السلام العالمي والإسلام

إن الإسلام ينفي منذ الخطوة الأولى معظم الأسباب التي تثير في الأرض الحروب، ويستبعد ألواناً من الحرب لا يقر بواعثها وأهدافها. يستبعد الحروب التي تثيرها القومية العنصرية، فلا مكان فيه للقومية العنصرية، وهو يقرر أن الناس كلهم من أصل واحد، وأنهم خلقوا كلهم من نفس واحدة، وأنهم جعلوا شعوباً وقبائل ليتعارفوا.

ويستبعد الحروب التي تثيرها المطامع والمنافع: حروب الاستعمار والاستغلال، والبحث عن الأسواق والخامات، واسترقاق المرافق والرجال. فلا مكان فيه لهذه الحروب، وهو يعد البشرية كلها وحدة متعاونة، بل يعد الحياة كلها أسرة قريبة النسب، بل يعد الكون كله وحدة غير متنازعة الأهداف. وهو يأمر بالتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وهو يحرم السلب والنهب والغصب، وهو يعد البشرية كلها بالحق المطلق، لا فارق بين جنس أو لون أو عقيدة في الاستمتاع الكامل بعدل الله في ظل شريعة الله، في النظام الذي قرره الله.

كما يستبعد الحروب التي يثيرها حب الأمجاد الزائفة للملوك والأبطال. أو حب المغانم الشخصية والأسلاب. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى. فمن في سبيل الله؟ قال-صلى الله عليه وسلم: “من قاتلَ لتكونَ كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله”

هنا تتبين تلك الحرب الوحيدة المشروعة التي يقرها الإسلام: “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله” فماذا هي كلمة الله التي يقاتل من يقاتل في سبيلها فيكون في سبيل الله؟

إن كلمة الله هي التعبير عن إرادته، وإرادته الظاهرة لنا نحن البشر، هي التي يقررها هو-سبحانه-ويحددها كلامه: “حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله”. ولا يكون الدين كله لله، إلا عند إفراد الله-سبحانه-بالألوهية والربوبية والعبادة والطاعة والدينونة. فلا يعبد الناسُ إلا إلهاً واحداً، ولا يدينون في نظام حياتهم ومعاشهم إلا لما يشرعه ويأذن به هذا الإله الواحد، ولا يستمدون مناهج حياتهم الدنيوية-كالأخروية سواء-إلا من منهج الله القويم. وبهذا وحده يكون الدين كله لله-بمعنى الدينونة لله وحده في كل شأن من شؤون الحياة-وبذلك يكون في الأرض رب واحد، لا أرباب متفرقة…

ولقد جاء الإسلام إلى هذه الإنسانية كلها، فمن تحقيق كلمة الله أن يصل هذا الخير الذي جاء الإسلام به إلى الناس جميعاً، وألا يحول بينهم وبينه حائل. فمن وقف في طريق هذا الخير أن يصل إلى الناس كافة، وحال بينهم وبينه بالقوة، فهو إذن مُعتدٍ على كلمة الله، وإزالته من طريق هذه الدعوة هي إذن تحقيق لكلمة الله. لا لفرض الإسلام فرضاً على الناس، ولكن لمنحهم حرية المعرفة وخيرة الهداية. فالإسلام لا يُكرِه أحداً على اعتناقه: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” ولكنه يكره الذين يقفون بالقوة في طريقه، ويفتنون الناس عنه. أو يمنعونهم ابتداء من تبين الرشد من الغي، عن طريق السيطرة عليهم وحرمانهم حق الاختيار. وهذه هي الحرب التي يقرها الإسلام ويحرض عليها تحريضاً، ويدعو رسوله أن يحرض عليها المؤمنين ويحب الذين يخوضونها، ويعدهم أعلى درجات الرضوان…

ولقد جاء الإسلام ليحقق العدالة في الأرض قاطبة، ويقيم القسط بين البشر عامة. العدالة بكل أنواعها: العدالة الاجتماعية، والعدالة القانونية، والعدالة الدولية، فمن بغي وظلم وجانب العدل فقد خالف عن كلمة الله، وعلى المسلمين أن يقاتلوا لإعلاء كلمة الله، وأن يردوا الشاردين عنها إليها حتى لو امتشقوا الحسام في وجوه المسلمين الباغين، فالعدل المطلق، ورد البغي والعدوان، هو كلمة الله التي يجب أن تعلو في كل حال وفي كل مكان: “وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”.

وإذا كان الإسلام يدعو المسلمين أن يقاتلوا المسلمين البغاة لرد البغي وتحقيق القسط، فهو يدعوهم إلى دفع الظلم كافة. إلى دفع الظلم عن أنفسهم وإلى دفعه عن كل مظلوم لا يملك له دفعاً، على ألا يعتدوا هم ولا يبغوا في أثناء رد العدوان: ” وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ” ” وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا”.

لهذه الأغراض العليا وحدها يحمل الإسلام السيف، ويعظم الإسلام الجهاد، ويعدُ المجاهدين أعلى درجات الشهادة والجزاء… ولهذه الأغراض العليا وحدها يدعوهم إلى أن يعدوا العدة، ويهيئوا القوة، وألا يهنوا ويدعوا إلى السلم الرخيصة…

وحين تتحقق الحرية المنيعة، فلا يُصدُّ الناس بالقوة عن كلمة الله، ولا يُفتنون عن دينهم الذي ارتضاه لهم الله نظاماً شاملاً للحياة، وحين لا يقوم في الأرض سلطة تعبّد الناس في الأرض لأرباب من دون الله. وحين تتحقق العدالة الخيرة، فلا يبغي بعض الناس على بعض، ولا يستذل بعضهم رقاب بعض. وحين يتحقق الأمن للضعفاء الذين لا يملكون عن أنفسهم دفاعاً، ويكف الباغي عن بغيه ويجنح إلى السلم والمهادنة. حين يتم هذا فالإسلام المالك للقوة المستعد للطوارئ يضع السيف جانباً ويدعوا إلى السلم فوراً: “وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ”. “ووَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ”.

ذلك إجمال فكرة السلام في الإسلام: السلم قاعدة والحرب ضرورة. ضرورة لتقرير سلطان الله في الأرض ليتحرر الناس من العبودية لغير الله. وضرورة لدفع البغي من البغاة وتحقيق كلمة الله وعدل الله. ضرورة لتحقيق خير البشرية، لا خير أمة ولا خير جنس ولا خير فرد. ضرورة لتحقيق المثل الإنسانية العليا التي جعلها الله غاية للحياة الدنيا. ضرورة لتأمين الناس من الضغط، وتأمينهم من الخوف، وتأمينهم من الظلم، وتأمينهم من الضر. ضرورة لتحقيق العدل المطلق في الأرض. فتصبح إذن كلمة الله هي العليا.

وواقع الإسلام التاريخي يثبت هذه المبادئ النظرية… وهكذا سارت الدعوة على هذا الأساس، لا يبغي محمد صلى الله عليه وسلم من الناس إلا أن يستمعوا إليه. فإن صغت قلوبهم إلى الإيمان فليؤمنوا، وإن قست قلوبهم وران عليهم الضلال فأمرهم إلى الله. متى تحقق لهم أن يتحرروا من سلطان الطواغيت ويواجهوا عقيدة الإسلام أحراراً في الاختيار، بغير ضغط من سلطة قاهرة تصدهم عن هدى الله وتقف لهم بالقوة دون الاستجابة للهداه.

ولكن الجاهليين لم يسالموا محمداً صلى الله عليه وسلم، ولم يدعوا للدعوة السلمية طريقها، ولا لمعتنقيها المقتنعين بها حريتهم، فآذوهم وأخرجوهم من ديارهم وأبنائهم، وقاتلوهم حيثما وجدوهم، وحالوا بين الدعوة وبين الأسماع بالقوة المادية المجردة من كل إقناع.

وعندئذ حمل الإسلام السيف ليذود عن مبدأ أساسي من مبادئه: مبدأ حرية الدعوة وحرية العقيدة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}

ولا يتم الحديث عن طبيعة السلام في الإسلام حتى نشير إلى المجال الذي يعمل فيه الإسلام. إن الإسلام في طبيعته الكلية في النظرة إلى الحياة، لا يجزّئ السلام، ولا ينشده في حقل مفرد من حقول الحياة. إنما يجعل السلام كله وحدة، ويحاول تحقيقه في كل حقل، ويربط بينه وبين النظرة الكلية للكون والحياة والإنسان. وبذلك تصبح كلمة “السلام” التي يعنيها الإسلام ذات دلالة أعمق وأشمل من معناه الذي تتعارف عليه الدول في هذا الأيام. فهو السلام الذي يحقق كلمة الله في الأرض من الحرية والعدل والأمن لجميع الناس، لا مجرد الكف عن الحرب بأي ثمن، مهما يقع في الأرض من ظلم ومن فساد! ومهما يكن في الأرض من طاغوت واعتداء على سلطان الله وألوهية الله!

وحين يحاول الإسلام إقرار السلام الشامل وفق مبادئه العليا في تحقيق كلمة الله، لا يبدأ في مجال السلام الدولي، فتلك نهاية المرحلة لا بدايتها، وما السلام الدولي إلا الحلقة الأخيرة التي تسبقها حلقات.

إن الإسلام يبدأ محاولة السلام أولاً في ضمير الفرد، ثم في محيط الأسرة، ثم في وسط الجماعة. وأخيراً يحاول في الميدان الدولي بين الأمم والشعوب.

إنه ينشد السلام في علاقة الفرد بربه، وفي علاقته بنفسه، وفي علاقة الفرد بالجماعة. ثم ينشده في علاقة الطائفة بالطوائف، وعلاقة الأفراد بالحكومات، ثم ينشده في علاقة الدولة بالدول بعد تلك الخطوات.

وإنه ليسير في تحقيق هذه الغاية الأخيرة في طريق طويل يعبر فيه من سلام الضمير، إلى سلامة البيت، إلى سلام المجتمع، إلى سلام العالم في نهاية المطاف.


المصادر

السلام العالمي والإسلام، سيد قطب.

أحمد طه

كاتب ومهتم بالشأن الإسلامي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى