لماذا أمريكا؟

كم هو مؤلم أن يستمر تطابق وصف سيد قطب لأمريكا بنفس الدقة التي نصفها بها اليوم إبان الألفية الثانية! لا أقصد التوصيفات الجغرافية، والإحصاءات الاقتصادية والاجتماعية؛ فهي تصب كلها في نفس الخلاصات، وتستمر بنفس الاتجاهات التي وصل إليها سيد.

وتلك تسعدنا، لا تحزننا؛ لأننا نرى فيها قدر الله يتحقق في قوم جبارين، وسننه تتوالى على قوم كافرين، ولكن ما يؤلمنا بعمق هو حقيقة أن أمريكا؛ ذلك العالم المترامي الأطراف بقواعد عسكرية في كل زوايا الأرض، وبتاريخ دموي بشع صارخ بألوان الإجرام في كل مصر، لا زالت تشغل أذهان الناس وتصوراتهم أكثر مما تشغل من الأرض رقعته الفسيحة، وترف عليه أخيلتهم وأحلامهم بالأوهام والأعاجيب، وتهوى إليه الأفئدة من كل فج، شتى الأجناس والألوان، شتى المسالك والغايات، شتى المذاهب والأهواء!

ما الذي تساويه أمريكا؟

وتزداد مرارة هذا الشعور حينما نجد أن سؤال سيد قطب الذي طرحه في نهاية الأربعينيات لا يزال يتردد صداه اليوم بعد كل هذه السنين، ليجد نفس الإجابة والحقيقة، فما الذي تساويه أمريكا في ميزان القيم الإنسانية؟ وما الذي أضافته إلى رصيد البشرية من هذه القيم، أو يبدو أنها ستضيفه إليه في نهاية المطاف؟

اقرأ أيضًا: ما لا تعرفه عن معدّلات التحرّش والاغتصاب في الغرب

ورغم ذلك لا زال أقوام من بني جلدتنا يحلمون بأن تطأ أقدامهم أرض أمريكا وتلفح جلودهم نسماتها ومنهم من يحلم بأن يقبّل ثراها، وقد رأيت من يفعل ذلك بأم عيني، ليس سجود شكر لله، بل سجود تقديس لأرض مدنسة بأشكال الكفر والصلف والكبر والطغيان.

وفي حين كان سيد يخشى ألا يكون هناك تناسبًا بين عظمة الحضارة المادية في أمريكا، وعظمة (الإنسان) الذي يُنشِئ هذه الحضارة؛ ويخشى أن تمضي عجلة الحياة، ويطوى سجل الزمن، وأمريكا لم تضف شيئاً -أو لم تضف إلا اليسير الزهيد- إلى رصيد الإنسانية من تلك القيم، التي تميز بين الإنسان والشيء، ثم بين الإنسان والحيوان.

فإنني أؤكد اليوم -و بكل ثقة- أن أمريكا لم تضف شيئًا، ولا حتى اليسير الزهيد، بل على العكس من ذلك، أمعنت في هدر كرامة الإنسان وكرامة المسلمين خاصة، وزاد عداءها وحقدها وانحدارها أكثر بعد خسارتها في حربين عظيمتين استنزفت خزائنها وخلطت أوراقها، الأولى في أفغانستان والثانية في العراق.

ثم لماذا بأمريكا تحديدًا نضرب المثال؟

ذلك لشدة انبهار أغلب المسلمين بحضارتها الزائفة، وتعلقهم بعبقريتها؛ التي تجمعت وتبلورت في حقل العمل والإنتاج على حساب حقل القيم الإنسانية؛ ففتح الله عليهم أبواب كل شيء لَما نسوا ما ذكروا به، وبلغوا ما لم تبلغه أمة قبلهم، على مستوى العلم كما العمل.

ولا نستغرب أن نجد إلى اليوم، ورغم كل البلاء والدمار الذي نال الأمة المسلمة مما نالها على أيدي الأمريكان، نجد شباب المسلمين يحلمون بهجرة لأمريكا، وفرصة انطلاقة لامعة على أرضها -وإن كانت بدايتها بتلميع أحذية الكافرين-!

ذلك لأن مفهوم اللمعان لديهم يختلف تمامًا حينما يكون في أمريكا، فتعجب لدرجات الصبر التي يتميزون بها على تجرع غصاصة الذل والمهانة في أرض كانت بمثابة الحلم، في حين لا نكاد نجد لهم ذرة من ذات الصبر في بلادهم التي لا تزال نامية.

فردوس العصر

وهذا يصب في مفهوم أن أمريكا هي فردوس العصر بالنسبة لهؤلاء، هي الهدف، هي المبتغى ومبلغ المنى! وهذا الذي دفع بكثير من شباب المسلمين ومن أصحاب الشهادات الراقية، إلى الارتماء في أحضان الانهزامية للحضارة الأمريكية، انعدمت مع هذا الارتماء جميع ملامح الإبداع لديهم في بلدانهم، وبدل ذلك نراهم يكابدون الأهوال في سبيل نيل إقامة أمريكية، أو الاستمرار في تحصيل بعض مزايا هذه الإقامة!

فقد شاهدت أطباء في شتى الاختصاصات، وأساتذة ودكاترة جامعات يعملون في وظائف لو عرضت عليهم في بلدانهم لكان ردهم سيلًا من السباب والشتائم، ولكن أن تحمل فضلات الكفار، أو تقود سيارة أجرة، أو تغسل أرضية فندق، أو تسارع لتلبية طلبات الزبائن في المطاعم والأسواق وأنت صاحب الشهادة الجامعية “المرموقة”، فهذا أمر مستصاغ بل منتهى الدهاء والنباغة.

وذلك في سبيل الحصول على وثائق مواطنة أمريكية أو جمع بعض الدولارات لطلة غنية تبهر الذين لم يفلحوا بعد في الوصول إلى أرض ما بعد الأطلسي فيموتون كمدا. وقد حصل أن ركبت في سيارات أجرة يقودها عرب؛ هذا طبيب عام، وهذا أستاذ جامعي في مادة التاريخ، وهذا مهندس إلكترونيات، وكان كل منهم يبوح بما في صدره من علم ومعرفة في مجال اختصاصه لكل من يركب معه من العرب، وكأنه الحنين الجارف الذي كبتته الرغبات المادية القاهرة!

لقد قص علينا أستاذ التاريخ قصة التاريخ منذ عصر الدولة الأموية إلى عصرنا اليوم بعرض مبهر يشع نباغة وثراء بالمعلومات ولكنه بدل أن يفيد أمته كان يسوق سيارة أجرة في بلاد أعداء أمته، أمريكا!

ثم لماذا أمريكا؟

لأنها بلا أدنى شك على رأس قيادة هذا العالم، تتربع على عرش الهيمنة القطبية لعقود، استطاعت بفضل دهائها ومكرها وقوتها المادية أن تسيطر على الاقتصاد، وتهيمن على كواليس السياسة، وتبتز وتناور وتمرر ما تشاء في كل أرض لها فيها مصلحة، وإن كانت تبعد عنها آلاف الأميال بقوة السلاح ودهاء المستعمر!

لأنه ما من جريمة في الأرض اليوم إلا وارتبط اسمها بأمريكا، أو نجد لها علاقة خفية أو ظاهرة بالأطماع الأمريكية التي قلبت من بلاد المسلمين مسرحا لتجاربها العلمية والعسكرية، ووظفت لذلك كوادرها من مفكرين وعلماء وباحثين لدراسة كل حركة وسكنة في مجتمعات المسلمين، وتقديم التقارير الوافية لحركة الصحوة الإسلامية بجميع أشكالها وألوانها.

وبات العالم الإسلامي تحت عدسة مجهر أمريكي، يتتبع كل ما يدور فيه ويتصرف في الوقت المناسب لإجهاض أية محاولة للنهوض، ثم الحرص على تعميق تأثير الأنظمة الوظيفية التي أقامها بظلمٍ منه، وظلمنا لأنفسنا. في نفس الوقت الذي يواصل فيه تأثيره -أو بالأحرى غزوه الفكري- من خلال نوافذ الإعلام، والتعليم، والسياسة!

الإعلام

استطاعت أمريكا أن تخترق البنية الاجتماعية في العالم الإسلامي بفضل آلة إعلامية؛ تعتمد على أخطبوطات من المؤسسات والقنوات والبرامج الهدامة، فضلًا عن استراتيجية متعبة لترويض الشعوب، وضخ المفاهيم الفاسدة بلغة عربية فصيحة، ثم ذلك التمهيد المتواصل لاستمرار شعور الانهزامية أمام تفوق الرجل الأبيض الذي لا زال في الأفلام الهوليهودية الرجل الأكثر قوة وذكاء ونباغة عن جميع الشعوب.

ولنا أن نتأمل قليلًا، كم من الزمان تَشَربت فيه أذهان شباب المسلمين أفكار تلك الأفلام الهوليهودية الأمريكية، وكم من التمجيد للحضارة الأمريكية نجحت في ترسيخه تلك الأفلام في مجتمعات عاجزة عن النهوض من حفر التيه والعبث والخنوع والقمع!

كم من الانبهار ظهر على أعين المشاهدين “الملايين”؛ الذين يحفظون أسماء الممثلين الأمريكيين أكثر مما يحفظون آيات القرآن، ويتابعون أحط اهتمامات هؤلاء الممثلين، وإن كان على حساب دوامهم ومهامهم في الحياة!

أهداف الإعلام

إن الإعلام الأمريكي تمكن من تحقيق أهداف كثيرة له خلال مسيرة عقود من الزمان، ألخصها في نقاط:

  • اختراق الفكر الإسلامي، وزرع الانهزامية بشكل يصعب اقتلاعها إلا بجهد جهيد.
  • شغل الأذهان بما حط من اهتمامات باسم الدراما والسينما والفن والرفاهية؛ فيمضي الشباب المسلم الساعات -الثمينة- في متابعة أفلامهم وبرامجهم منبهرًا معجبًا بها، في حين يقضي شبابهم ساعات عمله بجد وتفاني، يركز فيها، لا يحق له أن يتسلى خلالها إلى بعد انتهاء دوامه!
  • تشويه المفاهيم الإسلامية القويمة، واستبدالها بمفاهيم العلمانية والديمقراطية والليبرالية، حتى بتنا نسمع العجائز يطالبون بالمساواة بين الرجل والمرأة، وبحكم ديمقراطي يحكم البلاد ولو سألت إحداهن ما تعني لك الديمقراطية لأجابت بلا تردد: الحرية!
  • تدمير المنظومة الأخلاقية والاستهانة بالذنوب والانحلال الخلقي؛ فأضحت مشاهد العري والفسق والفجور وشرب الخمر والزنا والنصب والسرقة والمكر كلها صفات مستصاغة، ويمثلها الرجل الشجاع والبطل الهمام الذي تظهره كاميرات الإعلام بطلًا، وإن هدر كرامة الإنسان، وداس على القيم والمبادئ الإنسانية -فضلًا عن الدينية-!
  • حرف الحقائق التاريخية؛ بحيث أصبح الناس يستمدون معلوماتهم التاريخية من الإعلام الأمريكي وتحديدًا أفلامه التاريخية، فأصبحت رحلة الأمريكي في فيتنام رحلة البطولة والفداء، وقصفهم نجازاكي وهيروشيما ضرورة لها أحكام، وغزو العراق خدمة لأمة الإسلام، وحرب أفغانستان حرب لأجل الحرية وقيم الإنسان!! وأضحى الانتقاد الواحد للأمة الأمريكية تعديًا على الحريات، والإشارة السلبية الواحدة تهمةً بالتخلف والانحطاط.!
  • تسهيل مهمة الأنظمة الطاغوتية بإحكام قبضتها على الشعوب؛ فحين تنشغل هذه الشعوب بإعلام يغيبهم عن مسلك النجاة، ويدلهم على الفحشاء ويشعلل فيهم الشهوات ويغمسهم في ملذات الإنسان، ويغيّب عنهم أهم ما يمسهم من معطيات؛ هي ضرورية لنهضتهم، ويعمق في داخلهم السلبية والانهزام! أنى لهم أن يقوموا لمهمتهم في هذه الحياة، وأنى لهم أن يتحملوا تكاليف الدعوة والجهاد!
  • تمكن الإعلام من تشويه صورة الصحوة الإسلامية -ولو مرحليًا أو جزئيًا-، ونحن نقيس على النسبة المئوية للتأثير الإعلامي على الشعوب المسلمة، ولا نتحدث عن فشل هذا التأثير في النخبة منها؛ لأنها نجت بحفظ نفسها من براثن هذا الإعلام، ونجحت في نقده بعلم وبصيرة.

و بالنظر في مآلات الثورة التي اندلعت مع الربيع العربي؛ فقد كشفت هذه الثورات مدى تأثير الإعلام الغربي العميق في التيارات الفكرية في عالمنا الإسلامي، ومدى تشرب الجماهير لتلك المفاهيم العلمانية والديمقراطية بإيمان منقطع النظير جعلها تقاتل لأجلها على أنها السبيل الوحيد للخلاص!!! وفي نفس الوقت بدأت المقاومة الشريفة توصم بالإرهاب! وانقلبت المفاهيم وتحولت البوصلة بدل اتجاه الاستدراك إلى تعميق الهوة!

وفي الواقع صعب جدًا تلخيص دور الإعلام الغربي على رأسه الأمريكي في اختراق المنظومة الفكرية والعقدية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية لشعوبنا المسلمة، وأرى أنه يحتاج سِفرًا منفردًا؛ يسبر أغوار هذه القضية بجميع تفاصيلها.

اقرأ أيضًا: الظاهرة الإعلامية وتأثيرها في السيرورة السياسية

التعليم

لا يكاد يخلو فصل جامعي ولا حتى ثانوي من نقاشات الطلبة الحالمة التي يكشفون خلالها عن أمانيهم في الحصول على شهادة من جامعة أمريكية مرموقة، ولا يزال الطلبة الذين تمكنوا من الحصول على هذه الفرصة ينظر إليهم نظرة التميز والغبطة!

ولو نظرنا إلى السبب خلف هذا الانبهار بالشهادات الأمريكية، نجده تحصيل حاصل للجدية والتفان الذي تتميز به جامعاتهم ومدارسهم؛ التي تولي اهتمامًا عظيمًا بميادين العلم، وتضخ فيها الملايين من الأموال؛ في سبيل أن يسمو العلم المادي على كل علم.

رؤية الإنسان في أمريكا

وكما شَخصَ ذلك سيد قطب ببراعة عجيبة؛ فإن الإنسان في أمريكا ولد على مولد العلم، فآمن به وحده، بل آمن بنوع منه خاص: هو العلم التطبيقي؛ لأنه وهو يواجه الحياة الجديدة في القارة الجديدة، وهو يتسلم الطبيعة هنالك بكرًا جامحة عتيدة، وهو يهم أن ينشئ ذلك الوطن الجديد الذي أنشأه بيده، ولم يكن له من قبل وجود، وهو يصارع ويناضل لبناء هذا الوطن الضخم، وهو يفعل ذلك كله، كان العلم التطبيقي هو خير عون له في ذلك الجهد والتنظيم والإنتاج.

وهذا ما عرفته بعمق خلال دراستي الجامعية في حقل البحث العلمي، وخلصت إلى نتيجة واحدة مع سيد، هي أن العلم بالنسبة للأمريكان هو السلاح الأهم والأكثر إتقانًا !. وأن الأمريكان يصرفون جدهم لتحصيل علمي فائق، وتقدم مادي هائل، وعبقرية تنظيمية مبدعة، وروحًا من الجلد والصبر على العمل والإنتاج، توازيها روحًا عملية في مواجهة المشكلات خلال الدراسة والتنفيذ.

ولا شك أن هذه ميزة تتميز بها الحضارة الأمريكية؛ وهي اتخاذ المنهج العلمي في البحث والصبر عليه، وعبقرية التنظيم واعتماد التجربة كأساس لأي بحث. ما كان نتاجه تقدمًا هائلًا في ميادين العلوم البحتة والتكنولوجيا الحديثة، لكنها تبقى برمتها مبتورة الأصل والغاية.

نهبٌ للعقول

ومع ذلك يقترن اليوم النجاح العلمي عند المسلمين بشهادة أمريكية، والحظ الكبير بحصول قبول منحة دراسة في جامعة أمريكية! وهذا ما يدفع شبابنا المتعلم للتعلق بأمريكا وتذهب عقول هذه الأمة مغتربة؛ لتصب عبقريتها ونتاجها في سبيل ازدهار الأمة الأمريكية، بينما أمة الإسلام في أمس حاجة لهذه الطاقات العلمية!

ولا يعني هذا أن ننسى المواقف المشرقة لبعض علماء المسلمين الذين داسوا على عقود العمل الأمريكية في حرب العراق الأولى، وقدموا استقالاتهم من أكبر الجامعات. حتى أن أحدهم كان يصل راتبه السنوي إلى مائة ألف دولار، ولكنه حمل نفسه وعائلته وخرج من أمريكا؛ تدفعه غيرته ومروءتُه أن يخدم بلدًا يَقصِف وطنَه العراق، وأمثله كهذه لا تُعدم، وتدعو للتقدير.

ثم في مقابل هذا الاستقطاب تعمد الإدارة الأمريكية للضغط على المؤسسات التعليمية في ديار المسلمين لإجبارها على حرف المناهج، وإقامتها بالشكل الذي يرضيها؛ خاوية من الإسلام، فتخرج أجيالًا من الطلاب لا يعتزون بتاريخ، ولا يعرفون خُلُقًا، ويلون أعناقهم إلى أمريكا متشبثين بكل ما هو انسلاخ من الإسلام، وذوبان في الغرب، إنه بحق داءُ التغريب الخبيث.

فكانت استراتيجية مزدوجة استقطاب عقول المسلمين وتغريبهم وتوظيفهم في سبيل أمتهم وقوتهم وفي ذات الوقت تغييب من بقي في بلده بطرق ماكرة أقلها تطويع البرامج التعليمية لصالح الأهداف الأمريكية.

السياسة

وأما في السياسة فلا أوضح من مظهر التسابق المحموم؛ لإقامة الحكم على طريقة العلمانية والديمقراطية، واعتبار القوانين الوضعية منتهى الرقي والحرية، بتهميش متعمد وصفيق لكل ما يتعلق بحكم الله، وهو حكم الشريعة الإسلامية!

http://gty.im/584828606

فمن أين جاءت هذه المفاهيم التي تشربت من قواميس الحكم الغربي الكافر؟ لابد أن من ضخها في أمتنا هو الكيد الأمريكي المشؤوم؛ حين نشرت أمريكا حبال هيمنتها، فأضحت ترقص معها شخصياتنا السياسية كما ترقص الدمى المعلقة بالحبال وهي توهم الجماهير المتفرجة أنها على شيء!

اقرأ أيضًا: نحو فهمٍ أفضل للهيمنة الأمريكية

فقد نجح الأمريكان في توريد النظم السياسية، وكذا الاقتصادية والاجتماعية من خارج الإسلام إلى ديار الإسلام؛ فاستوردت النظم والمبادئ للمسلمين من عند أعداء الإسلام! وأقنعتهم بتشريع بغير ما أنزل الله مُستَمدًا من قاعدة غير إسلامية؛ ألا وهي “تعبيد البشر بعضهم لبعض، بدلًا من تعبيدهم لربهم وخالقهم سبحانه”، فكان حكم جاهلية يبغون!

وارتفع صيت رجال السياسة البارزون من العلمانيين الذي يصولون ويجولون، لا يردعهم أحد وتلتف حولهم الجماهير، في فريق الحكام أو في فريق المعارضة سواء، ورفع كلاهما أول شعار -وإن أضمروه-:”فصل الدين عن الدولة”.

دَور الفنون المختلفة

وقد يظهرون أيضًا كرجال فكر وأدب؛ يضخون سيل المفاهيم الفاسدة، يكررونها  ليل نهار حتى أضحى الجاهل بكل تعقيدات الحكم ومآلات السياسة يعتقد أن طريق الخلاص هو العلمانية والديمقراطية لا غير.

وفي نفس الوقت، لا زالت سياسة العصا والجزرة، وأحيانًا كثيرة سياسة العصا بلا جزرة، هي السياسة التي تطبقها أمريكا من خلال وكلائها الحكومات الوظيفية التي تُنتقى بعناية فائقة، فلا يحكم بلاد المسلمين إلا مستبد ظالم، وقمعي ماكر، وخبيث سارق، ومنحرف ضال، وبعيد عن الإسلام فاسق!

ولا نسأل عن بطانته وحاشيته بما فيها علماء السوء الذين يشرعنون له، ويخدرون الجماهير بالإرجاء والتمييع، أو التصوف والتضليل! ويحطمون عرى التوحيد، عروةً عروة! ولا يخفى على ذي لب ترحيب الأمريكان الحار بهذين التيارين المنحرفين عقديًا، المنعزلين سلبيًا، المتواكلين فكريا.

أفرغا لا إله إلا الله من حقيقتها في قضية الحاكمية المتصلة بتحكيم شريعة الله، وحصرا العبادة في الشعائر التعبدية وحدها، وأخرجا منها بقية التكاليف، فلم تجني منهما أمة الإسلام إلا الوهن والانكفاء على النفس واللذات، وحرمت معهما الحركة والعمل والإنتاجية المطلوبة لأي نهضة منشودة!

وبهذا الشكل عمدت أمريكا على تطويع الأمة للواقع المخالف للإسلام على أنه ضرورة لها أحكامها، وخدرت العزائم، وأجهضت مساعي الصحوة للعودة للريادة. و تمكن الأمريكان بالفعل من تنحية الشريعة الإسلامية عن طريق السياسة في حياة المسلمين، ووضعوا بدلها قوانين وضعية بدأت تصفق لها الجماهير! وأضحت العلمانية والديمقراطية هي أسمى المنى وأحذق الآراء!

مآل مَن أدرك

ولا شك أن المتدينين نظروا إلى كل ما يجري بأنه كفر صريح، لا يمكن الرضا عنه، واستنكروه بشتى الوسائل الممكنة، إلا أنهم لوحقوا وقمعوا وحوربوا بكل ألوان الاستبداد والقمع والطغيان! ولم ينجو شيخ عالم ولا شاب غيور، الجميع ذاقوا من ويلات هذا الإنكار! وتحت صمت مريب لشعوب المسلمين المملينة!

اقرأ أيضًا: 10 دعاة وعلماء في السجون إلى تاريخ غير محدد

ولا أرى هذا إلا نتيجة التأثير الجسيم الذي حققه الغزو الفكري البطيء، ولكنه أكيد المفعول، والذي استهدف كل ركن من أركان الحياة الإسلامية، وتمكن من سلخ هذه الأمة من هويتها وشريعتها! مع العلم أن السياسة لم تمس بمظاهر الدين الثانوية وحفظت خطًا أدنى؛ لترويض الشعوب وتبديد آلامهم.

وهكذا بدهاء ماكر بعد أن حكمت الشريعة الإسلامية هذه الأمة ثلاثة عشر قرنًا، لا ترضى بغيرها حكما، وكان هذا سبب تميزها ورقيها وانتصاراتها، فحفظت بذلك وجودها التاريخي رغم كل النوازل والأخطاء التي مرت بها، عمد الغرب -على رأسه أمريكا- إلى تسليط أكابر الطغاة المجرمين.

وذلك ليحكموا قبضتهم، ويلجموا الأمة بالحديد والنار والعسف والتسلط. وفتحوا لهم ميادين السياسة، وكذا الفكر والأدب، وحرية المرأة بعد أن طوعوها تطويعًا مذمومًا لسلطة الثقافة الغالبة، ولأهداف الإمبريالية الأمريكية في العالم.

لهذا كان لابد أن نكشف زيف الدعاوى والوعود التي تعرضها أمريكا لهذه الشعوب، ونحذّر من مغبة الانخداع بلمعان كاذب ومفاهيم بعيدة عن الحقيقة، والتنبه للتناقض الجسيم الذي يعرفه الشعب الأمريكي، والتخبط الذي يعيشه، قبل أن ننبهر بما يستحق منا كل القدح والاستعلاء!

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى