لماذا تجزع فرنسا من الله.. ما سبب نظرتها للدين على أنه تهديد للهوية الوطنية؟

بقلم: راشيل دوناديو

ترجمة/ ربى الخليل

تحرير/ عبد المنعم أديب

بينما[1] كنتُ أُصغي في مطلع هذا العام إلى دفاع وزير التعليم الفرنسي “جان ميشيل بلانكر” عن الاقتراح الذي تقدَّمَ به إلى الدولة؛ لاحتْ في ذهني بعضُ التساؤلات إزاء طبيعة القوى التي تشدُّ من أزر الديمقراطية الليبرالية، وتلك الأخرى التي تحيلها أشلاء.

بدا مجلس الشيوخ الفرنسي -بقاعته الأنيقة التي تُضارع بجمالها دارَ الأوبرا- في قمة الألَق والفخامة. فخامةٌ لا يرقى إليها سوى مُسَوَّدَة القانون المَطرُوحة على طاولته للنقاش، على الأقل بمستوى وقار وأبَّهة عنوان المُسَوَّدَة “مبادئ الجمهوريَّة وردع النزعة الانفصاليَّة”. استهلَّ الوزير “بلانكر” دفاعه وعينا تمثال جان بابتيست كولبير (مهندس فرنسا في الحقبة الحديثة المبكرة) ترنوانِ إليه، فيما يتعارض شَعر كولبير المُجعَّد المُنسدل على كتفَيْهِ مع صلعة “بلانكر” الملساء. وكان وقع مُسَوَّدة قانون مناهضة الانفصاليَّة -الذي حظي بدعم الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، وغدا لاحقًا قانونًا- جَللًا في غِمارِ المعركة الأزليَّة بين الدولة الفرنسيَّة والمنظومة الدينيَّة، بالنظر إلى مَساعِيْهِ في الارتقاء بفكرة اللائكيَّة الفرنسيَّة التي تُرجمَتْ حرفيًّا إلى “العَلمانيَّة”، إلا أنَّها تنطوي على قدر أكبر من التعقيد والزخم السياسيّ.

قانون “مُناهضة النزعة الانفصاليَّة”[2]

ورغم شيوع شعار الجمهورية “الحرية والمُساواة والإخاء”، إلا أنَّ المعركة الضارية في الحقبة المعاصرة في فرنسا تدور رحاها حول اللائكيَّة التي تفرَّدتْ بها فرنسا عن سائر الدول الأوروبية. وارتكزتْ على مقاومة الدولة في سبيل إبعاد الدين -بكافَّة رموزه وهيئات أتباعه- عن الفضاء العام. فاللائكيَّة مُشتقة من اللفظ اليوناني”laós – λαός”، ومعناه “الشعب” أو “العامة” مُقابل “الكهنة”. على ذلك لا يمكن القول إنَّ اللائكيَّة العلمانيَّة هي نفسها حرية ممارسة الدين التي يضمنها الدستور الفرنسيّ، بقدر ما تعني -في غالب الأحيان- التحرر من الدين. أضِفْ إلى أنَّ تداعيات الهجمات الإرهابيَّة ذات الدوافع الدينيَّة التي ألقتْ بظلالها على فرنسا، دفعت باللائكيَّة لتذوب في رحى الهُوِّيَّة الوطنيَّة والأمن القوميّ.

لنعد إلى مُسَوَّدَة القانون التي ناقشها الوزير “بلانكر” في مجلس الشيوخ الفرنسيّ آنذاك التي ترقى لتكون مناورةً سياسيةً مُتعدِّدة الجبهات، والنموذجَ الكلاسيكيَّ للتثليث -الذي انتهجه الوَسَطيُّ ماكرون والمؤسس لحزب سياسيّ جديد يسعى إلى جذب أصوات اليمين الفرنسيّ-. تجلَّت دعامتُه الأولى في الاندماج في الجهود الفرنسيَّة الرامية إلى التصدي للأصوليَّة الإسلاميَّة على خلفيَّة سنوات من العنف.

فيما تجسَّدت دعامتُه الثانية في ردع تركيا التي تعدُّ الداعم الرئيسيّ لجماعة “الإخوان المسلمين” في مصر، وتمتدُّ أذرعُها إلى بعض المساجد الفرنسيَّة. أمَّا الدعامة الثالثة لهذا التثليث فتتبلور في مُغازلتها للطبيعة السامِيَة “لقِيَم الجمهوريَّة”، ناهِيْك عن مسعاها الآخر في تقويض اليمين، واليمين المُتطرِّف قبل موعد الانتخابات الوطنية في الربيع المقبل؛ التي يُرجح أنْ يقف ماكرون فيها مجددًا أمام مارين لوبان مرشحة حزب “التجمع الوطني” الذي ترتكز جهوده في الصعود على تأجيج مشاعر التوجُّس والرهبة من المهاجرين والإسلام، في بلد تبلغ فيه نسبة المسلمين 8% من السكان.

شهدت البلاد في سبتمبر/ أيلول محاكمة شبكة من الجهاديين بتهمة تنفيذ هجمات عام 2015م، التي استهدفت قاعة حفلات باتاكلان في باريس، ولقي على إثرها 130 شخصًا مصرعهم، بينهم 90 شخصًا كانوا داخل القاعة. وسبقتْ هذه الواقعةَ بأشهر قليلةٍ اعتداءُ إرهابيين إسلاميين بالذبح على موظفين في مجلة “شارلي إيبدو” الساخرة. كانت أحداثًا ألقت بثقلها القاتم على من واكبها في العاصمة، وأنا من بينهم حيث أوقدت المحاكمةُ ذكريات مريرة في الذهن. كانت المحاكمة الأضخم في تاريخ فرنسا بما يزيد عن 1000 مُدَّعٍ مع احتمال استمرارها لتسعة أشهر.

وأُضيفتْ مؤخرًا إلى هذا السجل من المآسي حادثةٌ أخرى تمثَّلت في قطع رأس مدرس الثانوية صموئيل باتي في أكتوبر/ تشرين الأول 2020م في ضاحية من ضواحي باريس، جرَّاء عرضه رُسومًا كاريكاتوريَّةً مُسيئةً للنبيّ “محمد” في سياق شرح مبدأ حرية التعبير -وسبق ذلك أنْ بادر إلى الطلب من كلّ مَن يستهجن الصور بوصفها كفرًا، الخروج من الفصل الدراسيّ-، ودفَعَ حياته ثمنًا لفعلته على يد مُتطرِّف شاب مهاجر من الشيشان، ناهز من العمر 18 عامًا، والذي أرْدَتْه الشرطةُ صريعًا بعد محاصرته. بَيْدَ أنَّ مقتل صموئيل باتي جرَّاء دفاعه عن القيمة الفرنسيَّة الجوهريَّة المُتمثِّلة في حرية التعبير لمْ يُسرِّع من عجلة اعتماد مشروع قانون “مناهضة النزعة الانفصاليَّة”، لكنَّه ألقى بثقله على البلاد ورزحت الحكومة تحت نيرها. وصرَّحَ ماكرون آنذاك: “أراد استهدافَ الجمهوريَّة وقِيَمَها” ومضى بالقول: “إنَّها معركتنا؛ معركة وُجوديَّة”.

سرعان ما تحوَّلَ مشروع قانون “مناهضة النزعة الانفصاليَّة” إلى قانون مُقرَّر في يوليو/ تموز، تحت عنوان “تأكيد احترام مبادئ الجمهوريَّة”. ويقضي بتضييقِ الخناقِ على الجمعيات الدينيَّة -مع التنويه إلى أنَّ العديد من المساجد في فرنسا تتلقَّى تمويلًا من الخارج-، ومَنحِ الدولةِ سلطةً واسعةً بإغلاق مؤقت لدُور العبادة، لشكوك بتحريضها على الكراهية أو العنف. إلى جانب فرض تدابير أكثر صرامةً على طالبِيْ اللجوء، ورفض تصاريح الإقامة لرجال على ذمتهم أكثرُ من زوجة، وُصولًا إلى توسيع صلاحيَّات مُوظَّفِيْ الدولة في منع الزواج حالَ شعروا أنَّ المرأة مُكرهةٌ عليه. كما يُحظر على الأطباء منح النساء شهادات العُذريَّة التي تتطلَّبها بعضُ الزيجات في الإطار الدينيّ.

ولم يقتصر القانون على هذه البنود، بل اقترح مجلسُ الشيوخ -بأغلبية يمينيَّة- إدراجَ تعديلات أخرى -إلَّا أنَّها أُلغيت فيما بعد- مِن بينها منعُ النساء من ارتداء البُوركِيْنِيْ (ملابس سباحة مُحتشمة للسيدات) في المسابح العامة، إلى جانب منع ارتداء الحجاب عند مرافقة الطلاب في الرحلات المدرسيَّة. والجدير بالذِّكر أنَّ القانون الفرنسيّ يمنع ارتداء الملابس التي تُظهر الانتماء الدينيّ في المدارس الابتدائيَّة والثانويَّة العامَّة؛ منها الحجاب والقبعات اليهوديَّة والصُّلبان الكبيرة.

لمْ يلقَ القانونُ الجديد صدًى طيبًا لدى زعماء المسيحيين والمسلمين والكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس؛ بوصفِهِ مُقيِّدًا لحريَّة الاجتماع، فيما لم تصدر أيَّة ردَّة فعل عن الجالية اليهوديَّة في فرنسا التي تعرَّضتْ لجرائم الكراهية ومُعاداة الساميَّة. علمًا بأنَّ بعض قادتهم أبدوا تأييدهم للتشريع. بينما ندَّدَ الباحثون والمؤرخون بالتشريع بوصفه تجديدًا لا جدوى منه للقوانين النافذة وانتهاكًا صارخًا لسلطة الدولة في الشؤون الدينيَّة.

كما انتقد بلانكر في اجتماعِ مجلس الشيوخ سالفِ الذكر التعليمَ المنزليَّ الذي تتبنَّاه أحيانا الأقلياتُ الدينيَّةُ، بغضِّ النظر عن لجوء عائلات لهذا الشكل التعليميّ جراءَ مشاكل صحيَّة للأطفال أو لاحتياجات خاصَّة. وفي مشاركته أشار بلانكر إلى أنَّ استغلال مثل هذه “الفضاءات المُوازية” تمثِّل “إلغاءً للفضاء المُشترك” الذي تتكشَّفُ فيه المواهب الفرديَّة لتعكس بذلك سمات الجمهوريَّة. وعليه نصَّ القانونُ الجديدُ على ضرورة الحصول على تصريح من الحكومة للتعليم المنزليّ، دون أنْ يندرج الدينُ ضمن الظروف المسموح بها.

الاختلاف بين فلسفتَيْ فرنسا وأمريكا

فرنسا

كان السابق ذكرُهُ الجوهرَ الفلسفيَّ لفرنسا؛ فالاختلاف في فرنسا يعتبر شرخًا في المجتمع، خلافًا للنظرة الأمريكيَّة للاختلاف بوصفه قيمةً جوهريَّةً كما يترجمه شعارُها (E pluribus unum) أيْ “واحد من الكثرة”[3] -نظريًّا على الأقل- فالاختلاف بمنظورها ليس انقطاعًا عن الوحدة.

بمعزل عن التناقض الصارخ بين فرنسا وأمريكا في هذا الصدد؛ إلا أنَّه يضمُّ في طيَّاته تحديًا مُشتركًا؛ حيث تسعى الدولتانِ إلى سَنِّ القوانين والأحكام -سواء المتعلقة بالدين أو العِرق أو المنطقة- بحيث تنضوي تحت مظلتها مجتمعاتٌ متنوعةٌ تعمل ضمن منظومة مُوحَّدة. وهو ليس نهجًا أكاديميًّا بقدر ما هو حتميَّةٌ لضمان تحقيق الديمقراطيَّةِ الليبراليَّةِ التوازنَ المَنشودَ، بينما تقبع البدائل في الخفاء مُتمثلةً في الانقسام الفوضويّ من جهةٍ، والقوميَّةِ القائمة على ركيزتَيْ “الدم والتراب” من جهة أخرى بانتظار فرصة الاستحواذ على الساحة.

كما أنَّ ثَمَّةَ عوامل متداخلةً في تاريخ البلدَيْنِ -على غرار تاريخ قلَّة من البلدان-؛ من حيث ولادة الدولتَيْنِ من رحم عصر التنوير، ناهيك عن أنَّ كلًّا منهما يرى ذاته بمثابة منارة ترشد الأمم، وتبنِّيْهِما الفصلَ التامَّ بين الكنيسة والدولة.

 ففي التعديل الأوَّل للدستور الأمريكيّ -المُستوحى من قانون فيرجينيا السابق للحريَّة الدينيَّة المُعتَمَد في عام 1786م بمساهمة توماس جيفرسون- يُمنع الكونغرس من إصدار أيّ قانون خاصّ بإقامة دين من الأديان أو بمَنع المُمارسةَ الحُرَّة للدين. والجدير بالذكر أنَّ جيفرسون كان سفيرًا لدى فرنسا إبان اندلاع الثورة الفرنسيَّة، حيث استعان الماركيز دي لافاييت به في صياغة إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسيّ الصادر عام 1789م في أعقاب الثورة. وتنص المادة العاشرة منه على: لا يُضارُّ أحدٌ بسبب آرائه، بما في ذلك معتقداتُه الدينيَّة طالما لمْ يُخلَّ إظهارُ هذه الآراء والمعتقدات بالنظام العامّ كما يحدده القانون.

وأرسى القانون الفرنسيّ لعام 1905م الفصلَ بين الكنيسة والدولة في أعقاب معركة مُحتدمة لإنهاء سطوة الكنيسة الكاثوليكيَّة. وينصُّ القانونُ على أنَّ “الجمهوريَّة تضمن حُريَّة المُعتَقَد” والحريَّة الدينيَّة، وعدمَ التمييز بين الأديان. كما بلوَرَ قانونُ 1905م المَعالم الأولى للائكيَّة الفرنسيَّة؛ حيث أُدرِجَ المصطلح في دستور فرنسا لعام 1958.

على ذلك، تتماهى النوايا الفرنسيَّة والأمريكيَّة في الظاهر، لكن ثَمَّةَ اختلاف جليّ. فأمريكا -وانطلاقًا من الحرص على الحريَّة الدينيَّة- عمدَتْ إلى تحصين الدين ضدّ تدخُّل الحكومة في شؤونه، في الوقت الذي عمدتْ فرنسا ضمن المسعى نفسه إلى تحصين الدولة من التدخُّل الدينيّ. وهذا فارقٌ لا يخلو من العواقب.

وبوصفي مواطنةً أمريكيَّةً أعيشُ وأعملُ في باريس، جمعتُ بين كوني مواطنةً وغريبةً في كلا البلدَيْنِ. وعند عودتي إلى أمريكا قادمةً من فرنسا، ذُهلتْ من الأجواء الدينيَّة التي تحوم من حولي؛ سواء من عبارة “ليُبارِكُّمْ اللهُ” على لسان مُقدِّم برامج في ختام برامجه أمْ اقتباسات الرؤساء من الكتاب المُقدَّس ومُناشدة الله لحماية أمريكا وقواتها. ومن النادر -إنْ لمْ يكُنْ مُستحيلًا- أنْ يترشَّحَ أحدٌ للرئاسة دون أنْ يذكُر الله في حملاته الانتخابيَّة، خلافًا لفرنسا التي يندرج استحضارُ المُعتقدات الشخصيَّة في الفضاء العامّ تحت باب خرق مبدأ اللائكيَّة، عدا عن كونه مُستهجنًا تمامَ الاستهجان.

فيما تجد أنَّ “إلهان عُمر” النائبة في الكونغرس الأمريكيّ ترتديْ الحجاب بكُلِّ فخر، فيما يُحظر على أعضاء الجمعيَّة الوطنيَّة الفرنسيَّة أو مجلس الشيوخ ارتداءُ الملابس الدينيَّة في مباني الدولة، رغم أنَّ هذا القرارَ لا يسري على الأماكن العامة. ولا ننسى تأنيب حزب ماكرون الشديد لمُرشَّحة مُسلمة ترتدي الحجاب في ملصقات حملتها الانتخابيَّة، دون نفي عدم تعارُض ذلك مع القانون، وسحب دعمه لترشُّحها في الانتخابات المحلية.

من البدهيّ أنْ تنبثق كلُّ دولة من جروح ماضيها؛ فالحرب الأهليَّة الأمريكيَّة شبَّتْ لمُكافحة العُبوديَّة، فيما اندلعتْ الحروب الأهليَّة الفرنسيَّة من رَحِم الدين.

عمدَتْ الدولة الفرنسيَّة إلى غرس مفهوم اللائكيَّة في وقت مُبكِّر عبر إدراجها في المِنهاج التعليميّ لتلقيمها للطلاب منذ الصغر حتى التخرج من المدارس؛ التي تُعتبر بوتقةً لقَوْلَبَة المُواطنين وغرس القيم اللائكيَّة وحريَّة التعبير والمُساواة بين الرجال والنساء مع القراءة والكتابة والرياضيَّات. وكلمة السِّرّ هُنا هي العالميَّة في إشارة إلى فكرة المُواطنة المُجرَّدة ووجوب الاندماج بها.

خلالَ مقابلة أجرتها صحيفة “لو باريسيان” مع الفيلسوفة النِّسويَّة الفرنسيَّة “إليزابث بادينتر” التي تُحبِّذ التطبيق القسريَّ للائكيَّة في فرنسا، وُجِّهَ لها السؤالُ التالي: “ما الذي يمكن أنْ يُحافظ على تماسُك الأمَّة اليوم؟ أجابت: “المدارس! فاللائكيَّة ومبادئ الجمهوريَّة هُما قلب الأمَّة الفرنسيَّة النابض”. وبالتالي لا عجبَ بإقدام حكومة ماكرون على فرض تدابير حول المدارس في مشروع قانون “مُناهضة النزعة الانفصاليَّة”.

إنَّ تعريف الأمريكيِّين عن أنفسهم يتماشى مع الأُسس العِرقيَّة والدينيَّة، بالنظر إلى القدرة على صهر هُوِّيَّاتهم المُتَّصلة دون المَسِّ بالمشروع الوطنيّ الأوسع نطاقًا؛ حيثُ من الطبيعيِّ أنْ تتضمَّن طلباتُ الاشتراك أو التوظيف أو الاستبيانات أسئلةً عن العِرق أو الدين. لا يلقى هذا السلوكُ الصدى نفسه في فرنسا؛ من حيث مفهومها للتجانُس الاجتماعيّ، باعتبار أنَّها ترى أنَّ التكاتُف المُجتمعيَّ، أو الاعتقاد بأنَّ هُوِّيَّة الشخص الاجتماعيَّة وشخصيَّته تُقولِبُها العلاقاتُ المُجتمعيَّةُ العِرقيَّة أو الدينيَّة، بل هي تلوث وتفسد النظام السياسيّ. وتنظر إلى الشعب بوصفهم أفرادًا لا أعضاءً في مجتمع ما. حتى أنَّها تتجنب جمع البيانات عن العِرق أو الإثنيَّة -باعتبارها خرقًا للعالميَّة وللخُصوصيَّة-، ناهيك عن أنَّ صورة إحصاء اليهود الفرنسيِّين القاتمة إبَّان الحرب العالميَّة الثانية لإرسالهم إلى معسكرات الاعتقال ما تزال راسخةً في الذهن. رُبَّما يمكن أنْ نُعزي هذا البُعدَ عن خصوصيَّات الناس بهذا الصدد بوصفه شكلًا من أشكال الاحترام.

قد تتصدَّر اللائكيَّة الفرنسيَّة عناوينَ الصحف الدوليَّة مع كُلِّ سِجال جديد حول ارتداء النساء المُسلمات للحجاب، بينما لا بُدَّ أنْ ننظر إليْها مِن مَنظور الحياة العامَّة الفرنسيَّة الذي يتمثِّل في الاندماج والتماهي مع المجتمع.

مشروع تدجين الأئمة المُسلمين في فرنسا

قال لي الكاتب الفرنسيُّ “مارك ويتزمان” ذاتَ مرة: “الأمر لا يرتبط كليَّةً بالدين، بل هو أعمق من ذلك بكثير. فالفرنسيون يرتكزون في التعريف عن ذاتهم بتسليط الضوء على ماهيَّتِهم، من خلال أخلاقهم. وبهذا يختلفون عن الأمريكيين الذين لا يبرحون وسيلةً حتى يكشفوا عن حقيقتهم. الأمر مَنُوط بالتوافق مع بيئة مُحدَّدة”. واستحضر الكاتب ويتزمان شخصيات من روايات الكاتب الفرنسيّ “أونوريه دي بلزاك” في القرن التاسع عشر تتوافد إلى باريس من المقاطعات، فيشرعون في إعادة تكوين أنفسهم وتحقيق نجاحات اجتماعيَّة أو سياسيَّة أو أدبيَّة.

دعا “حكيم القروي” الكاتبُ والمُستشار الفرنسيُّ التونسيُّ -والذي قدَّم استشارات غير رسميَّة لماكرون (من بين أمور أخرى)- إلى الاستعانة بالأئمة الذين تلقَّوْا تدريبًا في فرنسا لتقديم نُموذج عن إسلام يتسق من وجهة نظره مع قِيَم الجمهوريَّة الفرنسيَّة. في لقائنا الأخير استرسَلَ باسِمًا في شرح العرض المطروح: “فرنسا مُنفتحة على الجميع، إنَّما لا سبيل متاحًا إلا الكونيَّة والعالميَّة. وهنا تكمُنُ المُفارقة الفرنسيَّة. إنَّها في قمة الانفتاح والإغلاق معًا”. تُمارسُ ثقافتَك ولغتَك ودينَك في حياتِك الخاصَّة، بينما يتحتم عليك التماهي مع مُجتمعك في الأماكن العامة.

باعتبار أنَّ الطعام يمكن أنْ يكون وسيلةً لاستشراف الأمور، نجِدُ أنَّ السَّاسة الأمريكيِّين يتمتَّعُون بمَعِدَةٍ حديديَّة في هضم أطعمة الثقافات المُتنوعة؛ بدءًا من البيروغة[4] ومُعجَّنات الكانولي، وصولًا إلى طبق التامال والأضلاع. بينَمَا تجد نوعًا واحدًا من المطابخ طاغيًا في فرنسا، وكأنه الحامل الحقيقيّ لراية الهُوِّيَّة الوطنيَّة.

في مقابلة مُتلفَزة العام الماضي، قال “جيرالد دارمانان” (وزير الداخلية المُتشدِّد في حكومة ماكرون، وثاني أقوى رجل في البلاد): إنَّ رُفوف الطعام الحلال في المتاجر تمثِّل شكلًا من أشكال النزعة الانفصاليَّة الدينيَّة. على ذلك يتعيَّن على طالبِيْ الحصول على الجنسيَّة الفرنسيَّة الاطلاعُ على التاريخ والجغرافيا الفرنسيَّة، بل إعداد طبق كونفيت البطّ الفرنسيّ وسلطة نيسواز.

وتجدر الإشارة هنا إلى النزاعات الدائرة بينَ إقحام وجبات نباتيَّة ولحوم الحلال الإسلاميَّة والكوشر للمَقاصِفِ المدرسيَّة وبين اعتبار ذلك امتيازًا للنزعة الانفصاليَّة. إنَّ الشعور بالهشاشة والوَهَن الوطنيّ حين تُستدعَى هذه الدعائمُ لها، دائمًا مِمَّا أذهلني؛ وكأن وجبة الكافتيريا يمكن أنْ تشكل خطرًا على ركائز الجمهوريَّة.

وبالعودة إلى الوزير اليميني “دارمانان”، فقد نشر كتابًا صغيرًا هذا العام بعنوان “الانفصاليَّة الإسلامويَّة: بيان للعلمانيَّة“. أشار فيه إلى أنَّ الجمهوريَّة “تفقد سُمُّوَها” وإيمانَها بمُثُلِها الكونيَّة، وخصَّصَ فيه فصلًا لـ “محاربة الانفصاليَّة الإسلاميَّة” حمل عنوان “حصان طُرْوَادَة يضمُّ بين ثناياه قنبلةً ستقسم مجتمعنا”. وبالتالي يجب العودة إلى كينونة الجمهوريَّة، وما يُحدِّد الأمَّة الفرنسيَّة في عُمقها، وألَّا تنساقَ في تيار التغيير المستمر. وهذا فحوى حملة المُرشَّحة “مارين لوبان” الانتخابيَّة.

ويتجسد الاستيعاب والتماهي الثقافيّ بأقصى درجاته في شخص “إيريك زمّور” (الصحفيّ اليمينيّ المُتطرِّف ومُقدِّم البرامج الإذاعيَّة والتلفازيَّة والمُرشَّح للرئاسة، وهو ابن لمهاجرَيْنِ يهوديَّيْنِ من الجزائر)؛ حيث يُؤيِّد نظريَّة “الاستبدال العظيم” الشائعة بين أتباع تفوُّق العِرق الأبيض، ويدعو الآباء إلى تسمية أبنائهم بأسماء فرنسيَّة، ويُروِّج لتعارُض الإسلام مع كينونة فرنسا، وسرعان ما تصدَّرَ كتابُه “الانتحار الفرنسيّ” قائمة المبيعات.

اللائكيَّة الفرنسيَّة .. تواريخ وتحوُّلات

فرنسا

في سجلّ اللائكيَّة، هناك ثلاثة تواريخ تتميَّز عن غيرها: 1789 و 1905 و 1989. صادَفَ عامُ 1789 إطاحة الثورة الفرنسيَّة بالأرستقراطيَّة المَوروثة عند الولادة مع بقاء بعض شراذِمِها في المجتمع. منذ ذلك الحين، اعترفت فرنسا بفئتَيْنِ فقط من الأشخاص: المواطنين والمهاجرين؛ ليُشكِّلا حجرَ الأساس لمُثُلها العالميَّة.

وأبرم “نابليون” اتفاقيَّة كونكوردات ومَالَ مِيزانُ العَلاقات على إثرها بين الكنيسة والدولة بقوَّةٍ لصالح نابليون، وكان للدولة قوتها في اختيار الأساقفة الكاثوليكيين. لكنْ بعد هزيمة نابليون عادت فرنسا مُجددًا إلى رحاب المَلَكِيَّة، بينما لم تترسَّخ الجمهوريَّة الديمقراطيَّة الدائمة حتى عام 1870.

وكان الكثير من الأطفال -خاصَّةً في المناطق الرِّيفيَّة في فرنسا- في القرن الـ19 يتلقون تعليمهم حصرًا في المدارس الكاثوليكيَّة. واستمرَّ تأثيرُ التعاليم الكاثوليكيَّة اليمينيَّة المُحصَّنة بتأثير مَلَكيّ ومُباركة الفاتيكان. وهنا نشير إلى كنيسة “القلب المُقدَّس البيضاء” -التي تتربَّع قسرًا على قِمَّة مونمارتر-، وهي نتاج هؤلاء الكاثوليكيين اليمينيين مع التنويه إلى أنَّ الفاتيكان -حتى القرن العشرين- كان يدعو إلى استعادة النظام المَلَكيّ في فرنسا.

وتحققتْ الجمهوريَّة الفرنسيَّة الحديثة بمَركزيَّتها وعَلمانيَّتِها. وترسختْ بربط طرق البلاد وسككها الحديديَّة بعضها البعض، والارتقاء باللغة الفرنسيَّة الرسميَّة التي أطاحتْ باللغتَيْنِ: البريتونيَّة والأوكسيتانيَّة، والعمل بنظام المدارس العامَّة والتعليم الإلزاميّ، مع الإبقاء على المدارس الكاثوليكيَّة وسائر المدارس الأبرشيَّة التي يتلقَّى معظمُها تمويلًا عامًّا، بيد أنَّه يتعيَّن عليهم اتباعُ المنهج التدريسيّ الوطنيّ أسوةً بباقي المدارس العامة.

انبثقَ عن بعض القوانين في التاريخ الفرنسيّ سجالًا ثوريًّا؛ ففي مطلع القرن الماضي، بدأت الجمعيَّة الوطنيَّة مناقشة مشروع قانون خاصّ بالعلمانيَّة (قانون 1905 لاحقًا) مُستهدفةً الكنيسة الكاثوليكيَّة بينما لم يتطرَّق أحدٌ للإسلام. وتربَّع على السلطة عندئذٍ ائتلافٌ من الاشتراكيين والرَّاديكاليين يحظى بدعم شعبيّ واسع، فضلًا عن بُروز مقاومة الإكليروسيَّة أو العداء لرجال الدين وحماية العمَّال. ليَقَعَ صدامٌ بين العمل غير المُكتمل للثورة مع قلب فرنسا الكاثوليكيّ تمخَّض عنْ انتصار للحكومة.

ويكفل قانون 1905 حريَّة الضمير وحريَّة مُمارسة الدين ما لم يتنافَ مع النظام العامّ. وانتقلتْ مِلكيَّة جميع المباني الدينيَّة التي شُيِّدتْ قبل عام 1905 -ومنها كاتدرائيَّة نوتردام- إلى الدولة. وأُلغِيَ نظام الكونكوردات. مُنهيًا مسألةَ الفصل بين المؤسسة الدينيَّة والدولة لقرن من الزمن تقريبًا. وكلُّ ما تغيَّر هو السياسة والتركيبة السكانيَّة.

مع نهاية الحُكم الاستعماريّ الفرنسيّ في شمال إفريقيا، في حقبتَيْ الخمسينيَّات والستينيَّات هاجَرَ مئاتُ الآلاف من الأشخاص إلى فرنسا من الجزائر وتونس والمغرب. فيما نال اليهود تلقائيًّا حقَّ اكتساب الجنسيَّة الفرنسيَّة؛ وهو امتياز لمْ يَنَلْهُ المُسلمون مِمَّا أشعل فتيل التوتر. لكنَّ الأراضي التي كانت خاضعةً لحُكمها سابقًا أرسلَتْ الأئمةَ إلى فرنسا، وساعدتْ في بناء المساجد هناك. ويتخطَّى عدد المسلمين في فرنسا اليومَ عتبةَ الخمسة ملايين، يعيش معظمهم في الضواحي منخفضة الدخل، ربما يُكوِّنون أجيالًا أُبعدت عن أوطانها وعائلاتها ويناضلون لإيجاد مكان لهم في المواطنة الفرنسيَّة.

أمَّا عام 1989 فيُمثِّل الذكرى المئويَّة الثانية للثورة الفرنسيَّة ولحظةَ فخر وطنيّ عارم. ففي تشرين الأوَّل/ أكتوبر من ذلك العام، رفضتْ ثلاثُ فتيات مسلمات في مدرسة إعداديَّة في كريل في شمال باريس خلعَ الحجاب مِمَّا استوجَبَ إيقافَهنَّ من قِبَل مدير المدرسة، على أساس أنَّ الحجاب يعدُّ خرقًا لحياديَّة الفضاء العامّ المُتمثِّل في المدرسة. وهذه المرَّة الأولى التي اقتحم فيها الإسلام السِّجالَ الوطنيَّ وغدا الحجابُ اختزالًا للإسلام السياسيّ، واستمرَّ هذا النهج إلى يومنا هذا. وفي العام نفسه تصدَّر غلاف مجلة “لونوفيل أوبسرفاتور” عنوان “التعصب: التهديد الدينيّ” يعلوه وجهُ فتاة صغيرة ترتدي حجابًا أسود.

وسعَتْ الحكومة إلى استصدار قرار من مجلس الدولة الذي يحتلُّ قمَّة المحاكم الإداريَّة، الذي قضى بسماح التعبير عن المُعتقدات الدينيَّة في المدرسة عبر الملابس، شريطةَ ألَّا ينضويَ تحت أعمال الضغط أو الاستفزاز أو التبشير أو الدعاية” بمعنى: يجب الحُكمُ على سلوك الفتيات لا ملابسهنّ. (وكان الحكم في هذه القضيَّة طردَ الفتيات بالنظر إلى إشكاليَّة في سُلوكهنّ).

فرنسا والمسلمون في الألفيَّة الجديدة

فرنسا

وأفَلَ نجمُ القضيَّة لفترة من الزمن، أعقَبَهَا اندلاعُ الانتفاضة الثانية العنيفة للفلسطينيين في عام 2000 في إسرائيل والأراضي المحتلة؛ حيث تضامَنَ العديدُ من المُسلمين الفرنسيين معهم. تلاها بعد ذلك هجماتُ 11 سبتمبر/ أيلول، ومن ثَمَّ الغزو الأمريكيّ لأفغانستان.

وشهد ربيع عام 2002 النجاح المفاجئ لجان ماري لوبان، والد مارين لوبان، في بلوغ الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسيَّة مع حزب “الجبهة الوطنيَّة” المُتجذِّر في مُعاداة الساميَّة وكراهية المُهاجرين المسلمين. وسارَعَ عندها اليمينُ واليسارُ للتوحُّد لوقف لوبان وانتخاب جاك شيراك. وفي العام التالي غزَتْ أمريكا العراقَ بمُعارضةٍ شديدة من فرنسا، وهو ما تمخَّضَ عن دائرة أوسع من العنف والفوضى ما تزال تعيد قَوْلَبَةَ أوروبا حتى الآن، ناهِيْك عن ازدياد مُعدَّل هجرة المسلمين من الشرق الأوسط إلى أوروبا مِمَّا ولَّدَ مشاعرَ مُعاديةً للهجرة ورسَّخ الأهلانيَّة في حماية مصالح أهل البلاد الأصليين، وتقديمها على مصالح المهاجرين.

في عام 2003 عمَدَ شيراك -مَدفوعًا بتهديد لوبان الراسخ في ذهنه- إلى تشكيل لجنة من 20 عضوًا بقيادة أمين المظالم الحكوميّ “برنارد ستاسي” لإعادة النظر في متطلبات اللائكيَّة العلمانيَّة. أصدرت لجنة ستاسي تقريرًا يتضمَّن توصيةً رئيسيَّةً تقضي بحظر الرموز الدينيَّة في المدارس الفرنسيَّة. وتحولتْ قطعة قماش مُتمثِّلة بالحجاب إلى خط أحمر.

وجرى نقاشٌ بينِيْ وبين أحد أعضاء اللجنة (المؤرخ باتريك ويل) حول بعض السجالات الداخليَّة. قال لي آنذاك: “إنَّ ثَمَّةَ هواجس حول مساعٍ تقوم بها حركة الإخوان المسلمين في نشر تعاليم الحجاب في خضم جهودها الفاعلة في الضواحي. بالتالي الطلب من مُديرِيْ المدارس البتَّ في قضيَّة الحجاب أمرٌ فوق حدود التصور (منذ متى بات الحجاب يندرج في سياق التصريحات السياسيَّة بعيدًا عن كونه مجرد مُمارسة للشعائر الدينية؟!). أتبع ذلك صدورُ قرار المنع الصريح؛ حيث أوضح “ويل” أنَّ الغاية في تحييد المدارس منع إكراههنَّ على ارتداء الحجاب. وقال “لي”: “كانت الغاية في حماية الفتيات مِمَّنْ لا يرتدين الحجاب. فهو قانون لا يناهض الحجاب بل يناهض الضغط الدينيّ”. بغضّ النظر عن النِّيَّة، ولَّدَ القانونُ شُعورًا بالتمييز لدى غالبيَّة المسلمين كما كان مُتوقعًا.

اللافت للنظر أنَّ العضو الوحيد في اللجنة الذي امتنع عن التصويت كان المؤرخ “جان بوبيرو” (مؤلِّف مُجلَّدات عدَّة لدراسة قانون 1905 الفرنسيّ). وأخبرني “بوبيرو” أنَّ اللجنة أجرَتْ مُقابلات مع قِلَّة من المُسلمات المُتديِّنات، ويرى أنه كان ينبغي تحويل الحُكم السابق الذي صدر عن مجلس الدولة بخصوص سلوك الطالبة لا ملابسها إلى قانون، لكنه يدرك ضرورة خضوعه للتصويت. وقال لي “بوبيرو”: “هذا ما أراده شيراك”، مع الإشارة إلى أنَّ بوبيرو بُروتستانتيّ ضمن غالبيَّة كاثوليكيَّة في فرنسا؛ حيث قال لي: “أعِيْ تمامًا معنى أنْ تنتمي إلى أقليَّة دينيَّة”.

على النقيض يعدُّ قرار حظر قطعة من القماش ترتبط بالدين في أمريكا انتهاكًا صارخًا للتعديل الأوَّل للدستور. بينما تمَّ تمريرُ قرار الحظر في فرنسا بسهولة من قِبَل مَجلسَيْ البرلمان، رغم استمرار الارتباك إزاء أحكام الملابس الدينيَّة خارج المدرسة (ناهيك عن تحديد دقيق لماهيَّة الملابس الدينيَّة في المقام الأول).

في عام 2011 تمادَتْ الحكومة لتحظر النقاب. وفي عام 2016 سعى رؤساء البلديَّات اليمينيون في الريفيرا الفرنسيَّة إلى حظر البُوركيني، إلَّا أنَّ محكمةً فرنسيَّةً نقضَتْ الحظر على خلفيَّة صُور انتشرَتْ على الإنترنت للشرطة الفرنسيَّة وهي تتحرَّش بالمُسلمات على الشاطئ، ليستشيط المُجتمع المسلم غضبًا.

وفي عام 2018، تسبَّبتْ زعيمة مجموعة طلابيَّة بالتوتُّر بسبب ارتدائها الحجابَ في مقابلة مُتلفَزَة علمًا أنَّه لا يُوجَد قانونٌ يمتع ارتداء الرموز الدينيَّة في الحرم الجامعيّ؛ باعتبار أنَّ طلاب الجامعة بالغون ولهم حريَّة الاختيار. في العام التالي، أزالت سلسةُ مَتاجر رياضيَّة “ديكاثلون” حجابًا رياضيًّا من رفوف البيع لديها بسبب احتجاج عامّ. كما حظرَتْ بعضَ المَسابح العامة في فرنسا البوركيني مُتذرِّعةً بمخاوف تتعلَّق بالسلامة العامَّة مثل النظافة الصحيَّة.

كرَّسَ مجلس الشيوخ الفرنسي ساعات طويلة لإدراج تعديلات خلال مناقشة قانون “مناهضة النزعة الانفصاليَّة” لمنع النساء من ارتداء الحجاب خلال مُرافقتهنَّ الطلاب تطوعيًّا في الرحلات المدرسيَّة. عندها تذمَّرَ أحد النوَّاب الاشتراكيين قائلًا: “أمضينا ثلاث ساعات نبحث قضيَّة الحجاب، ثُمَّ ثلاث ساعات أخرى على البوركيني”. يبدو أنَّه أيسرُ على الناس التفاعلُ مع سِجال الحجاب من تقصِّي التغييرات الحاصلة في آليَّة الحُكم بتبعاتِها طويلة الأمد!

انطلاقًا من الجُهود لبلورة “إسلام فرنسا” التي بذلها “حكيم القروي” وغيره، نصَّ القانون الجديد على قيود مُشدَّدة على دُور العبادة؛ حيث يتوجَّب تجديد الترخيص لها كلَّ خمس سنوات. إلى جانب تضييق الخناق على التمويل الأجنبيّ المُرسَل للجمعيَّات الدينيَّة بهدف ردع الإسلام المُتطرِّف. وكذا إلزام المُنظَّمات الدينيَّة التوقيعَ على “مِيثاق مبادئ الجمهوريَّة” لإرساء المُساواة بين الرجل والمرأة، ورفض التمييز القائم على الاتجاه الجنسيّ.

كيف تُشكِّل اللائكيَّة السياسة الفرنسيَّة؟

فرنسا

وقبل موعد الانتخابات الوطنيَّة العامَ المُقبل، تحولَتْ اللائكيَّة الفرنسيَّة إلى قضيَّة انتخابيَّة. حيث وضح اتَّهَامُ وزير الداخلية “دارمانان” للمُرشَّحة “مارين لوبان” لقاء تساهُلها مع العلمانيَّة الفرنسيَّة. وكان حزبها اليمينيُّ المُتطرَّف ينتقد اللائكيَّة العلمانيَّة؛ لأنَّها تُقلِّل من قوَّة الكنيسة الكاثوليكيَّة. كما أنَّ والد لوبان ومُؤسِّس الحزب ومُنكِر الهولوكوست كان يتحدَّث عن فرنسا بكونها دولةً مسيحيَّةً. وسرعان ما غيَّرتْ لوبان خطابَها مع وَعيِها بإمكانيَّة توظيف اللائكيَّة كسلاح ضدَّ المسلمين والهجرة. فيما ذهب “إيريك زمّور” بنقاشه نحو التطرُّف الشديد مؤكِّدًا ألَّا فارق يُذكر بين الإسلام والإسلامويَّة.

ومع ذلك فاللائكيَّة الفرنسيَّة كفيلة بسدِّ أيَّة ثُغرات تقليديَّة بين اليمين واليسار. فالحركة النِّسويَّة في فرنسا إجمالًا تنظُرُ للحجاب كأداة إخضاع خلافًا للعلمانيَّة الراعية للتحرُّر. لكن ثَمَّةَ تعقيد يتجاوز هذا السجال.

في سجال طويل مع طالبة في جامعة في ضواحي باريس تُدعَى “يُسرا” كانت قد طلبت إخفاء كُنيتها احترامًا لخصوصيَّتها. تعكس يسرا وجهة نظر شبه غائبة تمامًا عن السِّجال العلمانيّ في فرنسا. فهي امرأة مسلمة ارتدت الحجاب باختيارها خارج المدرسة منذ عُمر السادسة عشرة، وقالت لي: “قبلتُ عدم ارتدائه في المدرسة، لأنها قوانين الجمهوريَّة”. وأخبرتني عن امتعاضها من نظرة الرجال المُتفحِّصة لها عندما تمشي في الشارع، إلَّا أنَّها استعادت قوَّتها لدى ارتداء الحجاب والملابس المُحتشِمة وقالت: “لمْ أستسلم. كان حقًّا بمثابة إقرار مِنِّي”.

أرى في تجربة يسرا تجسيدًا لجُملة من التناقضات المُنضوية في فرنسا الحديثة. فالحجاب بوصفه إقرارًا شخصيًّا ونوعًا من الحماية الذاتيَّة، هو نفسه بمثابة استفزاز سياسيّ من منظور الدولة. وكما وصفَتْ المُؤرِّخة “جوان والاش سكوت” المعاركَ المُجرَّدة حول اللائكيَّة بين الجمهوريَّة والدين، والحداثة والتقاليد، والعقل والخرافات على أنَّها عمليَّا معارك حول أجساد النساء.

على الصعيد الجِيُوسياسيّ، تنحو اللائكيَّة الفرنسيَّة سبيلًا مختلفًا، مع إصرار ماكرون ودرمانان على أنَّ فرنسا لا تمزج بين الإسلام والإرهاب الجهاديّ مع أنَّ قانون “مناهضة الانفصال” يتطرَّقُ مُباشرةً إلى مسائل الأمن القوميّ والقِيَم الوطنيَّة.

ترى عالمة الاجتماع البارزة “دومينيك شنابر” أنَّ على فرنسا التأكيد على قناعاتها الديمقراطيَّة ومنها اللائكيَّة العلمانيَّة لردع الأنظمة الاستبداديَّة الصاعدة مثل: روسيا وتركيا وإيران والهند والصين. تتمتَّع شنابر بتأثير ملحوظ بوصفها ابنة الفيلسوف الفرنسيّ “ريمون آرون”، وشريكها في المناقشة “جان بول سارتر”، والشخصية الجدليَّة بين المُثقفين الماركسيين الفرنسيين. وكتبت إليَّ مؤخرًا: “برهنَتْ تجرِبة الثلاثينيَّات أنَّ فرصة إنقاذ الديمقراطيَّة لذاتها لا تتبلوَرُ في الخُنوع لمَطالب أعدائه ولسعيٍ إلى حلول وسطيَّة بقدر ما تتجسَّد في تأكيد قِيَمها والاستعداد للقتال والذَّوْدِ عنها”.

ثَمَّةَ فارق كبير بين إطلاق التصريحات الفخمة حول اللائكيَّة الفرنسيَّة والتعاطي مع تبعاتها على أرض الواقع. ومن هنا تجد برامج كبرنامج “جان لوي بيانكو” (رئيس مرصد العلمانيَّة في عهد الرئيس فرانسوا هولاند في عام 2013) يسعى ظاهريًّا لعون المسؤولين والشركات والمُواطنين على فهم كيفيَّة تطبيق الفصل بين الكنيسة والدولة في الحياة العمليَّة، وطرح أسئلة مثل: حاجة أتباع السِّيْخ إلى ارتداء خوذ العمل في أماكن العمل حتى لو كانت لا تتناسب مع عمائمهم؟ (نعم). أو هل يجوز للمرأة المسلمة التي تبيع وجبات جاهزة أنْ ترفُضَ تقديم لحم الخنزير؟ (هنا ينبغي أنْ تحترم بنود العقد المُبرَم معها). هل يستطيع المسيحيّ الإنجيليّ توزيع منشورات كنيسته في مكان عمله؟ (لا، لأضرارها على حرية معتقدات زملائه).

وكان بيانكو قد أخبرني أنه أمضى فترةً زمنيَّةً طويلةً في الردِّ على استفسارات تتعلَّق بكيفيَّة تطبيق العلمانيَّة في مراكز التطعيم المضاد لكوفيد-19، فيما يتعلَّق بجواز ارتداء المرأة المسلمة الحجاب أثناء إعطاء اللقاح أو أثناء تلقي التطعيم (كان الجواب أنَّ الأمر منوط في مكان أخذ أو منح التطعيم؛ هل هو خاصٌّ أم عامٌّ!).

في خضمِّ ارتفاع حصيلة الوفيات الناجمة عن الكوفيد -مع انتشار شكوك ضخمة حيال التطعيم بين الكوادر الصحيَّة مع خلفيَّة أزمة اقتصاديَّة هائلة- يجد المسؤولون الوقت الكافي لخوض سجالات مُوسَّعة حول اللائكيَّة الفرنسيَّة.

وعلى وقع اتهامات بالتساهُل والتراخي حول العلمانيَّة الفرنسيَّة، أغلقت حكومة ماكرون مؤخرًا المرصد العلمانيّ واستبدلتْ به هيئةً جديدةً. ومع ذلك، تنحو الحكومة نفسها في غالب الأحيان إلى التنظير أكثر من التطبيق العمليّ. فالكونيَّة ليست دائمًا عالميَّةً. كما قلت لا تجمع الحكومة الفرنسيَّة بيانات عِرقيَّةً أو إثنيَّةً أو دينيَّةً بَيْدَ أنَّ القانون الفرنسيَّ ينصُّ على ارتكاب “جرائم الكراهية”؛ مِمَّا يستلزم إقرارًا رسميًّا بالاختلاف العِرقيّ والدينيّ.

كما أنَّ قانون 1905 يضمن حرية مُمارسة الدين وتُؤمِّن الدولةُ القساوسة في مؤسسات معينة مثل الجيش والمستشفيات والسجون. كما يُسمَح للجنود في القوات المسلحة الفرنسيَّة بالحجّ إذا كانوا مسلمين، أو الحج إلى منطقة لورد إنْ كانوا كاثوليكيين. إلى جانب دعم الحكومة الفرنسيَّة لرحلات الحجّ عبر جمعيَّات القساوسة العسكريين.

معركة ماكرون الوجوديَّة

في مطلع العام الحاليّ، ألقت وزيرة المواطنة الفرنسيَّة في عهد ماكرون “مارلين شيبا” خطابًا لإطلاق جملة من الاجتماعات الوطنيَّة حول اللائكيَّة الفرنسيَّة. وكان اختيار المكان دقيقًا ليترجم الرسالة الكامنة: كنيسة في وسط باريس جُرِّدتْ من قُدسيَّتها وتحوَّلتْ إلى متحفٍ لتاريخ العلوم. بات يتعذَّرُ على الجميع مقاومةُ إغراء توظيف مُتوتِّر للرُّموز.

يتمحوَرُ الخطاب السياسيُّ الراهن لليمين واليسار حول مخاوف من فُقدان فرنسا لبوصلتها. فعلى غرار أمريكا تُعتبر فرنسا إحدى أكثر الأنظمة السياسيَّة المُتنوعة ومُتعدِّدة الأعراق تعقيدًا في العالَم فهي وجهة للهجرة وديمقراطيَّة مُزدهرة تتمتَّع بحُرِّيَّة مُمارسة الدين وحُرِّيَّة التعبير، وتضمُّ بين رُبُوعها 67 مليون نسمة وأكبرَ جالية مسلمة ويهوديَّة في أوروبا، تعيش في جو من التناغُم في غالب الأوقات. يمكن القول إنَّ فرنسا تضمُّ أكثر جالية مُسلمة مُعَلْمَنَة في العالَم.

وعلى خلفية تفاقُم التهديد الإرهابيّ وقُرب الانتخابات تتصدَّر جُملةٌ من الركائز الأساسيَّة، مثل حريَّة العبادة وحريَّة التعبير والهُوِّيَّة الوطنيَّة وإنفاذ القانون، وكذا النقاش المُلتهب والسامّ أحيانًا عن الهُوِّيَّة الفرنسيَّة نفسها.

فالعلمانيَّة من مَنظور المؤسسة الفرنسيَّة انعكاسٌ جوهريٌّ للكونيَّة والجمهوريَّة الرَّادعة للتشرذُم الاجتماعيّ. والغالبيَّة الفرنسيَّة تجلُّها كضابط مهم. ولا بُدَّ من التنويه إلى الهُوَّة العميقة بين الأجيال؛ فالجيل الشاب من كل الأديان يتناغم مع فكرة ارتداء الرموز والملابس التي تعكس الانتماءات الدينيَّة في الأماكن العامَّة والتأكيد على هوياتهم على غرار أسلوب الحياة الأمريكيَّة.

بالمقابل استدعَتْ فرنسا مفهومَهَا الخاصَّ عن الكونيَّة، ناهيك عن أنَّ التشبُّث المُفرط باللائكيَّة الفرنسيَّة أفضَتْ إلى انقسامات كثيرة. ودائمًا ما يثبت لنا تاريخ الأديان أنَّ القمع والاضطهاد لا يَزيدانِ المُؤمنَ إلا عزيمةً وقوَّةً.

يُعاني أيُّ نظامٍ ديمقراطيّ في جوهره من توتر بين التنوُّع الاجتماعيّ وبين وحدة المُجتمع، وهو ليس بالأمر الجديد. وتراه سائدًا حتى لدى الدول الاستبداديَّة كما عند الرومان والعُثمانيين وغيرهم. بَيْدَ أنَّ هناك صعوبات تقف أمام الدول الديمقراطيَّة في معالجة هذه التوترات؛ حيثُ يتمتع أفرادُها بالقوَّة والسلطة وغالبًا ما يُمارسونها ضمن تكتُّلات اجتماعيَّة. على ذلك، تغدو عمليَّة إرساء التوازن بمثابة اختبار للديمقراطيَّة الليبراليَّة نفسها ولشرعيَّتها وفاعليَّتها.

والبَلبَلة والتوتُّرات التي تطفو على السطح الوطنيّ تُلقي بظلالها على الفرد نفسه، وهو ما ألمسُه داخلي أنا بالذات. وما أنْ أعود إلى أمريكا -أو ألحظ أمريكا من بعيد-، أجدني أعشق التعبير العامَّ الشيق للثقافات والمعتقدات، إنما يصعب تحديد كيفية ضبط هذا الانقسام المجتمعيّ على المدى الطويل.

يغلب طابع اللامركزيَّة على الحكومة الأمريكيَّة، ونأتْ التربية الوطنيَّة عن محور اهتمام المدارس، وغالبًا ما تكون الأصوات الأعلى التي تحدِّد ما هو أمريكيّ من عدمه أو حتى ما يجب أنْ يكون أمريكيًّا هي القبيحة والمُتمسكة بالهويَّة الوطنيَّة.

لا يتسنَّى لي إلا الإعجاب بالنظام التعليميّ في فرنسا ومَساعيْه بالحدّ الأدنى إلى توفير أرضيَّة مُشتركة للجميع في إطار المبادئ الأساسيَّة للحياة الوطنيَّة. وفي زمن خصخصة كلّ شيء، بدءًا من العمليَّة الانتخابيَّة وصولًا إلى شنِّ الحروب، جميلٌ أنْ نُسلِّط الضوء على وجود مهم “للفضاء العامّ” الذي من الضروريِّ صونُه.

ثَمَّةَ مكان شاغر في حديقة البناء الديكارتيّ[5] لفرنسا لأي وردة قابلة للعيش برُبُوعه دون أنْ نلغيَ مدى قسوة وصرامة النظام الرسميّ بالشكل الذي بلورته اللائكيَّة الفرنسيَّة. فالقانون يُطبق على خناق الأفراد والجماعات على نحوٍ لا تشهده الديمقراطيَّات الأخرى.

رُبَّما تزخر فرنسا بأكبر تعدُّد للثقافات من حيث التطبيق العمليّ لا النظريّ، لكن لا ننسى أنَّ للنظرية ثقلها أيضًا. ويتعيَّن على الأفراد في فرنسا كبتُ جزء أساسيّ من كينونتهم في الحياة العامة.

عندما قال إيمانويل ماكرون إنَّ ثمَّةَ معركةً وجوديَّةً تدور رحاها في فرنسا، كان مُحقًّا تمامًا، إلَّا أنَّ المعركة الكبرى تتمحور حول الديمقراطيَّة نفسها، وفي ساحة الحرب التي تتجاوز بأبعادها فرنسا نفسها.

المصادر

  1. يكشف لنا هذا المقال عن جزء ضخم من الصراع الفكريّ الدائر في فرنسا حول الإسلام والمُسلمين. ويكشف أيضًا عن الاختلاف والتعدُّد في نظرة العالَم الغربيّ لتكوين مجتمعه؛ ما بين فرنسا ذات الفكرة الجمعيَّة الواحدة التي يجب أن يخضع لها الجميع، وبين الولايات المُتحدة الأمريكيَّة التي تعزِّز إظهار الاختلاف بين الناس في إطار الدولة الواحدة. (المُحرِّر)
  2. هذا العنوان وما بعده من عناوين من وضع المُحرِّر.
  3. يعني الشعار أنَّ جسدًا واحدًا يتكوَّن برغم تعدُّد مُكوِّناته. (المُحرِّر)
  4. تذكر الكاتبة أصناف الطعام هذه على سبيل الاستعارة للأفكار المُختلفة من الثقافات المُختلفة. (المُحرِّر)
  5. نسبة لديكارت فيلسوف فرنسا، والذي يعدُّ بدءًا لعصر “الحداثة”. ويُنظر له بوصفه تمثيلًا للعقلِ الإنسانيِّ وتحكُّمِهِ في مسار الإنسان. (المُحرِّر)

ربى الخليل

مترجمة محترفة، عملت في مراكز بحثيَّة، وأعمل الآن في شبكة رابتلي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى