معهد بروكنجز: العودة إلى لعبة الشرق الأوسط العظيمة (الجزء الثاني)

لا زلنا نواصل متابعة الجزء الثاني من الموضوع التحليلي لمارتن س إنديك، أحد أهم خبراء العلاقات الدولية الأمريكية، ونائب رئيس ومدير قسم السياسات الخارجية لمعهد بروكينجز، واسع النفوذ في واشنطن، في تحليله للسياسة الأمريكية في فبراير (شباط) العام الماضي، والمعنون بـ«العودة إلى لعبة الشرق الأوسط العظيمة»، بعد نشرنا للجزء الأول هنا.

بالأمس، في الجزء الأول، جادلت بأن الولايات المتحدة لم يعد لديها ترف التعامل مع فوضي الشرق الأوسط بشكل تدريجي. لابد من الاختيار بين استراتيجيتين، ليس لواحدة منهما جاذبية خاصة ولكل منهما عيوبه الخطيرة. ولكن لو أن الولايات المتحدة لا تريد دفع ثمن فرض النظام بنفسها بقوة على هذه المنطقة المضطربة بشدة، فلا بد لها من اختيار شركائها الإقليميين والعمل معهم إما لبناء نظام الحكم القديم أو لبناء نظام جديد. وهذا الخيار هو ما بين سيادة مشتركة مع إيران أو العودة إلى المستقبل بالتحالف الأمريكي مع الشركاء التقليديين: السعودية، ومصر، وإسرائيل.

السيادة المشتركة مع إيران ستصبح احتمالية فقط لو عقدت اتفاقية تضع قيود حقيقية على البرنامج النووي الإيراني. بدون هذه الاتفاقية، سيصبح من المستحيل تخيل التعاون مع إيران في قضايا إقليمية، وبها سيصير التعاون على القضايا ذات الاهتمام المشترك ممكن، تماما مثلما اقترح أوباما في نوفمبر 2014 في خطابه إلى المرشد الأعلى الإيراني، ومثلما يتخيل بعض المعلقين المحافظين حدوث في الوقت الحاضر على خلاف الواقع.

أي تفاهم مع إيران يشجعها على استخدام نفوذها في تدعيم النظام والاستقرار بدلا من استغلال الفوضى المنتشرة سيكون له مزايا عديدة. التعاون الإيراني الغير مفصح عنه مع الولايات المتحدة لإزالة نوري المالكي من السلطة في بغداد اثبت خطورته وأهميته لنجاح الاستراتيجية الأمريكية للتعامل مع داعش في العراق. فلو أن إيران تعاملت مع الولايات المتحدة بالمثل لإزاحة بشار الأسد لصالح عقد مصالحة سياسية بين كل الطوائف السورية، فسوف تمكن الولايات المتحدة من مواصلة حملة أكثر فعالية ضد داعش في سوريا. ولسوف يتحسن الوضع في الشرق الأوسط بشكل واضح جدا، لو أن إيران قيدت حزب الله، وتوقفت عن مساعدة الفلسطينيين-رافضي الصلح مع إسرائيل- وضغطت على جماعة الحوثي للانسحاب من صنعاء والعودة لعملية المشاركة السلمية للسلطة.

ومع هذا، لربما كان ضربا من الخيال الاعتقاد بأن بإمكان الولايات المتحدة إقناع إيران بالانتقال من خانة دورها الحالي كأكثر القوى الثورية تهديدا في المنطقة لتصبح بدلا من ذلك شريكا في بناء نظام جديد في الشرق الأوسط. سيتطلب ذلك من المرشد الأعلى الإيراني أن يتغلب على شكه الشديد في نوايا الولايات المتحدة وأن يكبح جماح الحرس الثوري الإيراني ووزارتي الأمن والمخابرات والتي تعد من أهم أدوات النظام الإيراني في السعي وراء أهدافها المتمثلة في أحلامها بالهيمنة والسيادة الإقليمية. وأي محاولة للسعي وراء سيادة مشتركة مع إيران ستكسب الولايات المتحدة غضب حلفائها التقليديين في المنطقة وخاصة: السعودية وإسرائيل وحلفائهما في دول الخليج والكونجرس الأمريكي على التوالي. لشعورهم بالخيانة، سيتصرف كلاهما مثلما يريد بلا اعتبار لاهتمامات الولايات المتحدة.

فلو استثنينا هذه الاستراتيجية لافتقارها للجدوى العملية وللثمن العظيم المرتبط بها، فما هي قابلية البديل للتطبيق؟ العودة
لاستراتيجية تتبنى الاعتماد على حلفائنا التقليديين ستتوفر على الأقل على أساس يمكن الاعتماد عليه. مع تصاعد الفوضى، فإن إسرائيل، ومصر، والسعودية، والأردن، وباقي الممالك العربية أظهرت مخاوف حقيقية من تهديد إيران، وحزب الله، وحماس،
وداعش. ونتيجة لهذا، فقد أبدوا اهتماما حقيقيا بمواجهة مصادر الاضطراب تلك والتي تهدد الاستقرار في المنطقة. تلك الدول في الحقيقة تحوي إمكانيات قوية مجتمعة: لإسرائيل أقوي جيش وأقوى سلاح جوي في المنطقة، ومصر هي أكبر الدول العربية وأكثرها تأثيرا، وملك السعودية له شرعية إسلامية بالإضافة للثروة والنفوذ كونه أكبر مصدر للبترول في العالم.

وبالرغم من هذا، ففي الوقت الحاضر فإن الولايات المتحدة ليست على وفاق مع أي من هذه الدول: الاختلاف والمجادلة مع
رئيس وزراء إسرائيل حول النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية وحول بنود الاتفاق النووي مع إيران، وانتقاد نظام السيسي في
مصر لقتله لمواطنيه في الشارع واعتقاله لعشرات الآلاف منهم، والاختلاف مع النظام السعودي حول مصير نظام الأسد في سوريا، ومصير الاخوان المسلمين في مصر، وحول السيطرة الإيرانية في العالم العربي السني. وهناك بالطبع أسباب منطقية لكل هذه الاختلافات، ولكن لابد من إخضاع تلك الأسباب للوقت الحاضر حتى يستعيد النظام مظهره وثقته وبعدها يمكننا متابعة تلك الأسباب.

لمتابعة استراتيجية “الركائز” المحدثة، لا بد للولايات المتحدة من إعادة بناء الثقة مع حلفائها التقليديين في الأهداف الأبعد
للولايات المتحدة وفي نفس الوقت تحاول البحث عن طريقة لتقليل وحل الخلافات. فمثلا، في حال عقد اتفاق نووي مع إيران، لابد للولايات المتحدة من موازنة ذلك الاتفاق بتوفير مظلة دفاع نووي لإسرائيل والسعودية. وأيضا لابد للولايات المتحدة من تقليل
اختلافاتها مع طريقة معاملة النظام المصري لشعبه، وتبحث عن طريقة للعمل مع إسرائيل لحل المشكلة الفلسطينية. لابد من العمل على إبعاد الولايات المتحدة عن الإخوان المسلمين مع اتخاذ خطوات أكثر صرامة مع نظام الأسد في سوريا.

وعلى ماذا ستحصل الولايات المتحدة في المقابل؟ أولا، يمكن توقع المزيد من التعاون الحقيقي ضد مصادر الاضطراب في
المنطقة. حاليا، الأردن ومصر بدؤوا بالفعل في رفع وزيادة استخدام القوة والعنف ضد داعش في العراق وسوريا وليبيا. وبازدياد الثقة في إخلاص الولايات المتحدة لنفس الأهداف، لربما اقتنعت باقي الدول السنية بتوزيع جزء من قواتها العسكرية على الأرض مع مستشارين عسكريين أمريكيين، مما قد يساعد في توفير عنصر هام جدا وناقص في الحملة المناهضة لداعش.

بازدياد شعور الغاية المشتركة، يمكن للولايات المتحدة أن تبني إطار عمل أمني على المستوى الإقليمي والذي سيتضمن
للمرة الأولى إسرائيل. والأساس لهذا موجود بالفعل في كل الاتفاقات الثنائية التي عقدتها الولايات المتحدة مع كل من حلفائها الإقليمية وبالتعاون الأمني المتزايد بفعالية بين اسرائيل والأردن ومصر، بالإضافة للعديد من الصلات الأمنية السرية بين إسرائيل ودول الخليج.

فاعلية أي إطار عمل مثل هذا سيتوقف جزئيا على مبادرة إسرائيلية لحل الأزمة الفلسطينية. وبالطبع محاولة حل مثل هذه المشكلة في إطار عمل إقليمي يستفيد من معاهدات السلام الثنائية ومبادرات السلام العربية سيوسع من آفاق الحل.

دفع وتقويض التأثيرات الإيرانية على العواصم العربية والحدود الإسرائيلية يعد تحد طويل المدى. ولكن أي مجهود لمواجهة هذا التحدي ستزداد قوته بشكل ملحوظ عند بناء تحالف واقعي ومتماسك يكافئ خطورته. وأي اتفاقية تمنع إيران من الحصول على
أسلحة نووية سيفتح الباب بمرور الوقت إلى مزيد من الوفاق مع إيران مما سيؤدى إلى المزيد من التعاون في بعض المجالات التكتيكية ذات الأهمية المشتركة (مثل: مواجهة داعش، ودعم انتقال سلمي للسلطة في دمشق) بالإضافة إلى المنافسة والاحتواء في القضايا الخلافية حيث تختلف الاهتمامات بين إيران والولايات المتحدة.

هكذا، يمكن للولايات المتحدة أن تبني نظام حكم بقيادتها في الشرق الأوسط بالشراكة مع حلفائها الإقليميين، ويجب على
حلفائها أن يتقدموا ويقوموا بدورهم ولكنهم سيفعلون ذلك بثقة أكبر لو علموا أن الولايات المتحدة تعمل معهم وليس ضدهم.

تبيان

تبيان، مجلة رقمية تتناول ما يُهم أمّتنا ومشاكلها وقضاياها الحقيقية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى