نحن والرأي العام الأمريكي: أحلامنا بين نقد الأشخاص ونقد المؤسسات
آراء أكاديمية عربية في الرأي العام الأمريكي
يقول الدكتور محمد إبراهيم الحلوه في دراسة بعنوان «الرأي العام الأمريكي والسياسة الخارجية الأمريكية»: «الذي يبدو لنا لأول وهلة أن الرأي العام هو رأي عامة المواطنين غير الرسميين والذي ترى الحكومة أن من الحكمة احترامه وأخذه بعين الاعتبار. لكن في حقيقة الأمر تبلوَرَ الرأي العام في بعض الدول ومنها أمريكا وانحصر برأي النخبة أو الصفوة في المجتمع مما قلل من دوره كمؤثر مستقل في توجيه السياسة الأمريكية بصفة عامة والخارجية منها بصفة خاصة…» المجلة العربية للعلوم الإنسانية الصادرة عن جامعة الكويت عدد 101 خريف 1986 ص 102-117.
إن الرأي العام في الولايات المتحدة هو رأي قلة تتمثل “بالنخبة” أو “الصفوة” في المجتمع الأمريكي.
«إن البداية السليمة للدخول إلى الرأي غير الحكومي في المجتمع الأمريكي تتطلب الوصول إلى النخبة الأمريكية أينما وجدت في السياسة والمال والصحافة والجامعات… لإبلاغها رسالة عربية تتضمن شرح المواقف العربية بأسلوب موضوعي يبرز المصالح العربية–الأمريكية المشتركة بالحقائق والأرقام، ويظهر الضرر الذي لحق وسيلحق بالسمعة والقيم الأمريكية نتيجة لتجاهل المجتمع الأمريكي للقضايا والحقوق العربية».
ورغم سلامة وصلابة النتيجة التي توصل إليها الباحث وصلاحيتها للبناء عليها خطة محكمة للتحرك السياسي المثمر بعيدًا عن الأوهام والأساطير، فإن الخطة التي رسمها لا تتناسب حجمًا ولا زخمًا مع ذلك الاستنتاج، وهي مناسبة فقط لواقع الدولة العربية المعاصرة بضعفها وتبعيتها وسياساتها الاستجدائية.
هل الولايات المتحدة معنية بالحفاظ على سمعتها؟
ومن سجل الولايات المتحدة منذ ذلك الوقت إلى اليوم يبدو بجلاء أنها غير معنية بالحفاظ على سمعتها ومصالحها المشتركة مع العرب وقيمها، إذ لم يكن لها سمعة حسنة أصلاً منذ الحرب الكبرى الأولى، ومصالحها في العالم العربي مؤمنة مهما انغمست في غيها وبالغت في عدوانها.
أما قيمها فليس لنا أن نعلمها إياها ونزايد عليها بعدما تقاسمت هي قيم التوراة-المحرَّفة-مع الكيان الصهيوني (حديث الرئيس الأمريكي جيمي كارتر أمام الكنيست الصهيوني مارس / آذار 1979 وهو ما جرت عليه السياسة الأمريكية منذ نشأتها وليس منذ نشأة الكيان الصهيوني فقط)، ولهذا فلن يكون “للأسلوب الموضوعي” أي جدوى مع نخبة الأمريكيين إلا إذا كان له جدوى مع اللص الفاجر عندما نحاول منعه من السرقة وقطع الطريق بمجرد إقناعه بأنها أفعال حرام!
عقيدة الاسترقاق الأمريكية
إن لنا بعد الاطلاع في دراسة سابقة (أمريكا مدينة على تل أم صنم على جبل/ 1) على حقيقة موقف الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن (1861-1865) من حرية الرقيق، وكونها تابعة لبقاء الاتحاد الأمريكي سواء ببقاء الاسترقاق أو زواله، أن نعقب على المدخل الذي اقترحه المفكر الراحل إدوارد سعيد للقضية الفلسطينية في المجتمع الأمريكي وذلك حين قال إننا يمكن لنا أن نقنع هذا المجتمع بقضيتنا بالدخول عبر ميراث لنكولن الإنساني(1).
ولست أدري هل ظل يؤمن بهذه الفكرة إلى آخر حياته أم أنها تغيرت مع سلسلة خيبات آماله في هذا المجتمع بعد التنازلات الكبرى التي قدمها للمجتمع الأمريكي مثل التخلي عن فلسطين 1948، والقبول بأن الكيان الصهيوني “وجد ليبقى”، بالإضافة إلى التخلي عن حق العودة، ولكن لا بأس من الرد على مدخله المقترح لمن ما زال يحمله من أصحاب الآمال الواسعة الذين ما زالوا يتلقون الضربة تلو الضربة من التصريحات المتكررة من المسئولين الأمريكيين الكبار الذين يتملقون رأيهم العام عن أهمية الكيان الصهيوني في الاستراتيجية الأمريكية.
عقيدة أمريكا الاستعمارية
لقد كان تفسير الحرية الأمريكية خاضعًا للطمع في امتلاك أرض الهنود، كما تحققت الديمقراطية الاقتصادية بين البيض على حساب توزيع الموارد الهندية المسلوبة ، وإن “المًحرِّر العظيم” كان الفاتح العظيم لأراضي الهنود وكان المخضع العظيم لقبائلهم والقاتل العظيم لهم أيضاً. وقد أقر أحد المؤرخين بأن هذا الرئيس الذي أصبح منافساً للمسيح ذاته في الفكر الأمريكي، كان يشارك قومه الرأي فيما يتعلق بمصير الهنود(2)، ولهذا ليس لنا أن نأمل في مكان أفضل من مكان الهنود عندما يتعلق الأمر باستعمار استيطاني يستهدف أرضنا بصفتنا سكاناً أصليين ويمثل القيم ذاتها التي فتح لنكولن وغيره من رؤساء أمريكا أراضي الهنود في ظلها.
العداء الأمريكي للقضية الفلسطينية
كيف لا وقد سجل الرئيس نفسه في سنة 1863 موافقته على “إعادة اليهود إلى وطنهم القومي في فلسطين” ووصف هذه العودة بأنها “حلم نبيل يشترك فيه كثير من الأمريكيين”(3). وتمنى أن يأتي اليوم الذي يتمكن الأمريكيون من قيادة العالم لتحقيق أحلامهم، وذلك بعد الانتصار في الحرب الأهلية، فماذا بقي لنا من ميراث لنكولن؟ وهل من العجيب أن يستمر الميراث الصهيوني لأبراهام لنكولن في المجتمع الأمريكي ثم لا نجد له أثراً في دعم القضية الفلسطينية إلى درجة أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة عجزت عن ترويض هذا الرأي العام بعدما أعلن وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر سنة 1973 أن الولايات المتحدة مستعدة لممارسة أقصى الضغط على إسرائيل للانسحاب (من أراضي 1967)، ولكن يجب عليها (أي على أمريكا) إعداد الرأي العام الأمريكي، وإعطاء الوضع السياسي في إسرائيل الوقت لينضج (4).
ولم نتبين منذ ذلك الوقت ما اعترف به “صديقنا” كيسنجر وهو أن الرأي العام الأمريكي يعادي الحد الأدنى من حقوقنا بقدر معاداة الكيان الصهيوني لها. وما زلنا نراهن على هذا الرأي العام “الطيب” ونضخم مظاهر الطيبة الإنسانية فيه ونظن عندما نرى عازف بيانو يتصدى للجدار العنصري العازل بالموسيقى أن الأمريكيين كلهم مستعدون لمواجهة آلة الكيان الصهيوني العسكرية العملاقة كاستعداد بعضهم للموت دفاعاً عن بطريق القطب المتجمد.
لمن توجه التصريحات الرئاسية الأمريكية إذًا؟
نصم آذاننا عن تصريحات التملق التي يطلقها كل مرشحي الرئاسة وبقية المناصب للكيان الصهيوني، ولا نسأل أنفسنا من هو الجمهور الواسع الذي يراد إسماعه هذه التصريحات وتملقه بها، أو نعتقد أنها موجهة فقط ليهود أمريكا ذوي النفوذ الأخطبوطي الذي يأسر بأذرعه الأمريكيين الودعاء، مع أن زعماء الكيان الصهيوني يواجهون النقد من الكنيست أكثر مما يواجهونه من الكونجرس، حيث السب والشتم والاتهامات والمحاكمات من جهة ممثلي الشعب في الكنيست في نفس الوقت الذي لا يجدون سوى الهتاف والتصفيق والحفاوة والدعم والتأييد والتمويل والتشجيع من جهة ممثلي الشعب الأمريكي.
حقائق حول الرأي العام الأمريكي
ويفصل الدكتور فواز جرجس الحديث عن الرأي العام الأمريكي ويحل بعض الإشكالات التي ترد في ذهن متابع الموضوع، ومن النقاط الهامة في طرحه:
- الرأي العام الأمريكي محدود التأثير جداً في السياسة الخارجية إلا في بعض القضايا القليلة جداً.
- السبب في قلة تأثير الجمهور نقص الاهتمام والمعرفة بقضايا السياسة الخارجية وسرعة التأثر بالقيادة السياسية (فسلبية تبجيل القيادة ليست خاصة بالمسلمين وحدهم كما يحلو للاستشراق والتغريب القول!) .
- أقل من ربع الجمهور الأمريكي على معرفة بأمور السياسة الخارجية ويسمى “الجمهور الفطن”.
- هذا ما يجعل الرأي العام عرضة للتقلبات والتلاعب من جهة القيادة والإعلام واستطلاعات الرأي (وهي صفة أخرى ليست خاصة بالمسلمين وحدهم كما يبدو!).
- الرأي العام قيد ضعيف على صنّاع السياسة، وتأثيره أقل استمراراً ومباشرة من تأثير جماعات الضغط والأحزاب السياسية، ويمكن أن يؤتي مفعوله بمرور الزمن الطويل، والجمهور الفطن أهم من الجمهور العام، ومصادره الإعلامية تجعله متفقاً مع النخبة السياسية الحاكمة، حيث أن وسائل الإعلام هي المصدر الرئيس لتكوين المفهوم العام عن الإسلام والمشرق، لاسيما في غياب إعلام نقدي وهو ما سهل على القيادة والإعلام تشكيل وتسيير الرأي العام الذي كان سلبياً وليس مشاركاً في الأحداث ولهذا فإن القيادة لا تعيره اهتماماً خاصاً في ممارستها للسياسة الخارجية.
- الانتخابات الأمريكية ليست استفتاءات على السياسة الخارجية، وأوضح دليل هو فشل بوش الأب في تجديد رئاسته رغم نجاحه في إدارة أزمة الخليج من وجهة نظر الرأي العام الأمريكي (90%)، وهو أبرز رئيس في اهتمامه بالسياسة الخارجية، إلا أن ذلك صار عائقاً في وجهه وليس رصيداً له حيث تمكن بيل كلينتون من التفوق عليه بسبب تركيزه على القضايا الداخلية.
- المناخ الفكري الأمريكي سلبي وقاس تجاه المسلمين مما يجعل من فكرة اللوبي العربي دفاعية لا هجومية وتستهلك الجهد في تحسين صورة المسلمين خلافاً للوبي الصهيوني الذي يشارك في صنع السياسة الخارجية الأمريكية مباشرة وتعد قضية الكيان الصهيوني مسألة داخلية أكثر منها خارجية في المجتمع الأمريكي والدعوة إلى الضغط عليه انتحار لأي مرشح سياسي، لاستناد الصهيونية الإسرائيلية إلى أرضية ثقافية مشتركة مع جمهور واسع من الشعب الأمريكي أكثر من استنادها إلى الجمهور اليهودي الأمريكي، “وسيكون من المضلل أن نتوقع من جماعات الضغط العربية الأمريكية ممارسة أية ضغوط فعالة، ناهيك عن التأثير في صناعة السياسة الأمريكية تجاه المنطقة العربية” (5).
♦واقع النقد الموجه لترامب من الرأي العام الأمريكي
النقد من المزايا المشهورة في الغرب، ولكن يلاحظ متتبع النقد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي في تاريخ الحضارة الغربية، أن هذا النقد يوجه عادة للأشخاص الذين يرتكبون الأخطاء وليس لمؤسسات الأنظمة الحاكمة (6)، ولكن رغم كثرة هذه الأخطاء لم يتحدث أحدهم عن نقد المؤسسة الحضارية النفعية التي أنتجت هذه النماذج الكثيرة والمتكررة، وإلا فإنه يخرج من دائرة الانتماء إلى طليعة التقدم البشري العقلاني الديمقراطي أو على الأقل يتم تهميشه كما حدث لأصحاب النقد الجذري.
في الوقت الذي يحلو للغرب وأتباعه المتغربين فيه نقد المؤسسات الحضارية الأخرى نقداً جذرياً يدعو إلى القضاء عليها استناداً إلى كثرة أخطاء أفرادها، ومن العجيب أن ينبهر أبناؤنا باستمرار بالاحتجاجات السياسية في الغرب ضد الممارسات الظالمة الحالية أو غيرها ولكنهم لا ينتبهون إلى أن الخيارات التي تتيحها هذه الاحتجاجات ليست بالضرورة انتقالاً من السئ إلى الجيد، حيث تركز على الأعراض وليس على الأسباب، هذا إذا افترضنا أن الاحتجاج هو الظاهرة الأعم وليس بقية الظواهر السلبية كالعنصرية والكراهية والإذعان للسلطة.
عندما دعا المفكر الأمريكي المعارض المعروف نعوم تشوميسكي إلى انتخاب هيلاري كلينتون بصفتها الخيار الأقل سوءاً في الانتخابات الأخيرة، لفت نظره أحد الكتاب إلى أنها خيار سيء جداً نظراً لمشاركتها السابقة فعلاً في عمليات عدوان دموية أمريكية على بقية العالم، ومن المتوقع أن تستأنف مسيرتها كبقية أسلافها الرؤساء (الذين أذاقونا الأمرّين) إذا فازت بالرئاسة، ومن يراهن عليها سيتحمل مسئولية الجرائم التي سترتكبها مستقبلاً (7).
هل الاحتجاج ضد ترامب يمثل الجانب “الطيب” الذي تُعلَّق عليه آمال البشرية؟
كيف لنا اليوم تخيل أن شخصاً محدداً كالرئيس ترامب هو “الشرير”، وأن الاحتجاج ضده يمثل الجانب “الطيب” الذي تعلق عليه آمال البشرية، ونسينا أن الخيار السياسي الذي يراهن عليه “الطيبون”، كهيلاري كلينتون مثلاً والتي لم تكن لتتخذ إجراءات كترامب، هذا الخيار هو الذي سحقنا منذ ولدنا وسحق غيرنا من قبلنا، وكيف لنا أن نعتقد أن احتجاجات هذا هو خيارها الذي تعايشت مع جرائمه سنوات طويلة منذ بداية الجمهورية الأمريكية ستكون هي المنقذ؟ وهل نعتقد فعلاً أن بديل ترامب هو الحل الأمثل؟ ألم نجرب هذا البديل لقرون قبل ترامب الذي يصور بصفته استثناء “شريراً” من سلسلة “طيبة” سبق أن صبت الويلات على رؤوسنا؟
وماذا سيفعل الفرحون بالاحتجاجات عندما يرتكب البديل جرائم أخرى مررها المجتمع الأمريكي من قبل سواء بالصمت أو التواطؤ أو حتى باحتجاجات ضخمة ولكنها غير مجدية وهذا منذ بداية التسلل الأمريكي للمنطقة كالاعتراف بالكيان الصهيوني ودعم جرائمه دعماً كاملاً إلى غزو العراق وأفغانستان مروراً بتنصيب العملاء والمستبدين وتقسيم بلادنا ونهب ثرواتنا وتأجيج صراعاتنا الداخلية؟ وهل يمكننا تصور الوقوف في صف واحد مع مادلين أولبرايت التي تنتقد ترامب اليوم بشدة وتدعي التضامن مع المسلمين وهي التي بررت إبادة نصف مليون عراقي عندما كانت في منصب رسمي؟
إلى من يعولون على الرأي العام الأمريكي
ألا يعطينا هذا إشارة هامة عن آفاق هذه الاحتجاجات التي نفخنا لها الأبواق وقرعنا لها الطبول ورفعناها إلى سدرة المنتهى؟ ألا يجب أن ينبهنا ذلك إلى أن العداوة التي نلمسها ليست عداوة أشخاص فقط بل عداوة مؤسسية وأن ترامب ليس مجرد إبليس بين الملائكة؟ وأن من يدعي تأييدنا اليوم سبق أن أبادنا بالأمس وسط صمت بل إقرار مجتمعي داخلي وتواطؤ دولي ومن المؤكد أنه سيجدد العهد في أي وقت بجرائمه؟
وهل يريد الفرحون بالاحتجاجات رئيساً على غرار بوش الأب مدمر العراق أو الابن الذي احتله؟ أو ريغان قاصف ليبيا أو كارتر كامب ديفيد؟ أو أوباما بائع الكلام العاجز عن تنفيذه أو بيل كلينتون محاصر وقاصف العراق أم زوجته بعده؟ وهل أصبح أفق أمانينا هو التخلص من ترامب لتعود أمريكا سيرتها الأولى؟ (هل مازلنا نذكر كيف كنا في بداية “عملية السلام” نراهن على حزب العمل الصهيوني بعدما وصل الليكود إلى السلطة ونسينا أن العمل هو الذي أسس الكيان المجرم وارتكب كل جرائمه؟؟ كما حصل في قصة الفلاحة التي اشتكت من ضيق بيتها فقام زوجها بإدخال حيواناته في البيت فأصبح أقصى أحلام الزوجة أن يخرج الحيوانات من المنزل لتعود إلى الحالة الأولى بسرور بالغ ونسيت شكواها ومظلمتها وسوء حالها دون أي تغيير على الأرض).
وقد ذهب بعضهم أبعد من ذلك في الانبهار حين زعم أن السياسة الغربية لا تمثل بالضرورة قيم الغرب! (هل تمثل إذن قيم الهنود الحمر؟ أم قيم الإسلام مثلاً؟ وهذا إصرار عجيب على الانبهار بلحظة مجتزأة وتكبيرها أكثر من حجمها ونفي الواقع ورؤيته بعدسات وردية غير واقعية).
هنا تبرز معضلة التعلق بهذا الخيار الحضاري بصفته ذروة التطور البشري، أو بصفته واقعاً لا محيص عنه، أو بصفته الخيار الوحيد الذي لا بد من الحصول على أفضل الممكن منه دون غيره، وحصر الخيارات فيما يقدمه، حيث نصبح مخيرين بين السيئ والأسوأ، وننسى ما لدينا من خيارات أخرى، لا سيما بصفتنا “الآخر” المحكوم عليه منذ البداية بالاستثناء من الجنة الغربية الحصرية، حيث يستهلك 20% من البشرية 80% من موارد العالم، فيهلل المهللون لجمال هذه الجنة وكونها أرض الأحلام التي يتوق إليها الملايين والتي عجزت بقية الحضارات عن إنجازها، دون ذكر النهب الدولي الاستثنائي الذي زرعته المرحلة الاستعمارية بالقوة وما زال ساري المفعول فأتاح لهذا الخيار البقاء، ولولاه لما كان للص أي ميزة يتباهى بها على الخلق وينعم على نخب منهم بالانضمام إلى هذه الجنة بعد تحويل مواطنهم الأصلية إلى قفر يباب كما تؤكد أرقام ذلك الاحتكار.
الخلاصة
علينا أن نعي حدود قدرات الرأي العام في تكوين سياسة الولايات المتحدة، ويجب ألا يخدعنا مشهد الرأي العام المحتج على إجراءات ترامب، فعلى فرض كونه الغالبية، وهذا ليس واقعاً (8)، فإنه هو نفسه الرأي العام الذي راقب جرائم كثيرة قبل ترامب بتواطؤ أو عجز، فهذا الرأي العام ليس صفحة بيضاء تنتظرنا لنكتب فيها ما نشاء، ولا هو جمل تائه يُسيِّره من يجده نحو أهدافه، والخلاف القائم حالياً على الهجرة ليس بين الملائكة والشياطين، بل هو خلاف على سياسة الداخل وليس السياسة الخارجية التي لا تعني الرأي العام الأمريكي كثيراً.
وعندما نجد مجرمين سياسيين كمادلين أولبرايت يشاركون في مشهد الاحتجاج، وقد سبق للرئيسين بوش الأب وابنه أن استنكفا عن دعم ترامب، فإن هذا ما يجب أن يرشدنا إلى حقيقة هذا الاختلاف داخل المجتمع الأمريكي فضلاً عن وجوب عدم ركوننا إلى رأي ليس غالباً وعدم محاولة جعله هو السمة البارزة رغماً عن الحقائق الجلية، لا سيما أن هذا الرأي الأمريكي المخالف لترامب يهدف إلى عودة أمريكا إلى عادتها القديمة.
فهل هذا هو فعلاً ما ينصفنا؟ أم أننا يجب علينا البحث عن بديلنا الحضاري بدلاً من المراهنة على جياد الآخرين الملغومة كحصان طروادة والتي تجعلنا أسرى لحظة مجتزأة قد تكلفنا كثيراً من التنازلات عند الركون لأمثال بوش وأولبرايت وكل من ترضيه سيرة أمريكا قبل ترامب دون فهم مركبات دوافعهم.
وإنه لمن الغريب أن يصبح استقبال العراقي في أمريكا أم عدم استقباله هو معيار قياس درجة الإنسانية ونسيان كل ما فعله الأمريكيون من قتل ودمار وحصار وتجويع ونهب وسلب وتقسيم وفرقة في العراق وهو ما أجبر مواطنيه على مغادرته، وهل سنقول بعد ذلك إن أمريكا تفضلت على الفلسطينيين حينما استقبلت أعداداً كبيرة منهم وفتحت لهم أبوابها ليعيشوا بازدهار رغم مشاركتها الحثيثة في تهجيرهم من وطنهم ومسحه من الخريطة ومنع عودتهم إليه وممالأة أعدائهم على قتلهم وسلبهم؟
الهوامش
1-إدوارد سعيد، القضية الفلسطينية والمجتمع الأمريكي، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1986، ص 28.
2-Francis Prucha, The Great Father, University of Nebraska Press, Lincoln, 1995, p. 413.
3-مايكل أورين، القوة والإيمان والخيال، كلمة وكلمات عربية للترجمة والنشر، أبو ظبي والقاهرة، 2008، ص 225.
4 -الدكتور علي محافظة، بريطانيا والوحدة العربية 1945-2005، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2011، ص 276.
5-الدكتور فواز جرجس، السياسة الأمريكية تجاه العرب: كيف تصنع؟ ومن الذي يصنعها؟، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998، ص 100-103 و114-119 و128-132.
6-نفس المرجع، ص 123.
7-http://anotherdayintheempire.com/noam-chomsky-wants-you-to-vote-for-hillary-clinton/
8-http://ipsos-na.com/download/pr.aspx?id=16379