مراجعاتٌ أم تراجعات؟ الثباتُ في زمانِ الفتن
هذه اللعبة بالضبط التي تم لعبها مع بعض الجماعات والرموز الإسلامية على مر التاريخ عند تصدرها المشهد في الثورات العربية ومن ثم فشلها، فتقوم تلك الجماعة المنهزمة بإصدار تصريحات تسميها بالمراجعات، وهي بالحقيقة ليست سوى تراجعات، تصريحات لم نكن نسمعها من العلمانيين نسمعها ونقرأها اليوم ممن يُعتبرون يمثلون تيارًا إسلاميًا.
هذا كله كان له أثر على الأفراد وتحول بعض العاملين في تيار الإصلاح إلى أعداء صرحاء أكثر شراسة من غيرهم، فما المشكلة؟ ولما هذا الانقلاب السريع في المفاهيم والمبادئ؟
إلى ذلك الشاب الذي بغض الظلم والظالم، وكره نفسه الخطاءة الضعيفة، فقرر الانتحار فكريًا أو فعليًا. إلى ذلك الشاب الذي رأى الخائن يلبس زي العسكر، وطبيبَ عيونٍ فقد البصر وألقى برميلًا أحمر، وشيخًا باع لحيته بنصف عمر، وقلمًا يكذب من دون حبر أو دفتر.
إليك أنت أيها الشاب الحيران التائه وسط هذا الضعف ووسط هذه الفوضى وتريد أن تراجع حساباتك لتتخذ قرارًا، انتبه أن تكون هذه المراجعة تراجعًا مخزيًا.
لستُ بصدد الحديث عن تراجعات بسيطة أو فترة ضعف وفتور، بل عن تحولٍ كاملٍ من مناصرٍ للقضية إلى مُحاربٍ شرسٍ لها، وهذا بالضبط ما حصل مع أسرى جنود الجيش الأمريكي، وإليك سردٌ سريع لهذه اللعبة النفسية.
كانت الصين الشيوعية ضد أمريكا في الحرب الكورية، واستطاعت الصين في هذه الحرب أسر عددٍ من جنود الجيش الأمريكي، ولعبت معهم لعبة نفسية سماها الباحثون بعد دراستها باسم “الإلزام والتوافق”.
تبدأ اللعبة بإشعار الأسير بأهمية رأيه واحترام هذا الرأي حتى إن كان ضد نظام الصين الشيوعي، يبدأ المحقق بمناقشة الأسير بأن ليس هناك أي نظام كامل، ويسأل: “أمريكا ليست كاملة أليس كذلك؟” فيجيب الأسير: نعم. وهنا تبدأ اللعبة، حيث يُطلب من الأسير قائمة بالأمور التي تجعل أمريكا ليست كاملة حسب وجهة نظره ثم يتم توثيقها.
وفي مرة أخرى تقيم إدارة السجن مسابقة لأفضل مقال يوضح الفرق بين النظام الأمريكي والنظام الشيوعي، حيث كانت تربح مقالات تنتقد الشيوعية لإظهار أنهم يتركونهم يكتبون بحرية دون إكراه أو إغراء بجوائز، فالجوائز كانت رمزية ليست قيمة مثل كيس أرز أو علبة سجائر.
كانت إدارة السجن تختار تلك المقالات التي فيها ميل للنظام الشيوعي وذكر بعض محاسنه ويتم نشرها على الإذاعة، هنا كان الجنود الأسرى يغضبون من هذه التصريحات من زميلهم الذي قدم شيئًا من الفائدة لعدوهم، وخاصة وهم يعلمون أنه لم يُكره على ذلك، فتكون ردة فعل الجندي بأنه قال ذلك من قناعة وأنه قام بعمل مراجعة لأفكاره، وهكذا رويدًا رويدًا يتحول من جندي أسير لأجل بلده إلى خائن يعترف على أصدقائه ومحاولات هروبهم وخططهم.
أسباب هذا الضياع وسط الفتن
أولًا: يجب أن تعرف صفات هذا الوسط التي تنتشر فيه الفتن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يتقارب الزمان، ويُقبض العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج.
قبض العلم، فالعلماء قلة في هذا الزمان وعلى قلتهم يُضيَّق عليهم ويسجن منهم ويقتل منهم، وأيضًا انتشار القلم فأصبح الجاهل يظهر بشكل العالم، ومن ذلك تنتشر الشبهات وكثرة الخلافات حتى وصلنا إلى مرحلة تكاد تجعل الإسلام جامدًا، بحيث تعطل كل مسألة بسبب الادعاء بأن فيها خلافًا ولا يؤخذ بها، وهذه الحالة وصفها الإمام ابن حزم فقال:
لو أن رجلًا لا يأخذ إلا ما أُجمِع عليه فهو فاسق بالإجماع.
ثانيًا: إن مثل هذه الأطروحات تجعل المسلم في حيرة تجعله يفقد التصديق بالوحي، كما ويفقد منزلة اليقين، حيث أن صفات الحيرة والتهرب من الوحي هي صفات خطيرة شيطانية يجملها أصحابها بأنهم لا يغلقون عقولهم، قال تعالى:”قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ”
إشكاليات أدت إلى تحول أفراد من تيار الإصلاح إلى تيار الإفساد
- سقوط وفشل الجماعات التي رفعت شعارات إسلامية براقة دون وجود مشروع حقيقي أدى إلى نفور الناس من هذه القضية الإصلاحية، بالتزامن مع ظهور رموز إسلامية تبارك وتؤيد الظلمة.
- التصور الملائكي المخالف للواقع، فالطريق مليء بالابتلاء والتمحيص، قال تعالى:
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ
- عدم اعتراف جماعات إسلامية بأخطائها أدى بها إلى تراجع مستمر في كوادرها.
- التركيز على دفع الظلم وبغضه بدون وجود زاد كافٍ من الإيمان المكتسب من العلم.
- النفسية المنهزمة في ظل ضعف القضية الإسلامية، لماذا ننصر قضية مستضعفة؟
كيف تثبت نفسك وقت الفتن؟
- انظر معي موقف أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- حين وفاة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وانظر كيف كان أبو بكر يثبّت الناس ويجعل ارتباطهم مباشرة بالله عز وجل:
من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
على الرغم من أن أبا بكر من أقرب الناس إلى الرسول، إلا أنه كان أقرب الناس إلى الله، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يربط الناس بالله تعالى؛ فعليك في هذا الوقت الارتباط بالحق فقط.
- تذكر ثواب الثابت وقت الفتن، واعلم أنه لايؤمن المرء حتى يُبتلى.
- لا تنشغل في وقت الفتن بالجدال والاختلافات بين الجماعات الإسلامية، واستمر بالعمل وإن كان عشوائيًا، رغم أن العمل بمنهجية هو الأفضل، ولكن لا تترك العمل.
يقول د.أحمد عبد المنعم مؤسس مشروع إنه لقرآن:
إذ لم تستطع بفكر التغيير فعليك بفكر النجاة.
بمعنى إذ لم تستطع تغيير من حولك فاعمل على نفسك، أي أنك تكون في حالة عمل مستمرة غير منقطعة، ولا تنسَ أيضًا أهمية الزاد الإيماني من صلاة وقيام ليل يعينك على الصبر والتوفيق، فكل خطوة تقوم بها تحتاج فيها كمية من هذا الزاد تعينك على الابتلاء.
ويوصي د. أحمد على ضرورة التوازن بين الفكر الأممي والفكر الفردي، فلا ينصرف كل الجهد في التركيز على مصائب الأمة السياسية والعقائدية، ولا ينصرف إلى العزلة عن الواقع والانشغال في الأمور العملية والتحسينية على الصعيد الفردي.
- أخيرًا، عدم انتظار النصر الفوري، فهذا الأمر بيد الله، والطريق صعبة وطويلة، وما لنا إلا أن نسعى لننال رضوان الله فهذه هي وظيفتنا، أما النتائج فهي من أمر الله وما لنا إلا الدعاء.
ونختم بكلمات الشيخ أشرف عبد المنعم في كتابه «مبادئ السياسة الشرعية»:
لكن ما نجزم به، أن المستقبل للإسلام ولأمته، وأن خط الأمة صاعدٌ عبر ما بقي من الزمن، وأن جهود المصلحين من علماء ودعاة ومجاهدين في سبيل الله ومناصرين للحق في الأرض لن تضيع سدى، وقد يكون القادم المحبوب أقرب مما يظن الكثيرون.
المصادر