عبد الله بن المبارك.. مجاهد بالسيف فقيه بالبيان
ابن واضح الإمام شيخ الإسلام، عالم زمانه، وأمير الأتقياء في وقته، ولد في مرو وهي من مدن خراسان في عام مئة وثمانية عشر هجريا في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك لأم خوارزمية وأب تركي يعمل أجيرا بسيطاً لكن فضله على ابنه كبير حيث ورث عنه مالًا وافرًا ساعده على قضاء حياته طالباً للعلم مجاهداً سخياً بأمواله في الإنفاق على إخوانه وتجهيزهم للحج وتوفى في عام مئة وواحد وثمانين هجريًا في خلافة هارون الرشيد وهو في الثالثة والستين من عمره.
رحلة طلب العلم
بدأ في طلب العلم وهو ابن العشرين، وقد عُرف عنه انه مثال نادر جدا في طلب العلم حيث انه لم يترك قطر من أقطار العلم إلا وسافر إليه من مصر و اليمن والشام والبصرة والكوفة، كان ولعاً بالكتابة فكتب عن من سبقه ومن في سنه بل وكتب عمن هو أصغر منه، حتي سأله قومه كم تكتب فقال لهم: لعل الكلمة التي انتفع بها لم أكتبها بعد، كان يحب التخصص في طلبه للعلم وأن يصب اهتمامه وتركيزه على علم بعينه بجانب اهتمامه بالكم فقد اهتم بعلم الحديث والإسناد وآثار الصحابة فقد قال: “لنا في صحيح الحديث شغل عن سقيمه”، وعمل على جمع أربعين حديثًا تطبيقًا للحديث النبوي “من حفظ على أمتي أربعين حديثًا من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء” وكان يقول “خصلتان من كانتا فيه نجا :الصدق وحب أصحاب النبي ” , و كثرة حبه في العلم وحسن خلقه يظهر في موقفه حينما قيل له : إذ أنت صليت لم لا تجلس معنا قال : أجلس مع الصحابة والتابعين أنظر في كتبهم وآثارهم فماذا أصنع بكم؟ أنتم تغتابون الناس، وكان يكثر الجلوس في بيته فقيل له ألا تستوحش فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي وأصحابه؟
جهاد بن المبارك
وله في الجهاد والغزوات عدة مواقف تظهر شجاعته وعلمه بالفقه حيث حكي عنه رحمه الله عليه أنه قال: “خرجت للغزو مرة فلما تراءت الفئتان خرج من صف الترك فارس يدعو إلى البراز فخرجت إليه فإذا قد دخل وقت الصلاة قلت له: تنح عني حتى أصلي ثم أفرغ لك فتنحى فصليت ركعتين وذهبت إليه فقال لي: تنح عني حتى أصلي أنا أيضا فتنحيت عنه فجعل يصلي إلى الشمس فلما خر ساجدا هممت أن اغدر به فإذا قائلا يقول: “وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا” فتركت الغدر فلما فرغ من صلاته قال لي لما تحركت؟ قلت: أردت الغدر بك قال: فلم تركته؟ قلت لأني أمرت بتركه. قال الذي أمرك بترك الغدر أمرني بالإيمان وآمن والتحق بصف المسلمين. فقد دعته أخلاقه ألا يغدر بأعدائه فكانت بركة أخلاقه أن انضم عدوه إلى الإسلام بعد أن كان من المحاربين له “.
أما عن الجهاد بالمال فقد قال محمد بن علي بن الحسن بن شقيق: سمعت أبي قال: كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، ويقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق ويُقفل عليها، ثم يكتري له ويخرجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال يُنفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مُروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول، فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طُرفها؟ فيقول: كذا وكذا فيشتري لهم، ثم يخرجهم إلى مكة فإذا قضوا حجهم قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالُك أن تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يُخرجهم من مكة، فلا يزال يُنفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو، فيجصص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسرّوا دعا بالصندوق، ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صُرته عليها اسمه.
ومن أقواله الدالة على الحكمة والورع أنه قال “إن البصراء لا يأمنون من أربع: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع فيه الرب عز وجل، وعمر قد بقي لا يُدرى ما فيه من الهلكة، وفضل قد أُعطي العبد لعله مكر واستدراج، وضلالة قد زينت يراها هدىً، وزيغ قلب ساعة فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر”، وقال: “الدنيا سجن المؤمن، وأعظم أعماله في السجن الصبر وكظم الغيظ وليس للمؤمن في الدنيا دولة، وإنما دولته في الآخرة”، وقال أيضا:
“الصمت أزين بالفتى * من منطق في غير حينها
والصدق أجمل بالفتى * في القول عندي من يمينه
وعلى الفتى بوقاره * سمة تلوح على جبينه
فمن الذي يخفى على * ك إذا نظرت إلى قرينه
رب امرئ متيقن * غلب الشقاء على يقينه
فأزاله عن رأيه * فابتاع دنياه بدينه”
كان ابن المبارك من أكثر علماء عصرة شهرة واجتمعت فيه من محاسن الأخلاق ومكارمها الكثير فحينما أراد أصحابه ذكر محاسنه قالوا ” العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعة، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه “, وقال عنه بن معين: كان ثقة متثبتًا وكانت كتبه التي حدث بها نحوًا من عشرين ألف حديث. قال يحيى بن آدم: كنت إذا طلبت الدقيق من المسائل فلم أجده في كتب ابن المبارك آيست منه، وعن محمود بن والان قال: سمعت عمار بن الحسن يمدح ابن المبارك ويقول:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة*****فقد سار منها نورها وجمالها
إذا ذكر الأحبار في كل بلدة*******فهم أنجم فيها وأنت هلالها.
وعندما توفى قال هارون أمير المؤمنين: مات سيد العلماء.
هو عبد الله بن المبارك زاهد بن زاهد قضى حياته في التطواف والترحال وطلب العلم والجهاد والحج وتجهيز الحجاج والغزوات فعظم الله أجره وجزاه عظيم الثواب.