
أبو إسحاق الإلبيري: منسيٌ فى بلادٍ منسية
فى الثانى من ربيع الأول عام 897 للهجرة الموافق الثانى من يناير 1492م قام أبا عبدالله المعروف بالصغير- آخر ملوك غرناطة وآخر من حكم الأندلس من المسلمين حكما مستقرا – بتسليم غرناطة لملكى قشتالة وأراجون ( إزابيلا وزوجها فرديناند ).
هذا ما يقوله التاريخ الذى يقول أيضا : أن الأندلس التى استسلمت منها غرناطة أو سقطت فى نهاية القرن التاسع الهجرى كانت عوامل الأنهيار تنخر جسدها قبل هذا بسنوات طويلة ويسجل التاريخ أحد فصول هذا التداعى وهذا الانهيار الذي مهّد للسقوط وهو فصلٌ جرت وقائعه على أرض غرناطة أيضا ففى فترة من الفترات التى سبقت السقوط المرير للأندلس التى حكم فيها غرناطة زعماء بنى زيرى من قبيلة صنهاجة وهم قوم من البربر اتخذ أميرهم حبوس ثم ابنه باديس من بعده وزير يهودي اسمه إسماعيل (النغرلة)، ولما توفي خلفه في الوزارة ابن له يسمى يوسف.
فمن هو يوسف هذا وما هى حكايته؟
أصبح يوسف بن إسماعيل ( ابن النغرلة ) كبيراً للوزراء في غرناطة ومسؤولاً عن جمع الجزية من اليهود، ورئيساً أو ناغداً للطائفة اليهودية في غرناطة، وذلك على الرغم من أن عمره لم يكن يتجاوز إحدى وعشرين سنة وقد حقق يوسف نجاحاً باهراً في تحصيل المزيد من الأموال لخزينة الدولة . وكان يقول لـباديس: ” أنا رجل ذمي لا همة لي إلا خدمتك، وجمع الدراهم لبيت مالك “، وبذلك حصل على ثقة باديـس، فأوكل إليه قيادة الجيش عند الحرب.
يا إلهى !! يُسَلِّم ذلك الحاكم المسلم قيادة جيش المسلمين فى تلك الفترة العصيبة للأندلس إلى رجلٌ يهودى !! يُسلِم رقاب المسلمين ليهودى حاقد على الإسلام !! أليس ذلك يُذكّرنا بمثل ما نحياه اليوم فنرى القواعد العسكرية الغربية والأمريكية قد ملئت بلادنا العربية والإسلامية شرقا وغربا شمالا وجنوبا، أليست أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا وغيرهم من بلاد الغرب هم من احتلوا بلادنا وقتّلوا وشرّدوا من إخواننا المسلمين ما الله به عليم ونرى حكامنا اليوم يُسلّمون بلادنا للشركات متعددة الجنسيات التى معظمها إن لم يكن كلها يعملون على عدم قيام المسلمين باقتصادهم وإدارة مواردهم بذاتهم فهم يُهيمنون على كل شئ من دواء وغذاء وكساء وصناعات فنجدهم كالقراد الذى يمتص دماء الحيوانات ولا يكتفى بذلك فهو ينقل لهم الأمراض والميكروبات فالغرب و شركاته كذاك القُراد ولا حول ولا قوة إلا بالله .
فماذا فعل الوزير يوسف بمجتمع غرناطة من المسلمين؟
أحاط ابن النغرلة نفسه بحاشية كبيرة من اليهود الذين سلَّمهم أرفع مناصب الدولة، وكعادة اليهود وأعوان اليهود إن تسلّطوا فى أى زمن كان فقد كانوا يتصرفون وكأنهم فوق كل القوانين وأقام في قصره الحفلات الماجنة، دون مراعاة لمشاعر المسلمين من حوله . كما دفع الكِبر بـيوسف للسير على نهج أبيه في سخريته من المسلمين ودينهم، وشاركه في ذلك الكثير من اليهود، ولاسيما أصحاب الوظائف والمناصب الذين ازدادوا في عهده زيادة ملحوظة.
بل راح يطعن فى الاسلام علناً لدرجة أنه زعم وكذب فيما زعم أنه قادر على أن يجئ بمثل القرآن وذلك فى جُملة تطاولات أخرى رد عليه فيها الفقيه ابن حزم فى رسالة معروفة لكن يوسف بن النغريلة، ولكى نرى كم الكارثة التى أصابت غرناطة فى ذلك الوقت فننظر فى كلام ابن عذاري المؤرخ حيث قال عن تلك الفترة التى حكم فيها باديس بن حبوس : “وصارت لليهودِ صولة على المسلمين في دولته “، وظل ابن النغريلة بالرغم ما فعله ظل وبالرغم ما قاله وبالرغم ما قيل فيه مُستقِراً فى منصبه.
هل تعلم لماذا؟!!
لأن فى تلك الحقبة المظلمة التى سبقت الإنهيار المرير كان المجتمع بالأندلس يسير فى طريق الإنهيار، حيث انغمس الجميع بملذّات الدنيا واستطابوا المتعة واللذائذ وانغمس الحكام بسلطانهم وتسخير الناس للحفاظ على مناصبهم و تقاعسوا عن بناء الوطن وتماسك المجتمع ابتعدوا عن الجهاد وابتعدوا عن تعاليم دينهم سبب عزّهم وغرّهم الخلود إلى الدعة والراحة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لكن كما يقولون : فلما ضاقت واستحكمت حلقاتها فُرجت. فلقد قيض الله لذلك اليهودى الحاقد فى تلك الفترة المظلمة التى مرّت بغرناطة شاعراً فضحه ثأراً لدينه ورفضاً لذلك التسلط على رقاب المسلمين واستطاع ذلك الشاعر الفذّ بما أُتىَّ من فقه ومن موهبة وفصاحة أن يوقظ أهل غرناطة لتثور صنهاجة وتضع حداً له فقد ملأت الغيرة قلبه تجاه تلك الحُرمات التى انتهكها ذلك الحاقد المُسمّى بـ( ابن النغرلة ) وكيف لا يثأر وقد فعل ذلك الحاقد ما فعل فذلك الرجل المجاهد هو العالم الربّانى والشاعر الفذّ ( أبو إسحق الإلبيرى الأندلسى ) – رحمه الله رحمة واسعة – ورزقنا الله من أمثاله من يُعيننا على ما نحن فيه من ظروف مشابهة.
فماذا فعل ذلك الرجل المغوار فى مواجهة ذاك الوزير؟!
بدأ المواجهة مع الوزير بأن حض الإلبيرى – وهو حينذاك كان كاتبا لقاضى غرناطة – وحرض الأمير باديس على الفتك باليهود الذين نكثوا عهدهم مع المسلمين ومكّن لهم ابن النغرلة بغرناطة، لكن للأسف الشديد استطاع اليهودى ابن النغرلة أن يحمل الأمير على إخراج الإلبيرى من غرناطة ونفاه إلى البيرة، فبعد أن نفاه الأمير هل كان من المنُتظر للشيخ الجليل منافقة الحاكم ومهادنته!! لا والله ما كان للإلبيرى أن يفعل ذلك فلم يُهادن ولم يُنافق ذاك الأمير ليُحافظ على منصبه ولم يبع دينه بثمن من الدنيا قليل كما فعل ويفعل الكثير من علماء السلطان اليوم – عليهم من الله ما يستحقون – الذين يبيعون دينهم كى يحافظوا على مناصبهم، فلم يترك الشيخ جهاد ذاك الوزير فهو فى منفاه لم يكن ليملك إلا جهادُ البيان، فكان ذلك النفى محنة فى طيّاتها منحة، فقد أراح الله البلاد والعباد ببركة هذا الشيخ الذي نور الحق على كلامه.
نصرة الإسلام بأي شئ تملكه
ألهمه الله هناك فى المنفى قصيدة شعرية ألهبت حماس مسلمى غرناطة وأيقظتهم من سُباتهم العميق، فكانت بمثابة الشرارة التى أشعلت الثورة على استبداد اليهود فى أراضى المسلمين والرجوع إلى عزة دينهم فثارت أهل غرناطة فدخلوا علي الوزير (ابن النغرلة ) داره وقتلوه ثم صلبوه على باب المدينة فكان ذلك عبرة غيره، وأقول أن السبب الذى أراه وحيدا لما حققته تلك القصيدة هو إخلاص ذلك الشيخ الجليل- رحمه الله تعالى -.
والحق أن القصيدة تستحق ما حظيت به من شهرة، ولا نعرف إلا فى القليل النادر أن أبياتا من الشعر لعبت دوراً سياسياً مباشر فى التاريخ السياسى لأمة من الأمم، فكهربت العزائم، ودفعت بها فى سرعة خاطفة إلى إشعال الحرائق، وشحذت السيوف للقتل، كالدور الذى لعبته هذه القصيدة ولم يحدث أبداً أن كان البُغض ذا بصيرة، ولا الشراسة أكثر فطنة، كما حدث فى هذا اليوم.
ولمّا كان الشيخ الإلبيرى رمزاً للعالم الربّانى الموقِظ لأمته النّاصح لها نال منه المُستشرقين ولكنهم فى النهاية لا يستطيعون إنكار فضله ومكانته فى الشعر ومن هؤلاء المستشرق الأسباني (إميليو غارثيه غومث) الذى نشر ديوان أبي إسحاق الإلبيري لأول مرة في (مجلة الأندلس) التي كانت تصدر بمدريد، وقدم له بمقدمة قيمة، ترجمها إلى العربيه د. الطاهر أحمد مكي في كتاب (مع شعراء الأندلس والمتنبي) فقال : وفى هذه الترجمة كلام طويل، تحامل فيه (غومث) على أبي إسحاق الإلبيري، وعده في أعداء التطور والرقي، قال: (ومع جفاف قلبه المدمر، وشموخه بالعفة، وعناده الذي يخفي هوّات عديدة، ومنطقه الثرثار المليء بالقوة .. وقصيدته التي تشتعل توهجا ضد اليهود كان جديرا بأن يحتل مكانه في الصف الأول من الشعراء)
قبسات من قصيدة الإلبيري:
فهذه قبسات من تلك القصيدة العظيمة الشأن، فممّا قال فى وصف سخرية اليهودى من الإسلام :
فإنا إلى ربنا راجعون **** ويضحك منا ومن ديننا
وعبر عن تعجبه من تخاذل وعدم إنكار أهل غرناطة لما يفعله الوزير بهم وبدينهم :
فما يمنعون وما ينكرون **** وقد ناهضوكم إلى ربكم
ووجه أبياتا إلى أمير غرناطة باديس بن حبوس لينبّهه من خطر اليهود على غرناطة:
وكيف يتمُّ لك المُرتقى ** إذا كنت تبنى وهم يهدمون
وكيف استنمت إلى فاسقٍ ** وقارنته وهو بيس القرين
وقد أنزل الله في وحيه ** يحذر من صحبة الفاسقين
فلا تتخذ منهم خادما ** وذرهم إلى لعنة اللاعنين
فقد ضجت الأرض من فسقهم ** وكادت تَميد بنا أجمعين
تأمل بعينيك أقطارها ** تجدهم كلابا بها خاسئين
وكيف انفردت بتقريبهم ** وهم في البلاد من المبعدين
على أنك الملك المرتضى ** سليل الملوك من الماجدين
ومما قال عن نكث يهود غرناطة للعهود مع المسلمين وعن تسلطهم بعد ذلك على رقاب المسلمين وإذلالهم لمسلمي غرناطة:
وقد نكثوا عهدنا عندهم ** فكيف تُلام على الناكثين
وكيف تكون لهم ذمة ** ونحن خمولٌ وهم ظاهرون
ونحن الأذلة من بينهم ** كأنا أسئنا وهم مُحسنون
فلا ترضى فينا بأفعالهم ** فأنت رهينٌ بما يفعلون
وراقب إلهك في حزبه ** فحزب الإله هم الغالبون
وفى النهاية أقول: هل لنا من مثل ذلك الرجل الذي ألهب مشاعر أمته وأيقظها من غربتها التي كانت تحياها فيلهب حماس شباب أمتنا اليوم ويُبصرهم بما يفعل بنا حكام بلادنا من إذلال لنا ولديننا ويُشعل في قلوبنا الشرارة التي تأتى على أخضر الطغاة ويابسهم ولله دُر أبو إسحق الإلبيرى الذي كان يصرخ بأعلى صوته قائلاً:
نادى الملوكَ وقُل لهم ماذا الذي أحدثتُمُ
أسلمتم الإسلامَ في أسر العدا وقعدتُمُ
وجب القيام عليكُمُ إذ بالنّصارى قُمتُمُ
تذكرة واجبة
إننا هنا نُذكّر أننا لم نروى تلك القصة كى نعجب بها ونندهش بما فعل صاحبها وبما حقق وفقط ولا لنيأس من أحوالنا التى نعيشها اليوم ولكن نذكرها لكى نعتبر ونتعلم كيف نُقلّد مثل هؤلاء الصالحين وكيف نسير على دربهم. فماذا يُعلِّمُنا الإلبيرى من ذلك الموقف الذى رويناه؟؟!
يُعلمنا الإلبيرى أن أى هيمنة للعدو على بلادنا تعمل على إذلالنا والنيل من ديننا لابد أن تُقابل بالمقاومة فديننا أعزّ ما نملك على وجه البسيطة، فكما هيمن اليهود على مسلمى غرناطة بالأمس يُهيمن علينا اليوم رأس الأفعى أمريكا ونظيراتها من الدول الغربية فواجبنا اليوم مقاومة تلك الهيمنة بأى وسيلة كانت وبأي موهبة مملوكة لدينا، فالإلبيرى فى منفاه لم يكن يمتلك إلا موهبة الشعر فأحسن استغلالها لتحقيق غايته فعلى الرغم من بساطة تلك الموهبة إلا أنّها مع الإخلاص فى نصرة الله عز وجل ونصرة دينه تفعل الأفاعيل. لذا فعلى كل واحد منّا أن يبحث عن تلك المواهب المدفونة بداخلنا تلك التى منّ الله بها علينا والتى تُوجب علينا شكرها ومن الشكر حُسن استغلالها فى نشر الوعى بين المسلمين وكشف الأخطار التى تعرَّض ويتعرض لها المسلمون يوماً بعد يوم وكيفية مواجهتها، فمن منّ الله عليه بصوت حسن فيستخدمه في أن يلهب حماس الناس للمقاومة والثورة ومن منّ الله عليه بالشعر فليكتب منه ما يُشعل به نيران الغيرة على الدين وغير ذلك من المواهب والله المُستعان وكما قال أحدهم: فالسعيد حقاَ.. من أوقفه الله على ما فتحَ له من الخيرات ، يَلج منها إلى نعيم الجنّات !!
يُتبع إن شاء الله تعالى ….
المصادر :
1 – رسالة ماجستير عن أبو إسحق الإلبيرى بجامعة أم درمان بالسودان.
2 – سلسلة مشهورون منسيون
فلسطين هي بلد الرجال و الاقصى سيعود لنا ان شاء الله