحياة وتنازلهم عن قيادة العالم وإمامة الأمة، وبتفريطهم في الدين والدنيا، وجنايتهم على أنفسهم وعلى بني نوعهم، أخذت أوروبا بناصية الأمم، أوروبا التي تجردت من كل ما خلفته النبوة من تعاليم روحية، وفضائل خلقية ومبادئ إنسانية، وأصبحت لا تؤمن في الحياة الشخصية إلا باللذة والمنفعة المادية، وفي الحياة السياسية إلا بالقوة والغلبة، وفي الحياة الاجتماعية إلا بالوطنية المعتدية والجنسية الغاشمة، وثارت على الطبيعة الإنسانية والمبادئ الخلقية، وشغلت بالملآلات واستهانت بالغايات ونسيت مقصد الحياة، واستهانت بالتربية الخلقية وتغذية الروح، فأصبحت فيلا هائجا يدوس الضعيف ويهلك الحرث والنسل … بينما نحن اتخذنا القرآن مهجورا، وفتنّا بالمال وشغفنا بجمعه وادخاره كغيرنا من الأمم.
وأصبح العالم اليوم رغم اتساعه وتوفر وسائل السفر والانتقال من مكان إلى مكان واتصال الشعوب والأمم ببعضها أضيق بأهله منه بالأمس، قد ضيقته المادية التي لا تعرف غير العكوف على الشهوات وعبادة اللذات، ثم ضيق خناق هذه الحياة المسيطرون السياسيون الذين يحتكرون وسائل الحياة والرزق والقوت، يضيقون الحياة لمن شاءوا ويوسعونها لمن شاؤوا بزعمهم، فضاقت على الناس الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، وأصبحوا مهددين في كل وقت بمجاعات حقيقية ومصطنعة، واضطرابات أسبوعية ويومية كما نرى في ايامنا هذه.
الحل لما نعانيه اليوم من أزمات
لذا كان الحل الوحيد هو تحول القيادة العالمية وانتقال دفة الحياة من اليد الأثيمة الخرقاء إلى يد أخرى بريئة حاذقة.
إن تحول القيادة من بريطانيا إلى امريكا ومنهما جميعا إلى روسيا لا يغني غناء ولا يغير من الموقف شيئا، فإن هذا التحول ليس إلا انتقال المجداف من اليمين إلى الشمال إذا تعبت الأولى والعكس، فما دام المجداف واحدا فلا فرق بين يمينه وشماله، وليست امريكا أو بريطانيا أو روسيا إلا أيدي رجل واحد تتداول دفة الحياة، وتتناوب تجديف السفينة على خط واحد إلى جهة واحدة.
إن التحول المؤثر الواضح هو تحول القيادة من أوروبا – بالمعنی الواسع الذي يشمل بريطانيا وامريكا وروسيا ومن كان على شاكلتها من الأمم الآسيوية والشرقية – التي تقودها المادية والجاهلية، إلى العالم الإسلامي الذي يقوده النبي صلى الله عليه وسلم برسالته الخالدة ودينه الحكيم.
هذا هو التحول الذي يغير وجه التاريخ ويحول مجرى الأمور، وينقذ العالم من الساعة الرهيبة التي ترقبه.
إن حقا على الإسلامي أن يمني نفسه بهذا المنصب الخطير ويطمح إليه، وإن حقا على كل بلد إسلامي وشعب إسلامي أن يشد حيازيمه لذلك، وإن حقا على كل مسلم أن يجاهد في سبيله ويبذل ما في وسعه، فهذه هي المهمة الشريفة التي أنيطت بالأمة الإسلامية يوم ظهرت نواتها في جزيرة العرب.
الخطوات العملية التي يتوجب أن نتخذها للقيام بالمهمات الموكلة إلينا
لذا كان لابد من خطوات إذ ليس الأمر بالتمني والاحلام فقط
-
الاستعداد الروحي
قوة المؤمن وسر انتصاره في إيمانه باليوم الاخر ورجائه لثواب الله، لذا كان من الواجب غرس الإيمان في قلوب المسلمين وإشعال العاطفة الدينية، ونشر الدعوة إلى الله ورسوله، والإيمان بالاخرة على منهاج الدعوة الإسلامية الأولى، وتستخدم لذلك جميع الوسائل القديمة والحديثة وطرق النشر والتعليم، كتنظيم الخطب والدروس ونشر الكتب والمقالات، ومدارسة كتب السيرة وأخبار الصحابة وكتب المغازي والفتوح الإسلامية وأخبار أبطال الإسلام وشهدائه وفضائل الشهداء.
والقرآن وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم قوتان عظيمتان تستطيعان أن تشعلا في العالم الإسلامي نار الحماسة والإيمان، وتحدثا في كل وقت ثورة عظيمة على العصر الجاهلي، وتجعلا من أمة مستسلمة متخاذلة ناعسة، أمة فتية ملتهبة حماسة وغيرة وحنقا على الجاهلية.
-
الأخذ بالأسباب والاستعداد الصناعي والحربي
مادام العالم الإسلامي خاضعا للغرب في العلوم والسياسة والصناعة والتجارة، يمتص الغرب دمه ويحفر أرضه فيستخرج منها ماء الحياة، وتغزو بضائعه أسواق العالم الإسلامي وبيوته وجيوبه كل يوم فتستخرج منها كل شيء، ومادام العالم الإسلامي يستدين من الغرب الأموال، وينظر إليه كأستاذ ومرب وسيد ورب لا يبرم أمرا إلا بإذنه ولا يصدر إلا عن رأيه، فلا يستطيع أبدا أن يواجه الغرب فضلا عن أن يناهضه أو يغالبه.
فلا بد من المقدرة الفائقة، والاستعداد التام في العلوم والصناعة والتجارة وفن الحرب، ويستغني عن الغرب في كل مرفق من مرافق الحياة، فيكسو نفسه ويصنع سلاحه وينظم شؤون حياته ويستخرج كنوز أرضه وينتفع بها، ولا يحتاج إلى الاستدانة من الغرب.
-
نشر الوعي
إن فقدان الوعي هو أخوف ما يخاف على أمة ويعرضها لكل خطر ويجعلها فريسة للمنافقين ولعبة للعابثين، والشعوب الإسلامية والبلاد العربية -مع الأسف- ضعيفة الوعي بل فاقدة له، فهي لا تعرف صديقها من عدوها ولا تزال تعاملهما معاملة سواء أو تعامل العدو أحسن مما تعامل الصديق الناصح، ولا تزال تلدغ من جحر واحد ألف مرة ولا تعتبر بالحوادث والتجارب، وذلك سواء في الوعي الديني والوعي الاجتماعي وأضعف في الوعي السياسي، وذلك الذي جر عليها ويلا عظيما وشقاء كبيرا.
فيجب علينا إيجاد الوعي في طبقات هذه الأمة وتربية الجماهير التربية العقلية والمدنية والسياسية.
وعلى المسلم أن يعلم أنه لن يستطيع أن يحارب أعداءه بقلب يحب الحياة ويكره الموت، وبجسم يميل إلى الدعة والراحة، وعقل يخامره الشك وتتنازع فيه الأفكار والأهواء، أو بيد مضطربة وقلب متشكك ضعيف الإيمان وقوة متخاذلة في الميدان، فيجب أولا غرس الإيمان في الشعوب العربية وجماهير الأمة وأولياء الأمور، والجيوش العربية والفلاحين والتجار، وفي كل طبقة من طبقات الجمهور، وبعث الإستهانة بالمظاهر الجوفاء وزخارف الدنيا فيهم، وتعليمهم كيف يتغلبون على شهوات النفس ومألوفات الحياة، وكيف يتحملون الشدائد في سبيل الله.
وأخيرا يجب أن نعلم أن العالم لا يمكن أن يصل إلى السعادة إلا على قنطرة من جهاد ومتاعب يقدمها الشباب المسلم في سبيل علو الإسلام وبسط الأمن والسلام على العالم.
هذه قطوف مقتطفة ودروس مستفادة من كتاب “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”
للعلامة أبوالحسن علي الحسني الندوي رحمه الله رحمة واسعة وتقبل منه هذا العمل.