هل تيأس الشعوب العربية أمام التطبيع؟!

لعلَّ كثيرًا من مُخلصِيْ أبناء الوطن العربيّ الكِرام قد أصابهم همٌّ وحزنٌ، وأحسُّوا بكثير من اليأس يتسرَّب إلى صدورهم بعدما رأينا الأنظمة العربيَّة تبادر وتتسابق في السعي للتطبيع مع الكيان الصهيونيّ. وهذه الخطوة للوهلة الأولى قد توقعنا في الهمّ؛ لكنْ عندما نتدبر الأمر مليًّا نجد أنَّ هذا التصرُّف لا يستحقّ الفزع له، بل يستحق تسجيله في ذاكرتنا وحسب. وكلّ ما سنقدمه هنا هو تفكير هادئ في قضيَّة تطبيع الأنظمة من خلال حقائق مُستقرَّة لنا جميعًا.

نبدأ بملحوظتَيْن يجب إيرادهما يصبَّان في قلب المعركة -وإنْ ظهرا شكلانيَّيْنِ-: الأولى أنَّ اسم العدو “الكيان الصهيونيّ”، وليس “إسرائيل” فهذا الاسم الأخير يصنع جزءًا من الشرعيَّة على ألسنتنا -ولا شكَّ أنَّ الكيان له شرعيَّة القوة اللحظيَّة بحُكم سيطرته بالقوة على الأرض-، وتداوله يؤدي إلى ترويج الاسم الذي اختاره الكيان لنفسه لا الاسم الحقيقيّ له، وفيه أيضًا تعويد على تناسي الاسم الحقيقيّ.

والثانية أنَّ اسم أرضنا هو “الوطن العربيّ”، أو “الشرق الإسلاميّ” وليس “الشرق الأوسط” الذي يريدون أنْ ينشروه على ألسنتنا -وللأسف نستجيب- كيْ تضيع هُوِّيَّة المنطقة، وتصير “مُجرَّد قطعة أرض” ذات تحديد جغرافيّ، بلا هُوِّيَّة ولا دين ولا لغة ولا تاريخ.

حقائق حول التطبيع

أمَّا الحقائق التي لا بُدَّ أنْ نعلمها حينما نتداول في أمر التطبيع فأهمُّها:

هذا التطبيع تقوم به الأنظمة الحاكمة للدول العربيَّة، ولا تقوم به الشعوب. فهو على الحقيقة تصرُّف آنيّ -أيْ مؤقَّت- متى رحلت هذه الأنظمة يكون من حقّ التالية لها أنْ تبطله. وتفعل الأنظمة هذا التطبيع لأهداف عدَّة؛ منها أنَّها عميلة حقًّا للكيان الصهيونيّ ومؤيدة له ومقتنعة به وبفكره، ومنها أنْ تكون كارهة لديانة وحضارة ولغة العرب مُريدة اقتلاع هذه المُكوِّنات بهذا التصرُّف. 

ومنها -وهو الغالب- أنَّها تستقوي بالكيان وتعتبره سفينة النجاة لعلاقاته بالدولة الكُبرى “الولايات المُتحدة”، وبدعمه الدائم من المنظومة الأوروبيَّة. ممَّا يجعل هذه الأنظمة ترى استقرارها بوجوده، وتربط استمرارها به، أيْ -وبدقَّة- تتخذ منه شرعيَّة وجودها، لا كما الأصل أنْ تتخذها من أحقيَّة وجودها ودورها الفعَّال في خدمة بلادها.

هذه العلاقة التطبيعيَّة لا تضيف جديدًا على أرض الواقع؛ فالكيان الصهيونيّ لا يأخذ شرعيَّته إلا من قوة وجوده على الأرض، ومن ضعف العرب -شعوبًا لا أنظمة حاكمة-، كما أنَّه يستلهم الدعم من إمبرياليَّة غربيَّة يهمُّها وجوده هنا ليكون “مسمار جحا” الدائم في بلاد العرب. فهذا التصرُّف الطارئ لن يضيف شيئًا إلى واقع يستند إلى قوَّة الفعل ولا ينتظر استئذانًا من أحد، ولا رضا أحد الأطراف. كما أنَّ هذه الأنظمة في الأصل بدأتْ التطبيع من قديم ولكنَّه الإعلان فقط ما كان ينقصها، كما أنَّ هناك مَن طبَّع العلاقات مع الكيان منذ عقود.

وإذا تساءلنا: لماذا يريد الكيان هذه الخطوة أنْ تخرج إلى حيِّز العلن بعدما كانت سرًّا؟ لكان الجواب على أوجه: منها أنَّه إكمال تعزيز وجوده لا أمام العرب بالقطع -فهو أصلًا لا يهتمّ برأيهم إنَّما فقط يعاملهم بمبدأ القوَّة- بل أمام بقيَّة الأنظمة في العالم؛ خاصَّةً تلك التي تقف أمامه موقف الرفض، وتعتبره مُحتلًا -وهي دول كثيرة رغم أنَّ الإعلام يريد أنْ يصوِّر الموقف كما أنَّنا وحدنا مَن نعتبره مُحتلًا-. هو في احتياج إلى أنْ يقول للمجتمع الدوليّ كلِّه: ها أنا ذو دولة شرعيَّة أكتسب شرعيتي من هذه الدول التي تقولون إنَّني أحتلُّها!

وكذلك يتجاوز بعلاقاته التجاريَّة مع الأنظمة العربيَّة التي تقف أمامها اعتباره عدوًّا في دساتيرها السابقة، أو تقف شكليًّا بعض العوائق التي ستزيلها هذه الخطوة التطبيعيَّة تمامًا. 

وفي الطريق ستتيح له مزيدًا من الشرعيَّة في ذكر اسمه، وفي عمليات الغزو الفكريّ المُمنهَج التي يقوم بها لشرعَنَة نظامه. وكذلك هدف آخر هو كسب الثقة في داخل الدولة المُحتلَّة “الكيان” وراعيتها “أمريكا” في وقت يتعرَّض كلا النظامَيْن إلى موجات مُزلزلة تهدد بالإطاحة برأس النظامَيْن قريبًا. ويستغلَّانِ هذه الخطوة لصُنع ترويج لإنجاز زائف لدى شعبَيْ النظامَيْن، ومحاولة إقناع الناس أنَّهما يُقدِّمان خدمات جليلة لهم.

وفي الوقت نفسه تُصعِّب هذه الخطوة من انتقاد الوضع الداخليّ على الأراضي المُحتلَّة؛ فقد صارت دولة صديقة وانتقلت من خانة العدو القديمة. وعليه فلا يجوز انتقاد أفعالها في سحق الشعب الفلسطينيّ وإكمال نهب الأراضي العربيَّة. بل -وهذا هو المُخطَّط- إذا خرج الكيان لاحتلال دولة أخرى -سواء بجنوده أو بتهجير قطاعات من الشعب الفلسطينيّ له- لا يمكن التعامُل مع الأمر إلا بكونه مُشاحنات دولة صديقة “الاحتلال” مع دولة صديقة أخرى “العرب”. فكلّ هذه الأمور من منافع وأهداف حركة التطبيع.

وبعد كلّ هذه الأهداف لماذا نقول: إنَّ هذه الخطوة على أرض الواقع لا تقدِّم شيئًا ولا تأخِّر شيئًا؟.. هذا القول ينطبق علينا فقط -نحن العرب- أيْ الداخل العربيّ. لأنَّ معركتنا مع الكيان الصهيونيّ في الأصل معركة قوة وثبات لا علاقات دبلوماسيَّة بين أنظمة. 

فهذا الصراع لنْ يُنهيه نظام حاكم بل سيُنهيه تلك الجهود العربيَّة المُشتركة الدائمة. والكيان يعرف هذا حقَّ المعرفة والإدراك؛ لهذا يلجأ إلى هذه الأنظمة ليحتمي بها، ولتضمن له بقاء هذا الوحش -الشعب العربيّ- في مكمنه وأقفاصه الحديديَّة التي تفرضها حوله كلّ هذه السلطات.

إنَّ هذا الفعل خير لنا لا شرّ علينا كما تبادرنا أذهاننا بالتفكير. فهذا الفعل قد أدان مَن فعل، ولمْ يُدِنْ الشعوب العربيَّة، وقد فضح مَن فعل أشدَّ ما تكون الفضيحة ولمْ يكشف عورة الشعوب، بل كشف عنها غطاءها المضروب على أعينها من الإعلام وأذنابه. 

وأنار لها الطريق أكثر وأكثر لتعرف مَن العدوّ ومَن الصديق، ولتعرف أنَّ تكاتفها هو الأساس لا تصرُّف نظام حاكم لها يريد صالح نفسه. وقد أرانا كيف تُدار اللعبة علينا؛ ووضع المشهد كلَّه في ثلاثيَّة: الشعوب، بعض الأنظمة الحاكمة التي تدخل في علاقة منفعة متبادَلَة مع العنصر الأخير وهو “الكيان الصهيونيّ”. لكنْ هل هذه الثلاثيَّة كانت غير مَعروفة سلفًا وكُشفتْ الآن؟ لا بالقطع كانت معروفة لكنَّه مزيد من البيان يكشف مزيدًا من الأسرار التي كانت خافية عن الجماهير الغفيرة.

هذا ما أهداه لنا المشهد الآن، لكنَّه حمَّلنا في الوقت نفسه مسؤوليَّات نذكِّر أنفسنا بها. وأولها وآخرها أنَّ العرب والمسلمين لمْ يكنْ عدوهم في يوم من الأيام كيانًا أو جيوشًا إنَّما كان عدوهم هو الخلاف والشقاق فيما بينهم. 

ولعلَّنا في غمرة يأس قد يبدو في العيون نذكِّر أنفسنا بالماضي لنعتبر؛ ففي الحملة الصليبيَّة السادسة تشابَهَ المشهد ساعتها مع اللحظة التي نعيشها الآن فقد دبَّ الشقاق بين أبناء وأحفاد “صلاح الدين الأيوبيّ” وتسابقوا ليكتسبوا حلفًا مع الصليبيين ليقاتلوا معهم بنِيْ جلدتهم، حتى تمَّ الخزي والعار بأنْ سلَّم الملك “الكامل” القدس للإمبراطور “فريدريك” عام 626 هـ، 1229م. وقد حُرِّرتْ لتجد مَن يسلمها أيضًا.

يقول المُؤرِّخ د/ محمد عبد الرحيم الرفاعي، في كتابه “جهاد المسلمين في مواجهة الحروب الصليبيَّة”: “بلغ الهوان بالمسلمين أنْ تسابقوا في استرضاء الصليبيِّينَ ليكسب كلٌّ منهم حلفاء في صراعه مع أخيه في الدين والدم. وتقدَّم الصالح إسماعيل بعرض بالغ السخاء؛ إذ عرض عليهم أنْ يُسلِّمَهم ما بقي للمسلمين في القدس، ويتنازل لهم عن المسجد الأقصى وقُبة الصخرة … وللأسف فإنَّ الملك الصالح أيوب قدَّمَ العرض نفسه. وكان عليهم أنْ يختاروا مع مَن يُوقِّعون الاتفاقيَّة المُخزية”.

فإلى كلِّ مَن يئِسَ في ظلّ الظروف الأخيرة ها هي صفحات التاريخ تعلِّمنا أنَّ اليأس هو الخيانة الحقيقيَّة، وإلى مَن ظنَّ أنَّها النهاية فها هي الحوادث الماضية تقول لك: لا نهاية إلا باستسلامك، فأنت مَن تكتب النهاية لا غيرك. 

ونعرف بعد مطالعة هذه وغيرها أنَّ ما نحن فيه ما هو إلا حلقة من حلقات صراع طويل بين القوى الغربيَّة وبين العالم العربيّ والإسلاميّ.

ورسالة يقدِّمها التاريخ أيضًا أنَّه إذا اعتقدنا أنَّ كثرة الاتفاقات والمؤامرات علينا تضعفنا فسيُحرجنا هؤلاء الذين قاموا من أوحال العار -كما قرأنا منذ لحظات- ليُغيِّروا الواقع من جديد. 

وإذا كان الصهاينة يعتمدون على تغيير ملامح الواقع كيْ يكتبوه هُم كما يريدون فقد أراد ذلك المُحتلّ الصليبيّ من قبل، وغيَّر من الواقع في العالم العربيّ تغييرًا، وأقام ممالك وهدم أخرى لكنَّه في النهاية رحل؛ لأنَّ الحقيقة تصدح في وجوه الجميع لكنَّنا قد نتعامى عنها بعض الوقت.

ماذا سنفعل كشعوب أمام تصرفات الكيان وأعوانه؟

ويبقى السؤال الوَجِيه: ماذا سنفعل نحن الشعوب أمام تصرُّفات الكيان وأعوانه؟!.. ولعلَّ هذا السؤال أحد أهمّ مُسبِّبات الحيرة والإحساس بالعجز لدينا في هذه اللحظة الراهنة. لكنْ لا داعي للعجز ولا الحيرة. فالتعامل مع الأزمات الكُبرى يكون على صعيدَيْن أحدهما راهن حاليّ، والآخر بعيد وممتدّ. 

في حالتنا هذه يتمثَّل الصعيد الراهن الحاليّ في الحفاظ على ما يخافه ويخشاه الكيان الصهيونيّ، والآخر البعيد هو التخلُّص من الكيان دَفْعَةً واحدةً أو على دَفعات.

إنَّ أشدَّ ما يخشاه الكيان الصهيونيّ هو ذاكرة الأرض، وذاكرة الشعوب. إنَّه يراهن على تغيير وعي الأجيال القادمة من الشعب العربيّ التي ستُولد على حقيقة تشهدها هي أنَّ الكيان الصهيونيّ اسمه “إسرائيل”، وأنَّه دولة صديقة لا عدوَّة. 

هذا ما يسعى إليه هو أنْ يُزيل مُبرِّر العداء شيئًا فشيئًا من نفوس العرب والمسلمين بعمليات مستمرة من غسيل الأدمغة التي يقوم بها الإعلام وبعض مُدَّعِيْ العِلم والفكر من أبناء بلادنا. إنَّها معركته الكُبرى التي لو نجح فيها لخلت له الساحة تمامًا الداخليَّة (بمسحه للهُوِّيَّة العربيَّة التي تستعديه) والخارجيَّة (حينما يقرِّر نفسه زعيمًا للمنطقة التي يُسمِّيها شرقًا أوسط أمام العالَم كلّه).

لذلك يتبلور أمام أعيننا دورنا جليًّا وهو الحفاظ بكلّ ما أمكننا على ذاكرة الأرض وذاكرة الشعب، والمُضيّ قُدُمًا نحو إفشال مُخطَّط غسيل أدمغة الشعب العربيّ، وتغيير وعيهم وهوِّيَّتهم وماضيهم لتغيير حاضرهم ومستقبلهم. وهذا الهدف في إمكاننا وبين أيدينا؛ فإذا كان الكيان له إعلام ونحن غرض هذا الإعلام، فلنذهب بالتوعية إلى آخر مدى نستطيعه، ولا نفوِّت من بين أيدينا الفُرص.

إنَّ طريق التغيير يبدأ بالواقع والمَقدور عليه لا على إثارة أحاسيس بلا مَردود؛ فإذا لمْ نستطع أنْ نغيِّر واقعنا السياسيّ الآن فلنحافظ على إنكاره بقلوبنا وبألسنتنا وبأيدينا. ثمَّ نقوم بهجمة مُرتدَّة على العدوّ بإدامة الحقيقة بيننا أنَّه العدو لا الصديق ولنْ يكون، وأنَّه “الكيان الصهيونيّ” لا اسم آخر له، وأنَّ عالمنا عالم ذو هوِّيَّة ولغة وتاريخ لذلك اسمه “العالم العربيّ”، وأنْ نتوجَّه إلى أبنائنا في عمليات توعويَّة مُستمرَّة فهؤلاء هدفه البعيد الذي يريد أنْ ينتشله مِنَّا فلنُحبِطْ عليه هدفه، ولنبدأ منذ اللحظة في تربية أبنائنا تربية واعية سليمة. 

هذه ليست كلمات دعاية نكتبها لنُريح أنفسنا، بل خطَّة مُمتدَّة مُبنيَّة على خطَّة العدو وتدبيره.

هذا الذي نطالب به يُسمَّى “النضال” وهو من أهمّ ما يفعله أيّ شعب في طريق تحرُّره وتقدُّمه.

عبد المنعم أديب

باحث في الفكر الإسلامي والفلسفة. صدرت له كتب أدبيَّة، ومئات المقالات في العالم العربي وخارجه.… More »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى