التأصيل المنهجي لقضايا المرأة

لعلك؛ وقد قُدِّرَ لكَ أنْ تنال نصيبك من الحياة في هذه الفترة من الزمن، قد مرعلى سمعك ذات مرة قولة قائل: “قضايا المرأة”. وإذا بسيل من تساؤلات يجري في ذهنك، أو شرود اصطحبك في  جولة إلى ساحات السجال، ليُملي عليكَ مذكّرا إيّاك ما سمعته من توجيهاتٍ وأقوالٍ تتردد فيها، بل قد يستدعى عقلك من وقع تلك الجملة مذاهبَ وتيارات فكرية قد نشأت ناتجةً عن قضاياها ومشكلاتها، أو قد تنشأ في نفسك استجابة مبنية على تشرّبك وتأثرك بها؛ سواء وعيًا أو لا وعيًا، بها أو ببعضها.

وإذا كُنتِ امرأة ربما تندلع في نفسك شُعيلة من غضب ومشاعر ثورة. أو ربما كنت ممن يقفن على بُعدٍ من منطقة السِّجال، يعلمن أن عنوانه “قضايا المرأة”، لكنك لم تقتربي لسبب أو لآخر. فإنه لا يسلم لك طُهر فِكرك من أدران باطلٍ متسرب. ذلك أنه قد تسلل إلينا دون الإفصاح عن نفسه صراحةً، متنكرًا بزينته، مستعملًا في ذلك وسائل قريبةً منا للوصول إلينا بخفية.

لذا فإني أدعوك، وكل من يؤمن بمرجعية الوحيَيْنِ (الكتاب والسنة) في هذه القضية، للجلوس دقائق للحديث عن مشكلة المرأة، حديثًا تحركه دواعي الإفراط كما دواعي التفريط في حقها، ثم ننظر كيف احتوى الإسلام هذه القضية؟ متناولين تأصيلًا منهجيًّا بنائيًّا علاجيًّا لقضيتها في الإسلام.

اضطهاد المرأة.. منذ متى ولِما؟

لم تغب مشكلة المرأة عن الحضور في واقعها عبر التاريخ. وبشكل عام، كانت المرأة طواله مستضعفةً مضطهدةً، اللهم إلا الفترات التي استضاءت بنور النبوات. ذلك أن حضور مشكلتها مرتبط بحضور طبيعتها وتركيبها الخَلقي الذي لا ينفك عنها عبر الأزمان، ولا أعني بذلك أن المشكلة تكمن في طبيعتها وخِلقتها نفسها، بل المشكلة في حيرة البشر وعدم قدرتهم على إيجاد الطريقة المثلى والعادلة لفهمها والتعامل معها.

إن اتصاف المرأة بالضعف الجسماني والنفسي مقارنةً بالرجل، جعلها عرضةً للظلم والجور من قِبَله، كما هو الحال المعلوم عن الفئات الأضعف. كما أن كون المرأة مهيَّأةً جسمانيًّا ونفسيًّا فطريًّا للإنجاب والتربية والرعاية، مع تمتعها أيضًا بالنصيب من الذكاء والقدرات العقلية والقوة؛ ما يؤهلها للقيام بالأعمال والوظائف خارج دائرة التربية والرعاية، جعل البشرية في حيدة عن بناء التصور الصحيح لها ولأدوارها في الحياة، فانقسمت بين إفراط وتفريط، وبين جور وظلم ومبالغة في رفعها وتصريف الحقوق لها.

بعض صور من اضطهاد المرأة في الجاهلية نموذجًا

1- كان العرب في الجاهلية ينظرون إلى المرأة على أنها متاع من الأمتعة التي يمتلكونها مثل الأموال والبهائم، ويتصرفون فيها كيف شاؤوا.

2- وكان العرب لا يورثون المرأة، ويرون أن ليس لها حق في الإرث، وكانوا يقولون: لا يرثنا إلا من يحمل السيف ويحمي البيضة.

3- وكذلك لم يكن للمرأة على زوجها أي حق، وليس للطلاق عدد محدود، وليس لتعدد الزوجات عدد معين. وكان العرب إذا مات الرجل وله زوجة وأولاد من غيرها كان الولد الأكبر أحق بزوجة أبيه من غيره، فهو يعتبرها إرثًا كبقية أموال أبيه. وفي البخاري: عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْهما: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهًا} [النساء: 19] الآيَةَ. قالَ: كانُوا إذا ماتَ الرَّجُلُ كانَ أوْلِياؤُهُ أحَقَّ بامْرَأَتِهِ: إنْ شاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَها، وإنْ شاؤُوا زَوَّجَها، وإنْ شاؤُوا لَمْ يُزَوِّجْها، فَهُمْ أحَقُّ بها مِن أهْلِها، فَنَزَلَتْ هذِه الآيَةُ في ذلكَ.

وقد كانت العدة للمرأة إذا مات زوجها سنةً كاملةً، وكانت المرأة تحد على زوجها شر حداد وأقبحه، فتلبس شر ملابسها، وتسكن شر الغرف، وتترك الزينة والتطيب والطهارة، فلا تمس ماء ولا تقلم ظفرًا، ولا تزيل شعرًا، ولا تبدو للناس في مجتمعهم.

4- وكذلك كان بعض العرب يكرهون البنات ويدفنونهن في التراب على قيد الحياة؛ خشية العار كما يزعمون. وقد ذمهم الله بذلك، وأنكر عليهم. فقال الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:9].

وحي العقول البشرية، أم الوحي الإلهي؟

لم يكن حال المرأة في الغرب بدعًا من حال المرأة في مختلف الأقطار، لكن ما ميزها هو ظهور الثورة النسائية المطالبة بالمساواة الكاملة بين الجنسين في جميع مناحي الحياة العلمية والعملية، والتي أخذت تتطور عبر السنين حتى أصبحت فِكرًا فلسفيًّا ومذهبًا يُعرف اليوم “بالنسوية”.

لقد ساهم ذلك في تحسين وضعها وإعادة الحقوق المسلوبة شيئًا فشيئًا عبر امتداد السنين، غير أن هذه الحركة -ومنذ بدايتها حتى اليوم- لم تصب مصاب الحق والاتزان في بناء التصورات الصحيحة عن المرأة وتحديد ما لها وما عليها، ولم تفلح في جعلها كائنًا منسجمًا مع فطرته وطبيعته ومنسجمًا في مجتمعه، حتى أنك تجد داخلها تيارات مختلفة، لكل منه نظرة مختلفة عن المرأة، ما جعل المجتمعات تعاني ويلات الضلال والتيه في قضية مَن هي نصفه؟، خاصةً في الآونة الأخيرة، فقد “تبنت النسوية المعاصرة مفهومين أساسيين كقاعدة لعملها؛ هما: مفهوم النوع (Gender). ومفهوم الضحية (Victim).

سعت الحركة من خلال مفهوم “الجندر” إلى إلغاء الفروق بين الجنسين، والإنكار التام لوجود جنسين مختلفين، وإلغاء مُسمَّى ذكر وأُنثى، ورفض حقيقة اختلاف الذكر والأنثى اللذَيْن هما من صنع الله -عز وجل- سعيًا منها إلى إلغاء مفهوم (الزواج) فطرة الله عندما بدأ بحواء وآدم كزوجين عُمِّر بهما الأرض.

وعبر مفهوم “الضحية” تبنت الحركة آلية الانتقاد العام للرجال، وعمَّقت الشعورَ بالكراهية تجاه الرجل، ووجهت جهودها لخدمة هذا التوجه الجديد، وتأكيد نظريتها التي تقول: (إن المرأة ضحية لوجود الرجل)”. (2)

نور الوحي .. التأصيل المنهجي لقضايا المرأة في الإسلام

إن تيه البشرية في قضية المرأة، لخير دليل على حاجة البشرية للهدى الإلهي والنبوات، وأن الإنسان وحده غير قادر على تنظيم كافة شؤون حياته، وأن المعاناة الناتجة من جراء تلك المحاولات البائية بالفشل -إلى جانب المعاناة الناتجة من بعدنا عن الوحي الإلهي وتطبيق ما جاء فيه- تدفعنا اضطرارًا للعودة والتمسك بالمنهج الإسلامي في هذه القضية. وفي هذه المقالة وما سيتبعها من مقالات، سنأخذ الخطوة الأولى تجاه تحقيق هذا المطلب؛ وهو “العلم”، إذ سنتناول تأصيلًا منهجيًّا لفهم قضية المرأة في الإسلام على ضوء محاضرات الأستاذ/ أحمد السيد عن التأصيل المنهجي لقضية المرأة.

مقدمات منهجية لفهم قضية المرأة في الإسلام

العبودية: إن البطاقة التعريفية التي يريد الإسلام تقديمها للإنسان -رجلًا أو امرأةً- هي العبودية لله -عز وجل-. وهذه مقدّمة مهمة جدًا، لأنها الغاية الكبرى من وجود الإنسان، ولا ينسجم الإنسان مع نفسه ومع الحياة إلا أن يعلم تلك الغاية.

كما أن من ثمرات هذا التعريف، أن علمه بذلك يورثه العزة، إذ إن الإيمان بالله ربًّا وخالقًا ومدبرًا للكون وشؤون الخلق، يُفرغ القلب من أرصدة البشر في تحقيق النفع والضر، فلا يذل إلا لله. وهذا بدوره يرفع بعض الذل والقهر عن المرأة.

ومن ثمراته أيضًا، معرفة أن بعض الأحكام الشرعية غايتها تحقيق العبودية فحسب، دون أن يترتب عليها مصلحة دنيوية.

مرجعية الوحي: لا بد من الاعتراف قولًا وعملًا بالوحي مقدمةً كبرى لبناء التصورات جملةً وتفصيلًا عن الإنسان، رجلًا كان أو امرأةً. 

معيار الصحة والخطأ: إن المعيار في تحديد صوابية الأحكام المتعلقة بالمرأة، ليس متعلقًا باستحسان جميع النساء، فضلًا عن الاستحسان الشخصي لبعضهن، وإنما معياره الموافقة لتشريع من له الخلق والأمر. ويجب على الإنسان أن يتنازل عن استحساناته حال علمه أن هناك معيارًا أعلى منه قرر الخطأ والصواب، وأن يعلم أنه عبدٌ لله، مقامه ليس مقام معارضة وإن كان له أن يستشكل فيسأل عما استشكل، بدافع رغبة في الفهم مع الإقرار الثابت أن التشريع الإلهي هو العدل.

المراعاة الشمولية في تقرير الأحكام: إن الإسلام لا ينظر إلى قضايا المرأة مراعيًا فيها الجانب النسائي فقط، وإنما يُنظر في تقرير الأحكام إلى جوانب عدة، جانب من جهة العبودية لله، وجانب من جهة الحقوق، وجانب من جهة الواجب، وجانب من جهة كونها فردًا، وجانب باعتبارها ضمن أسرة ومجتمع.

أحكام المرأة تابعة لا مستقلة: إن الأحكام المختصة بالمرأة غير مستقلة، بل هي تابعة لأركانه وأصوله العظمى.

أحكام المرأة جزء من منظومة تشريعية: إن الأحكام المتعلقة بالمرأة هي جزء من منظومة تشريعية تنظر للإنسان نظرةً ذات أبعاد متعددة ضمن غاية محددة ومنهج، لذا فإن الشريعة قد تنهى عن شيء لا لأنه محرمٌ لنفسه، بل لأنه وسيلة تؤدي إلى المحرم لنفسه. على سبيل المثال، عندما حرم الإسلام الزنا، حرم الوسائل التي تؤدي إليه مثل التبرج وإطلاق النظر، والخلطة بين الجنسين، لا لأنها محرمة لذاتها لكن لأنه طريق يوصل إلى الزنا.

معيار مكانة المرأة: إن المصدر المعياري في تحديد مكانة المرأة في الإسلام هو نصوص الوحيين، والتطبيق العملي في المجتمع النبوي، وهو الحاكم لآراء الفقهاء واجتهادات العلماء.

مركزية التفريق بين القطعي والاجتهادي: إن التفريق بين ما هو قطعي منصوص عليه في الشريعة، وبين المسائل الاجتهادية، والتفريق بين الاختلافات المعتبرة والاختلافات الشاذة، والتعامل مع كل منهما بما يناسبه، يعتبر من الأمور المركزية. 

التفريق بين الشريعة والعادات: من الأمور المركزية أيضًا، التفريق بين ما له أصل في الشريعة -وإن كان ظنيًّا أو اجتهاديًّا- وبين ما هو من العادات الاجتماعية والتصرفات الفردية.

العدل لا المساواة: إن الفلسفة الإسلامية في تقرير الأحكام تقوم على العدل لا على المساواة؛ لذا فإن المساواة إنْ كانت عدلًا فإن الشريعة تقرها، وإنْ كانت ظلمًا فإن الشريعة لا تقرها.

النظرة الشمولية لأحوال المرأة: إن من نقاط الارتكاز في فهم قضايا المرأة في الإسلام، النظر إلى ما اعتبره الإسلام من شأنها في جميع أحوالها، خاصة في وقت الإدبار والضعف، لا ما كان طورًا من الأطوار دون غيره.

المقارنة: من الجوانب الكاشفة لمكانة المرأة في الإسلام، مقارنتها الشمولية بحالها في الجاهلية، وفي الحياة المادية الحديثة.

تلك كانت المقدمات المهمة للدخول إلى مبحث قضية المرأة في الإسلام، لنكمل -إن شاء الله تعالى- عرض قضية المرأة في الإسلام في المقالات القادمة.

المصادر

  1. مكانة وحال المرأة في الجاهلية
  2. خمس شهادات من الغرب وإفريقيا على تدمير الحركة النسوية للزواج والأسرة
  3. هذه المادة مأخوذة من سلسلة التأصيل المنهجي لقضايا المرأة في الإسلام للأستاذ أحمد السيد

تهاني علي النعمي

طالبة علاج طبيعي، مهتمة بالمطالعة والقراءة، وأكتب مما تعلمت سطورًا في تبيان.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. اذا كانت المجتمعات بخير ، تظل المرأة بخير، و اذا مرضت المجتمعات اول الضحايا هن النساء
    حافظوا على المجتمعات تظل المرأة عزيزة و سليمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى