تبعات الانفصال عن الخلافة العثمانية: كيف أضرت هويات التجزئة بأصحابها؟ (النهايات والعبر)
تفتيت الوحدات الجغرافية الكبرى واختلاق هويات أصغر وأضعف داخل الهوية الجغرافية الواحدة
إضافة للانقسام الذي زرعته التجزئة الاستعمارية في الدولة العثمانية التي كانت تجمع بلادنا في وحدة فأصبحت منقسمة على نفسها، وجدنا هذه التجزئة تفتت الوحدات الجغرافية الأصغر وتجعل منها كيانات متعددة ومتعادية، فقد بنيت الهوية السورية المعاصرة على فصل لبنان وفلسطين والأردن عن سوريا الكبرى، فأصبحت الحواجز تفصل بين أبناء الوحدة الجغرافية الواحدة وتضع السلاح فيما بينهم، وهذا الانفصال قد أضر بالكيان السوري إذ فصل عنه هذه الأراضي الواسعة وجعل له هوية تختلف عن هويات هذه الفروع وعن الهوية السورية الكبرى.
وكذلك القول في الصومال الذي كان يضم مساحة واسعة قام المستعمرون الأوروبيون (البريطانيون والفرنسيون والإيطاليون) باقتسامها واختلاق هوية صومالية مصغرة تقوم على استبعاد الأجزاء الواقعة في جيبوتي (الصومال الفرنسي) وأوغادين (في أثيوبيا) والشريط الشمالي الشرقي في كينيا، ولم تعترف الدولة العثمانية بكل عمليات الاحتلال الأجنبي التي قسمت الصومال إلى أن تنازل النظام الكمالي عن الأملاك غير التركية للدولة في معاهدة لوزان سنة 1923 [56].
ونفس الوضع ينطبق على وادي النيل الذي أصر الاستعمار البريطاني على فصل جزئيه المصري والسوداني عن بعضهما البعض، ورغم أن حكم محمد علي وسلالته للسودان لم يكن حكماً نظيفاً، إذ كان الاستغلال هو دافعه، فإن الحل لم يكن بالتجزئة والتقسيم كما شاهدنا اليوم أن مشاكل الجنوب السوداني لم تحل بالانفصال.
ولم يقف الأمر عند فصل جناحي وادي النيل عن بعضهما البعض، فقد جاء من يفاقم التجزئة والانعزال بالمطالبة بتقليص دور مصر والاقتصار على همومها الذاتية والتركيز على هويتها الخاصة، مما أدى إلى الإضرار بها، وتعليقاً على الرؤى المتناقضة لوضع مصر بين الوحدة مع محيطها والانعزال القُطري يعلق الدكتور عبد الوهاب المسيري على التجربتين الناصرية والساداتية بالقول إن عبد الناصر أدرك “أنه لا نهضة ولا مستقبل لمصر من دون انخراطها في مشروع عربي، فمصر وحدها لا تملك كل مقومات التنمية والنهضة، أما السادات فلم يفهم ذلك لأنه لم يقرأ التاريخ ولم يدرك ما أدركه جمال حمدان ومن سبقه من مفكرين بأنه لا نهضة لمصر دون أن تكون جزءاً من كيان سياسي أكبر، فمن أراد عزل مصر عن محيطها، عزلها عن حضارتها، السادات وكل البراجماتيين-النفعيين الذين رفعوا شعار “مصر أولاً”.. نظرتهم للمستقبل نظرة سطحية، فهم يعالجون أزمات ومشاكل آنية دون النظر إلى المستقبل، تلك المعالجات تخلق على المدى البعيد مشاكل ضخمة، وهذا ما صنعه السادات حين رفع شعار “مصر أولاً” ..واشتبك مع الدول العربية وتصور أن الولايات المتحدة ستقدم له حلولاً لمشاكله الاقتصادية، وأن (إسرائيل) ستحل له مشاكله السياسية، وفي الوقت الذي بدأت فيه دول العالم تدخل في تكتلات اقتصادية كبرى تفككت منظومة العمل العربي المشترك، وبدلاً من حل أزماتنا الاقتصادية والسياسية أصبحت مصر بكل تاريخها تابعاً ينتظر ما يأتيه من أمريكة…لقد تراجع دور مصر الإقليمي وأصبحت تابعاً يقبل كل ما يفرض عليه من إملاءات، فاعتمادنا على الولايات المتحدة أفقدنا القدرة على اتخاذ قرار سياسي منفرد” [57].
اقرأ أيضا: تبعات الانفصال العربي عن الخلافة العثمانية
الاستنتاج
كان ظهور هويات التجزئة في بلادنا مصلحة مؤكدة للاستعمار الذي تقوم علاقاته على مبدأ “فرق تسد” الذي درسناه صغاراً، وكانت هذه الهويات ضارة بأصحابها الذين فرحوا لبرهة بمظاهر الاستقلال الفارغة كفرح الصغير عندما يدخن أول سيجارة في حياته ويظن أنه أصبح رجلاً بذلك دون الاعتبار بما يتضمنه الموقف من أضرار مستقبلية، ومنهم من غفل عن الثمن الضخم الذي دُفع للمستعمِرين من ازدهار هذه المحميات للحفاظ على هذا “الاستقلال”، وليس من الحكمة اليوم بعد التجارب المريرة من الضعف والهزيمة والخيانة التي مرت بنا في الحياة القُطرية الاستمرار في الدفاع عن الهويات الجزئية.
وإذا كانت الجغرافيا متنوعة فهذا لا يعني وجوب الانقسام السياسي وهذا ملاحظ في جميع الدول الكبرى اليوم التي تحوي تنوعات جغرافية عديدة، وكثير منها يحتوي اختلافات عرقية ودينية وثقافية كثيرة جداً، ولا يضر هذا باستقرارها ونموها بل يكون عاملاً مساعداً على جذب الكفاءات من كل أنحاء العالم، ومع ذلك تصر الهيمنة الاستعمارية الغربية على رؤية “الهويات المتعددة في الشرق الأوسط” بواسطة عدسات مكبرة تكبيراً لا حدود له مما يجعل هذا الشرق “لا يمتلك هوية جمعية خلافاً للهند أو الصين أو أوروبا” [58]، ونسي الغربيون ونسينا نحن تبعاً لهم أن كل هذه “الهويات المتعددة” كانت مجتمعة في كيان سياسي واحد وُصفت مرحلته العثمانية بكونها من أكثر الدول التعددية استمراراً واستقراراً في التاريخ [59]، وأن تنوعها الحضاري، الذي ضم العرب على تنوعهم والأكراد والأتراك والأرمن واليونان والبلغار والصرب واليهود، أدهش نخبة أوروبا في زمنه [60].
ويصر الغرب اليوم على إدامة الحواجز الشرقية التي صنعها بنفسه على أنقاض وحدتنا التي كان له دور رئيس في تدميرها في الوقت الذي ألغى هو كل الانقسامات الفرعية داخله، سلماً أو بالعنف، ولم يبق إلا الهويات الكبرى الجامعة، ومع ذلك يتساءل ببلاهة ما هو المشترك الذي يجمع بين المغرب وسوريا؟ [61]، ولا يتساءل عما يجمع بين هولندا واليونان أو حتى بين فرنسا وبريطانيا مع ما بينهما من إرث العداوة الطويل وتناقض المصالح الكبير والاختلافات السياسية والاقتصادية والقومية واللغوية والدينية والثقافية المتجذرة، ويظن الغربيون أن كراهية الكيان الصهيوني “هي الشيء الوحيد الذي يوحد العرب” وأن اشتراك العرب في العداوة حياله يؤدي إلى تعزيز هذه الوحدة [62]، ولم يتساءل الغربيون عن سبب اشتراك العرب في كراهية كيان هناك دول قريبة منه ولكنها لا تحمل له نفس العداوة العربية مثل قبرص وبقية دول البحر المتوسط الأقرب إليه من كثير من العرب، ولم يتساءل الغربيون عن سبب وجود عداوة بين السودان والصهاينة وعدم وجودها بين دولة قريبة جداً من السودان كأثيوبيا والكيان الصهيوني، أليس ذلك دليلاً على وجود ما يوحد العرب والمسلمين من خلفهم قبل أن توجد القضية الفلسطينية وهو ما جعلهم يتفقون في معاداة الصهاينة، وأنه ليست هذه المعاداة هي التي وحدتهم؟ وهل نسي الغرب تاريخنا الطويل الحافل بالوحدة ليدعي أنها طرأت بسبب حدث معاصر؟
وإن استمرار الاحتفاء بالهويات الجزئية وعدم الاعتبار بالدروس المستقاة من إيجابيات الوحدة حتى في مرحلة ضعفها وتراجعها في آخر أيام الخلافة، وسلبيات التجزئة حتى في أزهى أزمانها، سيؤدي إلى مزيد من الانقسامات إذ ستطالب كل محافظة أو مدينة أو أقلية بالاستقلال بناء على تميز لهجتها أو هويتها وهذا طريق وعر سيقودنا إلى تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ وأن يصبح كل فرد فينا دولة بعلم ونشيد باسم تميزه عن أخيه وصديقه وجاره كما تثبت ذلك بطاقة هويته الشخصية المختلفة عن هوياتهم (!) في الوقت الذي تسخر الدول العظمى منا ومن ضعفنا إذ أن جميع دول الاستقلال الوهمي والتجزئة المجهرية غير قادرة على الاستقلال الحقيقي لأن قلة إمكاناتها الناتجة عن صغر مساحاتها تجعلها غير قادرة على إطعام مواطنيها أو الدفاع عن أنفسها أو كفاية حاجاتها وتضعها في منافسة مع جيرانها مما يجعل الحل بالتعلق بالأجنبي القوي لضمان البقاء أو التفوق على الأقران وبهذا فإن الخيانة من طبيعة هذه الدول بما يجر الضرر على مواطنيها وعلى محيطها وأمتها على حد سواء.
الهوامش
[56]-يلماز أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، منشورات مؤسسة فيصل للتمويل، استانبول، 1990، ترجمة: عدنان محمود سلمان، ج 2 ص 865. [57]-الدكتور عبد الوهاب المسيري، حوارات (3): الهوية والحركية الإسلامية، دار الفكر، دمشق، 2010، تحرير: سوزان حرفي، ص 119-120. [58]-برنارد لويس، الهويات المتعددة للشرق الأوسط، دار الينابيع، دمشق، 2006، ترجمة: حسن بحري، ص205. [59]-Robert Aldrich (Ed), The Age of Empires, Thames & Hudson, London, 2007, p. 43. [60]-أحمد عبد الرحيم مصطفى، في أصول التاريخ العثماني، دار الشروق، القاهرة، 1982، ص 131.-زاكري كارابل، أهل الكتاب: التاريخ المنسي لعلاقة الإسلام بالغرب، دار الكتاب العربي، بيروت، 2010، ترجمة: د. أحمد إيبش، ص 233.
[61]-جورج حبش، الثوريون لا يموتون أبداً، دار الساقي، بيروت، 2011، حوار: جورج مالبرينو، ص 264. [62]-بيتر مانسفيلد، تاريخ الشرق الأوسط، النايا للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2011، ترجمة: أدهم مطر، ص 429.