الشابان الألمعيان: الطريفي والسكران رواد الدعوة في الجيل الجديد

الإسلام لا يقاس بعدد الدول المسلمة، ولا عدد الفتوحات والانتصارات، ولكن بتحقيق الإيمان الصادق في قلوب أبنائه -ولو كانوا قلة-، فيحمل كل فرد منهم حِملًا لا تقدر عليه الجِبال.

نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله. [1]

هؤلاء الرجال أمثال عبد الله بن المبارك، وابن تيمية، ويوسف بن تاشفين، من الذين فاضت أرواحهم إلى رب العزة، وهناك من ينتظر أن يلقى المنية على خطى أولئك المجاهدين، فهم رجال لو فاض علمهم على أمتهم لجعلها كعبة للعلم، ولو فاض أدبهم على أمتهم لوجدتها ذات حضارة راقية، ولو فاض صبر جهادهم على الأمة لأعز الله بهم تلك الأمة المباركة.

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)

الخير في أمتي

فأمة الإسلام لا، ولن، ولم تخل من ذوي العقول المفكرة، وأصحاب العلوم القيمة، وذوي الآداب الراقية، لأننا -وبكل بساطة- أمة خيريتها باقية إلى يوم الدين بمشيئة الله -جل وعلا-.
المؤسف في الأمر تحول الناس من مجالس العلماء، وحلق الذكر إلى استماع الأغاني، والجلوس في المقاهي، والسهر على أنغام الحفلات الوطنية، والتي تعج بأغلب ما حرم الله، والغريب أن حكام المملكة ممن يدعون لهذه الحفلات الوطنية هم من يروجون بأن أولئك الدعاة دينهم المُصدر للعامة ظاهره جميل، أما باطنه فمشوش الفكر، جاف العقيدة، ضيق الأفق-كما يزعمون-!

مآلُ العلماء والمُجاهدين

ومن هنا أدعو كل من ضيع ذلك الأجر العظيم، والثواب الجزيل في حضور مجالس العلماء أن يتفكر ويرجع بذاكرته إلى الوراء قليلًا، ويسأل نفسه: هل أُغلقت مجالسٌ إلا للعلماء؟! وهل بُنيت وشُيدت سجونٌ إلا لتكون مَسكنًا للعاملين منهم؟!

ابن تيمية -رحمه الله- أمضى في السجن قرابة الخمس سنوات، ما بين سجون دمشق، والقاهرة، والإسكندرية، وأحمد بن حنبل الذي تحمل ضرب السياط، والسجن قرابة الثلاث سنوات، وابن القيم الذي سُجن في سجن القلعة قرابة السنتين، وسيد قطب الذي صار السجنُ بيتًا له!!

هل عرفت الجواب الآن؟ هؤلاء العلماء والمفكرين الأفاضل يا أخي هم السائرين على درب الحق ومن سار على نهجهم -نسأل الله نكون منهم-.
ويقول الشيخ مشاري الشثري -الكاتب والباحث في مركز البيان للبحوث والدراسات- بشأن اعتقال العلماء:” هي رسالة مشجعة، مطمئنة لأهل الغلو بأن صوت الجهل والعقل في الحكم سواء.”.

يحكي الباحث والكاتب السوري -خليل مقداد-:” سألني ذات يوم أحد الأصدقاء من هو الشيخ الذي تعتبره قدوة ومثلًا لك، وتأخذ بقوله، فأجبته: ليس لي شيخ ولا أتبع طريقة ولا تيارًا بعينه، لكن هناك عالم فقيه لمست فيه الصدق والأمانة، والحرص على الأمة والعقيدة فأحببته، وإني أشهد الله وأشهدكم على حبه”.

عبد العزيز الطريفي

هكذا هو حال العلماء الصادقين؛ عبد العزيز الطريفي ذلك الشيخ الذكي؛ ما يجلس على موائد الكتب إلا ويلتهمها التهام الأسود، فمنذ سن صغيرة جدًا حفظ المتون، وقرأ المجلدات عدة مرات، وحفظ الأحاديث بأسانيدها، وطرقها المختلفة، يقول عنه الشيخ المحدث الدكتور -محمود ميرة-:” سمعت به ولم أره؛ ولكني قرأت له فرأيت أنه من المتميزين جدا جدا، وبلغني أنه ليس كبير السن وهذا شيء طيب، أن يخرج في مثل هذه الأوساط مثله، ويبدو أنه صاحب إطلاع واسع ومكتبة كبيرة.”.

وعندما تحدث عن نفسه قال:” ثلاث عشرة سنة لم أخرج إلى البر؛ بل كنت في قراءة وحفظ”!، لِمَ لا وقد روى طلابه أنه في أوقات الانتظار بين المحاضرات قرأ أكثر من مائة كتاب، وقد قرأ فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية -وهي عبارة عن خمس وثلاثمائة مجلد- مرتين في المرحلة الثانوية، وعندما ألح عليه بعض الإخوة بأن يجيبه على سؤال:” كم ساعة تخصصها للقراءة يوميًا؟”، وبعد إلحاح ثلاث مرات، كان الجواب:” من سبع إلى اثني عشرة ساعة يوميًا.”.

يظن بعض الحكام أن تنازله عن بعض دينه إرضاء للكفار سيوقف ضغوطهم، وكلما نزل درجة دفعوه أُخرى، الثبات واحد والضغط واحد فغايتهم (حتى تتبع ملتهم)

— عبدالعزيز الطريفي (@abdulaziztarefe) ٢١ أبريل، ٢٠١٦


ذلك الفذ في طفولته قرأ “المغني” لابن قدامة وهو بن إحدى عشر عامًا، ولخص بعض أبوابه، ويكمل عن نفسه:” أنه كان يحفظ من ثلاثين إلى خمسين حديثًا بشكل يومي قد تزيد وقد تنقص، وإذا كان الحديث معلوما فإنني أحفظ جميع طرقه غالبًا.”

أنعم الله على ذاك الشيخ الجليل بنظرة ثاقبة، وقوة في الحق لم تُعهد في علماء زماننا، فقال في لقاء على قناة العربية:” لو كانت قناة العربية في زمن النبوة ما اجتمع المنافقون إلا فيها، ولا أنفقت أموال بني قريظة إلا عليها”.

لو كانت (قناة العربية) في زمن النبوة ما اجتمع المنافقون إلا فيها، ولا أُنفقت أموال بني قريظة إلا عليها .

— عبدالعزيز الطريفي (@abdulaziztarefe) ٢٩ يونيو، ٢٠١٣

إبراهيم السكران

لم يقتصر علماء الأمة على شخص الشيخ الطريفي -فك الله أسره بالعز-، فهذا الشاب أيضًا -إبراهيم السكران-؛ الذي شعرت فيه بلمسة قطبية في فكره وكتاباته، وكأنه سيد قطب ذلك الزمان.

أبو عمر إبراهيم بن عمر السكران المشرف الوهبي التميمي، محامٍ سعودي، وباحث، ومفكر إسلامي، له اهتمام بالفلسفة، والتنوير، والمذاهب الفكرية، والعقدية، حصل على شهادة البكالوريوس في الشريعة من جامعة الإمام محمد بن سعود، والماجستير في السياسة الشرعية من نفس الجامعة، وكذا الماجستير في القانون التجاري الدولي من جامعة اسكس البريطانية، وأتم دورة تدريبية في تعلم الإنجليزية في نيوزيلندا -وكانت مدتها خمسة أشهر-.

أما عن كتابات ذلك الألمعي فستجد فيها نَفَسًا قرآنيًا، تدبريًا من المحال أن تخطئه عين قلبك، فأثناء رحلته لتعلم الإنجليزية أعاد دراسة كل المؤلفات الفكرية في ضوء القرآن، فبدأ من فاتحة الكتاب إلى الناس، وأخذ يقف على كل مقطع يتأمل ما فيه من شواهد، وإجابات على الأسئلة الفكرية، ثم يسجل الآية مع الإشارة إلى وجه الاستشهاد بها، وخلال شهرين وصل إلى خواتم الجزء الثلاثين، ثم حرر خلاصة تلك النتائج في أسبوعين فقط.

اقرأ أيضًا: قراءة في كتاب الماجريات للشيخ إبراهيم السكران

مع العلم أن دراسة القرآن تلك التي حولت إبراهيم السكران من المتأثرين بالخطاب الليبرالي، ومن مصدري البحوث في نقض العلوم الشرعية، إلى حالة خاصة تصدرت المشهد السلفي السعودي، كذا الواقع الإسلامي.

فلم يكن السكران بمعزل عن الواقع الغربي والأسس الفلسفية العربية والغربية، بيد أنّ هذه الفلسفة لم تؤثر على مخطوطاته الفكرية بطابعها وعمقها الإسلامي وحرارتها الإيمانية والحركية، وفي هذا يُعلِّق  الشيخ-عبدالله العجيري- على كتاب “مآلات الخطاب المدني” بأنه:” أعظم منتج فكري قدمته الحالة السلفية في المشهد المحلي السعودي”.

ويُذكر أن ورقة المآلات السابقة عقب نشرها عام ألفين وسبعة ميلاديًا، أعلن مؤلفها -الشيخ إبراهيم السكران- فيها براءته التامة مما سبقها من مؤلفات وكتب يقول:” أنا أبرأ إلى الله من كل حرف خططته قبل ورقة مآلات الخطاب المدني، وأحذر كل شاب مسلم أن يغتر بمثل هذه المقالات التي كنت فيها ضحية الخطاب المدني المعاصر الذي يغالي في الحضارة والتسامح مع المخالف، وأنصح إخواني الذين لازالوا مخدوعين بمثل هذه المفاهيم أن يعودوا للقرآن ويسيروا الطريق واضحًا”.

اقرأ أيضًا: ملخص كتاب سلطة الثقافة الغالبة لإبراهيم السكران

مصير أمثال هؤلاء

لكن سرعان ما تلقى تلك النماذج الناجحة والفذة في أمتنا الإسلامية مواجهة شرسة من الحكام؛ فقد كان مصير الطريفي هو السجن بعدما انتقد قرار الحكومة في تقليص صلاحيات “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، كذلك السكران الذي تم اعتقاله منذ عام إثر تصادم كتاباته على تويتر مع القرارات الخارجية للمملكة، وقد صدر حكم في حقه بالسجن لمدة خمس سنوات.

ويقول عمرو بسيوني في ذلك الشأن:” قرار منطقي وفق براجمتيك نظام يتخلص من عبء الماضي الإسلاموي، وفك صيغة عقدة التأسيس معه، وذلك في ظل وجود مشيخي تقليدي راكد عديم التأثير من بقايا السلفية”.

فهذان الشيخان على الرغم من اتساع الدنيا إلا أنها ضاقت عليهما بشدة، فالدنيا كما وصفها -عليه الصلاة والسلام-:” الدنيا سجن المؤمن، جنة الكافر”، فلم تُعطِ الدنيا أحدًا منهما سوى سعة السجن؛ عَلهُما فيه يعذبان فيمحُ الله بذلك العذاب الخطايا، ويرفع به الدرجات، أو علهما يتدارسان؛ فيكون علمهما مسجلًا في ورقات تهديهما حسنات وافرة عند الممات.

فك الله أسر الشيخان، وجمعنا بهما ومن على شاكلتيهما على مائدة العلم في الدنيا، وعلى موائد النعيم في الفردوس الأعلى!


[1] خليفة المسلمين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه-.

المصادر

بشرى جلال

طالبة علم، مهتمة بقضايا الأمة والشأن السياسي. More »

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى