جزائريون حاربوا مع الجيش الفرنسي ضد بلدهم.. تعرف على مصيرهم
مرت السنوات ثقيلة بطيئة محملة بالدماء وكانت تسمى «إفريقيا الشمالية الفرنسية» وليس الجزائر؛ هكذا كان يطلق عليها الفرنسيون وأتباعهم في ذلك الوقت المبكر من بدايات القرن العشرين، حيث عاش الجيل الذي نشأ بالجزائر في ذلك الوقت أكثر من سبعين عاما يصطلي بنيران احتلال فرنسي قاسٍ ومستبد، وعانى أولادهم مثل ذلك لعقود لاحقة.
كان ذلك الجيل يعيش بإحساس من ولد في وسط نفق مظلم، لم يرى النور في أوله، ولم يتخيل كيف سيكون النور في نهايته، هذا إن كانت له نهاية.!
في ذلك الوقت، ومن بين باقي المستعمرات الفرنسية، كانت الجزائر أكثر من أَمَدّ الجيش الفرنسي بالموارد المادية والبشرية خلال الحرب العالمية الأولى، فكانت الجزائر بلا منازع هي من زوَّد فرنسا بالمؤن والمعدات والمنتجات وبجنود للقتال على جبهات الحرب، وكانت تلقي بهم قيادات الجيش الفرنسي دائما في مواقع الهجوم وميادين الخطر.
ولم تقدم فرنسا على إنشاء الخدمة العسكرية الإلزامية خارج حدودها إلا في الجزائر بموجب مرسوم صدر في فبراير 1912. وبطبيعة الحال، أبدى جمهور الجزائريين مناهضتهم لهذا القرار وقاوموه قدر استطاعتهم، بينما شذت عن القاعدة مجموعة صغيرة أطلق عليهم الفرنسيون لقب «المتطوِّرون» و«المتحضرون» و«الشبان الجزائريون»، وكان حجة هؤلاء في الذهاب للحرب بجانب فرنسا أنهم يأملون في تحقيق باريس وعودها إما بتحرير بلادهم أو بإعطاء هؤلاء المقاتلين بين صفوف جيشها حقوق المواطنة الكاملة في فرنسا.
وتقول بعض التقارير إن تعداد الجزائريين الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى إلى جانب فرنسا وصل إلى نحو 175 ألف جندي، بينما ترفع تقارير أخرى العدد إلى 300 ألف مقاتل، تم استدعاؤهم وتجنيدهم بالقوة في جيش محتلي بلادهم.
الجثامين والتضحية الغالية في غير محلها، وقوبل كل ذلك بعدم وفاء ونكث للعهود من قبل فرنسا، وهنا بدأ إحساس مرير بالغبن بين من شارك في القتال بين صفوف جيش احتلال بلاده.
هذا المشهد تكرر بنفس تفاصيله بعد عشرين سنة في الحرب العالمية الثانية، ولكن باختلاف أسماء من شاركوا ومن قتلوا ومن امتلأت نفوسهم بمشاعر الغبن والخداع من قبل فرنسا التي خدعتهم مرة أخرى رغم أنهم وقفوا إلى جانبها بأموالهم ودمائهم حين كانت في خطر، وكان هذا من بين الأسباب التي مهدت الطريق أمام حركة تحرير وطني تبلور في الثورة الجزائرية التي امتدت ثمان سنوات كاملة من عام 1954 إلى عام 1962.
وبدءا من عام 1912، بدأ الفرنسيون يجبرون الجزائريين على الخدمة في الجيش الفرنسي، وكان معظمهم يعملون في المهن والخدمات الصعبة، وكانت الرتبة العسكرية للجزائريين، في أحسن الأحوال، لا تتجاوز رتبة نقيب.
«الحركى» خونة الجزائر يحاربون ضد ثورة بلادهم
رغم تضحيات أهل الجزائر على مدار 132 عاما من الاحتلال الفرنسي لبلادهم، وارتقاء أكثر من مليون شهيد في طريق تحرير بلدهم واستقلالها، توجد نكتة سوداء استطاع الفرنسيون لصقها بتاريخ الجزائر عبر تجنيدهم لجنود جزائريين تعرضوا لغسل أدمغتهم أولا، ليوجهوا رصاص بنادقهم ثانيا إلى أبناء جلدتهم خلال حرب التحرير الجزائرية.
ويطلق على هؤلاء الجنود اسم «الحركي» وهو مصطلح يعني العميل أو الخائن ويطلق على الجزائريين الذين حاربوا في صفوف جيش الاحتلال الفرنسي ضد ثورة التحرير في بلادهم من 1954 إلى 1962، ولهم عدة تسميات في الجزائر من بينها «الحَرْكي، القومِيَّة، القُيَّاد، الزْواف»، وعملوا على نقل أخبار مجاهدي ثورة التحرير إلى الجيش الفرنسي، وكانوا يشرفون على عمليات التعذيب والإعدامات الجماعية لأبناء الشعب الجزائري.
ومعظم هؤلاء كانوا على يقين بأن الجزائر ستبقى فرنسية للأبد، وكانوا مقتنعين بهذه الفكرة التي غرستها فيهم أجهزة الاحتلال الفرنسي.
ومن بين جرائمهم أن الجنود الفرنسيين كانوا يقومون بحملات اعتقالات واسعة وعشوائية، ويأتون «بالحركي الذي يقف أمام المعتقلين ووجهه مغطى بقماش ومثقوب في جهة العينين» حتى يشير لهم إلى المجاهدين أو المتعاونين مع ثورة التحرير، دون أن ينطق بكلمة خشية أن يتم التعرف عليه من قبل الجزائريين.
“الحركى” في مواجهة «جبهة التحرير الوطني»
تشير التقديرات إلى أنه كان هناك حوالي 250 ألف جندي يعملون لصالح فرنسا في الجزائر في عام 1961، تم استدعاء أو توظيف 65 منهم، إضافة إلى 185 كانوا مساعدين، و 57 ألف منهم كانوا من «الحركي»؛ وبالنسبة للباقين، فكانوا ينتمون إلى مجموعات أخرى، وعلى الجانب الآخر، تشير التقديرات إلى أنه خلال فترة الثورة الجزائرية، كان هناك 250 ألف جزائري في حركات المقاومة.
وجاءت فكرة تشكيل السلطات الفرنسية لوحدات «الحركي» كجزء من استراتيجية تهدف إلى القضاء على المقاومة التي اتخذت الجبال معاقل لشن هجمات ضد القوات الفرنسية خلال الحرب. فهؤلاء الحركيون كانوا أميين في معظمهم، واستغلت القوات الفرنسية أميتهم لتستفيد في نفس الوقت من معرفتهم تضاريس الجزائر أفضل من الجنود الفرنسيين، وكان دورهم يتمثل في بعض الأحيان في قيادة خط سير الدوريات الفرنسية في المناطق الوعرة.
وبالفعل شارك الحركيون في الحرب على «جبهة التحرير الوطني» التي كانت في نظرهم «جماعة إرهابية» في ذلك الوقت، وبعد الاستقلال أصبح الجزائريون يحتفلون ببطولات مجاهديها حتى اليوم.
وبعدما نالت الجزائر استقلالها في 5 يوليو 1962 سارع عدد كبير من الحركي إلى الفرار مع جنود جيش الاحتلال الفرنسي، وتقدر الدراسات التاريخية عددهم بنحو 60 ألفًا، وتحولوا مع مرور السنوات إلى جالية كبيرة في فرنسا يقدرها الإعلام الفرنسي في الوقت الحالي بحوالي نصف مليون شخص.
وكعادة المحتل الذي يتخلى عن عملائه في أقرب فرصة، تشير دراسات وشهادات تاريخية إلى أن فرنسا تخلت عن نحو عشرات الآلاف من «الحركي» وتركتهم في الجزائر، منهم من تمت تصفيته بأيدي الأهالي، ومنهم من غيَّر اسمه ومكان إقامته خشية تعرضه للقتل أو السجن.
وبحسب تقديرات غير رسمية، فقد بقي منهم، ما بين 55 إلى 75 ألفا في الجزائر، حيث تعرضوا لأعمال انتقامية، أما من نجح منهم في الوصول إلى فرنسا فقد عاني نفسيا وجسديا كثيرا. وكانت الظروف التي أحاطت بوصولهم إلى فرنسا صعبة للغاية. فقد تم تكديسهم وعائلاتهم في مراكز مغلقة لإيواء اللاجئين بجنوب وشمال فرنسا. وظلوا حتى فترة السبعينيات في تلك المراكز التي وصفت بأنها «سجون مفتوحة»، تربى فيها أولادهم وعاشوا فيها لسنوات طويلة.
وبعد تولي جيسكار ديستان الحكم في 1974، قرر إغلاق هذه المراكز وإسكان الحركي وعائلاتهم في شقق تقع في أحياء شعبية. وتشير تقارير أن عدد الحركى الباقين على قيد الحياة لا يتجاوز 8000 شخص (5000 رجل و3000 أرملة) فيما تتراوح أعمارهم ما بين 69 عاما و102 سنة.
«الحركي».. خونة في الجزائر ومشردين في فرنسا
أحد هؤلاء الحركيين يسمى «مهدي بن سعدي» يروى قصة مغادرته الجزائر لآخر مرة في حياته، حين وصل إلى فرنسا على متن باخرة مكتظة بالجنود الفرنسيين و«الأقدام السوداء» (الفرنسيين الذين ولدوا وتربوا في الجزائر خلال فترة الاحتلال ) في نهاية مارس 1962.
يقول بن سعدي لموقع قناة «فرانس24» إن «الجيش الفرنسي هو الذي أخذنا من البلدة التي كنت أسكن فيها إلى ميناء مرس الكبير بوهران لنركب باخرة فرنسية باتجاه فرنسا. لكن الرحلة استغرقت 8 أيام. كل المدن الساحلية الفرنسية رفضت استقبالنا. فبقينا نبحر في المتوسط دون أن يعلم أحد مصيرنا».
ويتابع: «وفي نهاية المطاف، مدينة مرسيليا هي التي أعطت الضوء الأخضر للباخرة لكي ترسو في الميناء. نزلنا منها تحت حراسة القوات الفرنسية التي قامت باقتيادنا إلى مركز «لرزاك» للاجئين حيث قضيت هناك رفقة زوجتي ثلاثة أشهر».
وكانت ظروف المعيشة في ذلك المخيم صعبة جدا «دون مياه ولا كهرباء ولا أدنى مقومات الحياة.. وأبناؤنا يعانون البطالة والتمييز والحرمان وهذا أمر غير طبيعي. وأضاف: «على الدولة الفرنسية أن تعترف رسميا بما قدمناه من تضحيات جسيمة لها كما يجب أيضا أن ينال أولادنا حقوقهم مثل باقي الفرنسيين الآخرين».
فرنسا تعترف بالتخلي عن عملائها السابقين
وبرغم تضحية «الحركي» بالنفس والنفيس لتحقيق مصلحة فرنسا ضد بلدهم الجزائر، إلا أنهم لم يجدوا ما كانوا ينتظرونه ممن ضيعوا شبابهم لأجلهم، حتى اعترفت فرنسا للمرة الأولى في عام 2016 بالتخلي عن الجزائريين الذين قاتلوا بجانب الجيش الفرنسي ثورة التحرير الجزائرية.
وأعلن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في 25 سبتمبر 2016 أن فرنسا مسؤولة عما حدث للمتطوعين الجزائريين، وقال «أعترف بمسؤولية الحكومات الفرنسية في التخلي عن المقاتلين الجزائريين، سواء المجازر التي تعرض لها الذين بقوا في الجزائر أو كذلك الظروف غير الإنسانية التي عاش بها من رحلوا إلى فرنسا».
الحركي بات عبئا على فرنسا
هذه الفئة التي باتت اليوم هي وأولادها وأحفادها تعد بمئات الآلاف، تكررت مطالباتهم بمنحهم تعويضات عما يقولون «إنها أضرار تعرضوا لها بعد استقلال الجزائر»، وطالبوا أيضا برد الاعتبار لهم.
ومن تبقى من هؤلاء الحركيين إضافة إلى أبنائهم وأحفادهم أنشأوا جمعيات أهلية خاصة بهم في فرنسا، وتكرر تهديدها برفع دعاوى قضائية في المحاكم الدولية ضد الحكومة الفرنسية، بينما هدد عدد منهم بتقديم شهادات تؤكد قيام الاستعمار الفرنسي بجرائم ضد الإنسانية في الجزائر، ما قد يجعل السلطات الفرنسية في مواجهة متجددة مع أشباح ماضيها.
ورغم مرور نحو ستين عاما على ثورة التحرير الجزائرية إلا أن هذا الملف ما زال يفرض نفسه على الأروقة السياسية في فرنسا والجزائر على السواء، فمنذ دخول الرئيس الفرنسي ماكرون إلى قصر الأليزيه في مايو/أيار 2017، أعاد فتح ملف الحركي، وقام بمنح أعلى رتبة تكريم في فرنسا لستة منهم ومؤسسة وجمعية تابعة لهم بدرجة «جوقة الشرف برتبة فارس»، وترفيع أربعة آخرين إلى درجة الاستحقاق الوطني برتبة ضابط، و 15 آخرين إلى رتبة فارس.
ماكرون يجنّد الحركي مرة أخرى.. ولكن لمصلحته الشخصية
احتفاء ماكرون بخونة الجزائر لم يكن من أجل عيونهم، ولا من أجل تبييض وجه فرنسا أمام خصومها أو حتى عملائها، بل كان من أجل مصلحته الشخصية، حيث تتعلق هذه الخطوة بالفترة الثانية للرئاسة الفرنسية التي يحضر لها ماكرون، وهدفه الأساسي من وراء ذلك هو استقطاب أصوات الحركى وعائلاتهم. خاصة بعد تواجد الكثير من أبناء الحركي في دواليب السلطة الفرنسية وامتلاكهم أنشطة اقتصادية عديدة.
ولطالما هدد ما تبقى من الحركي وأسرهم بأن ينتزعوا بأيديهم حقوقهم التي لم يروها بأعينهم حتى اليوم رغم التضحية بأعمارهم من أجل عيون فرنسا، وهددوا بأن يمنحوا أصواتهم إلى اليمين المتطرف، إذا لم تتكفل حكومة ماكرون بمطالبهم والاعتراف بوجودهم ودعمهم.
في معظم التجارب، تبتلى البلاد بوجود طائفة من الخونة، تجدر الإشارة إليهم بين الحين والآخر للتحذير من مسلكهم ولبيان خطأ طريقهم وسوء عاقبته، فلم يقدموا خيرا لبلادهم ولا لأنفسهم. وهذه النماذج من الخونة موجودة قديما وحديثا في بلاد الشرق والغرب على السواء ولا تقتصر على مكان أو زمان معين.
المصادر
9عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعط أجره ” .
عن أبي سعي