أبو حنيفة ومنهج رعاية الموهوبين
إن من أهم القضايا التي ينبغي أن يعنى بها الباحثون والعلماء ما تعلق بالكشف المبكر عن النابغين و الموهوبين النجباء، وإبراز نقاط القوة ومواطن الفتوة، من خلال إرشادهم لمهاراتهم التي انفردوا بها عن الأقران، وتميزوا بها عن باقي الخلان، إذ لا بد من رعايتهم والعناية بهم. ولا يكون ذلك إلا بالتنقيب والتوجيه القريب، والتشجيع فالترغيب. فالمربي يتابع عن كثب النمو الطبيعي للمهارات والطاقات حتى تنضج وتؤتي أكلها في الحياة.
ولا تنسوا-إخواني-عنصر الزمن فهو جزء من العلاج، وينبغي-مع ذلك-أن تدرج خطة زمنية واضحة المعالم، تخضع للتقييم والتقويم في كل مرحلة. تتم عملية رعاية هذه النبتة المتفردة، بانتقائها أولًا، ثم تغذيتها بالمياه العذبة، والأيادي المهرة، والرعاية والعناية بالخطوات المنهجية والممارسات العملية المنظمة، ثم تدريبها بتدرج على الظهور، وصقل الملكات المعرفية والمهارية شيئًا فشيئًا، وتوظيفها في مكانها المناسب. مع العناية الفائقة بعنصر التشجيع المستمر وعملية بناء الثقة في الموهوب، وتذليل مصاعب الدروب. كما ينبغي أن يتحلى المعلِّم والمتعَلَّم بالمداومة والمثابرة في جميع الأحوال والظروف.
قصة يعقوب
هذه قصة ذائعة شائعة، مشعة لامعة، أردت أن أحللها في ضوء ما ظهر لي من زوايا، لنتجنب على مستوى الأفراد والمجتمعات ما قد نقع فيه من خطايا، فالسعيد من اتعظ بغيره، وأسأل الله أن تكون عبرة للمعتبرين، ودرسًا بليغًا للمتعظين.
كان يعقوب يتيمًا معدمًا، فقيرًا بائسًا مبهمًا، يلاقي بنفسه المصاعب، وينازع لوحده المتاعب، وقد أرسلته أمه الرؤوم إلى صباغ ببغداد ليتمرن عنده قليلًا، وليعمل بعدها زمنًا طويلًا، عله يرجع بدريهمات تسد رمق العائلة البائسة، وتكفي حاجة الأسرة المكدودة اليائسة. أرادت الأم ليعقوب الأشغال، فالدلال لا يصنع الرجال. وكانت تنتظر بفارغ الصبر الأجرة، فطال بها الزمن حتى سالت منها العبرة، فلم تقبض شيئًا من الأجر.
فهمت بأمر سوء، وأخذت تولول وتصرخ، وتصيح وتستصرخ، وأزمعت بعد ذلك القرار، وحددت لنفسها الوجهة والمسار، فلحقت بولدها وعندها خلفية، وتابعت خطواته في تكتم وسرية، وقد شكت في متابعته لشلة دنية، لكن الله أراد لابنها جهة علوية، حيث اجتاز الغلام محل الصابغ الشهير، ومضى بشوق إلى المسجد الكبير، فحدقت الأم بعينيها في باحته، فرأت الأفواج تخرج من ساحته، فترصدت للمارة عند السقيفة، ثم سألت متلهفة عن ابنها في خيفة: قالوا يحضر حلقة الإمام أبي حنيفة، فاقتربت من ولدها ومعه الإمام، فأشارت إليه بأصابع الاتهام، وقالت:
أفسدت عليَّ ابني يا إمام، وأنا فقيرة كسيرة أعاني الحرمان، والولد يتيم لا أعوله إلا بشق الأنفس، وأنت تمسكه عن رزقه وتحبس، وقد دفعت به إلى صابغ ليعينني، فترك كل شيء واتجه إليك ليشقيني، فاتركه لحاله، ليعمل في مجاله!
رعاية الموهوبين
تفهم أبو حنيفة الوضع، وعالجه بحكمة الرفع والوضع، فدعا الولد وملأ جيبه بالنقود، وأكرمه بالمال الموجود، إشارة إلى تغير الأحوال، وتشجيعًا منه لكفاءات ومواهب الأطفال، وقال له كلامًا يكتب بماء العيون، وهو اكتشاف للدر المصون واللؤلؤ المكنون:
فيك استعداد، ولك موهبة، وقد توهمت أنك ستحل المحل الجهير، إنك ستأكل بهذا العلم الفالوذج بدهن الفستق.
استعداد وقدرة فائقة
موهبة وفطرة دافقة
أمل وبشرى، ورؤية وفكرة.
هكذا اكتشف أبو حنيفة مهارات طفل مغمور، فأيقظ في حسه الصغير مكنونات الشعور، وشجعه للتقدم، وأمله ما يسر بتفهم، فالتفتت الأم بقلبها إلى نداء السيادة، ودفعت حياتها ثمنًا لاستثمار منتوجها للريادة.
إن الاستثمار في الموارد البشرية هو أعظم مشروع يرجع بأرباحه بصفة مستمرة، فيحقق عوائد مستقرة، فلننظر في مقدراتنا، ولنبحث في أولادنا وبناتنا، علَّنا نعثر على الكنوز المطمورة الدفينة والجواهر الغالية الثمينة!
الغرس يثمر
عود على بدء، وهكذا يا كرام، مرت الأيام، بحلوها ومرها وقد بذر أبو حنيفة نبتة في أرضها، وقد وجدت الأم في نفسها من كلام الشيخ تحفيزًا، وصبرت واحتسبت صقلا للمهارة وتعزيزًا، حتى صار يعقوب يدعى بأبي يوسف الموهوب، فإن جهلت الأول فقد عرفت الثاني، فكف عن التقاعس و التواني، واترك بصمتك في حياتك قبل مغادرتك ومماتك.
وإذا كانت النفوس كبـــارًا تعبت في مرادها الأجســــــــــام
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتـــــــــــــال
قلب يظل على أفكاره ويـد تمضي الأمور ونفس لهوها التعب
ارتقى الفتى فأصبح ذا مكانة شريفة، كيف لا وهو من أشهر تلامذة الإمام أبي حنيفة، وأيم الله إنه لفقيه بغداد والأمصار، وهو قاضي قضاتها الكبار ولقد تحققت فيه الفراسة، وساد قومه بالمحبرة والدراسة، إذ دعاه أمير المؤمنين هارون الرشيد لحضور مأدبة فيها السادة والقادة والحكماء ذوي النهج السديد، فتقدم بخطوات رائدة، فوجد الفالوذج قد غرق بدهن الفستق في المائدة، فقال أبو يوسف في غبطة: “رحم الله أبا حنيفة”، فسأله الرشيد عن سر البسمة الظريفة، فذكر له أصل الحكاية، ففهم الرشيد المقصد والغاية، فازداد له احترامًا، وخصه بشيء من الرعاية.