اللغة العامية تحاصر الأطفال في الإعلام والتعليم… من ينقذ مستقبل «العربية»؟

هل تعلم أنه قبل إعلان «دولة إسرائيل»، قام نشطاء يهود باستدعاء «اللغة العبرية» من بين ركام القرون الغابرة، وحوّلوها إلى لغة محكية نطقًا وكتابة، ولم تقتصر عملية تحول اليهود لاستخدام العبرية على التعليم في المدارس فقط، حتى توغلت في لغة الشارع والحياة اليومية، وأصبحت لغة رسمية عام 1922 تحت سياط الانتداب البريطاني على فلسطين، كل ذلك رغم أنها غابت عن الحياة أكثر من ألفي عام.

في مقابل ذلك، هل تعلم أيضا أنه في هذه الأيام التي نحياها حاليا تجري محاولات حثيثة لطمس اللغة العربية، تلك اللغة الفريدة التي تتمتع بمقومات حضارية وتاريخية تجعلها واحدة من أهم اللغات الحية في العالم، واستطاعت عبر تاريخها الطويل أن تحتفظ بمكانتها رغم كل التحديات التي شهدتها عبر السنين.

إقرأ أيضا: علمنة اللغة كمدخل لعلمنة المجتمع

ومن أخطر الوسائل التي تحارَب بها اللغة العربية في هذه الأيام هي وسائل الإعلام. ومن أكثرها خطورة البرامج الموجهة للأطفال، وخاصة برامج «الكرتون»، الذي يتم من خلاله توجيه أفكار النشء الجديد لاتباع خط ثقافي واجتماعي بعيد عن الاعتزاز باللغة العربية والتمسك بقيم الدين الإسلامي.

الحرب على اللغة العربية

معروف أن اللغة العربية تعرضت عبر تاريخها إلى محاولات هدم وتشويه عديدة، وخاصة في فترات ضعف الدول العربية وضعف الحركة العلمية، ودائما وأبدا كانت اللغة العربية أكبر الضحايا في فترات الاحتلال.

كما أنه في الفترات التي سادت فيها التيارات الثقافية التي تبنت مشاريع الاحتلال واستخدام اللغات الأجنبية «الفرنسية والإنجليزية» على وجه الخصوص، وجدنا البعض يدعو لاستخدام لغة مخلوطة مثل ما يسمى بـ «الفرانكوآراب»، وهي لغة مزيج بين الفرنسية والعربية، أو الانجليزية والعربية.

كما جرت محاولات أخرى تدعو لإعلاء قيمة اللهجات العامية، وظهر من نادى باستخدام اللغة العامية كلغة بديلة في الأدب والثقافة والكتابة، وذلك في استكمال لمشروع خطير، بدأ منذ سنوات طويلة يستهدف مستقبل اللغة العربية بين أبنائها.

مخاطر إحلال العامية محل الفصحى

وفي العصر الحديث، تعد اللغة العامية من أبرز التحديات التي تواجه لغة الضاد، ويمكن تعريفها بأنها خليط من الألفاظ، بعضها فصيح الأصل عربي النسب ولكن تغيرت مخارج حروفه أو لعبت به ألسن العوام فحرّفته، وبعضها غريب دخيل، ولج إلى العربية من رواسب لغات أخرى امتزج أهلها بالعرب لسبب أو لآخر، وهي لغة فوضوية لأنها لا قاعدة لها وليس من منطقها ولا طبيعتها أن تكون لها قاعدة.

وبذلك يعتبرها البعض بأنها لغة ثانية تعيش على حساب الفصحى وتزاحمها، وأنها ليست صفة من صفات العربية كاللهجة مثلا؛ وأنها احتلت مكانها على ألسن الكثيرين ويراد لها أن تحتل مكانها على الأقلام وفي الكتب.

إقرأ أيضا: ظاهرة إدماج العرب لكلمات ومصطلحات غربية في كتاباتهم وحديثهم

وإذا عرفنا أن اللغة هي محضن الوعي والثقافة، وهي الحصن الذي يحمي وعي الطفل من الاختراق من الثقافات الأخرى، سندرك أنه ليس هناك ما يسمى لغة محايدة، لأن اللغة تتشرب قيم المجتمع وأفكاره، والانتماء للغة معينة يعني الانتماء لكل ما تحمله من قيم ومعتقدات وأفكار.

وبناء على ذلك، وجدنا كل الدول والأمم تتسابق في إعلاء شأن لغتها وتعظيمها لدى أفرادها، وهناك تسن قوانين لعدم استخدام اللغات الأخرى في المكاتبات والمراسلات وحتى في أسماء المحلات والشوارع والميادين.

تأثير الإعلام على لغة المشاهدين

البعض يرى حاليا أن اللهجات المحلية والعامية باتت تشكل مصدر تهديد لسلامة نطق الأطفال باللغة العربية، خاصة بعد تعمد بعض القنوات الفضائية عرض برامج الكرتون المدبلجة باللهجات العامية ومختلطة بكلمات أجنبية؛ مما أثر على المخزون اللغوي لدى الطفل.

ونتيجة لذلك تحولت اللغة العربية إلى مزيج هجين من الألفاظ الأجنبية والعربية واللهجات المحلية، وساهم في نشر هذه الحالة بعض من يعتقدون أن التحدث بهذه الطريقة دليل على المكانة الاجتماعية الراقية ومستوى التعليم الرفيع.

كما لعبت وسائل الإعلام دورا خطيرا في ترسيخ هذه الفكرة الاستعراضية بالابتعاد عن “الفصحى”، فصورت التحدث بكلمات أجنبية على أنه دليل على التمدن والثقافة، على النقيض ممن يتحدث الفصحى، فقدمته على أنه شخصية تقليدية وتوجهاتها الفكرية محدودة في ثقافة واحدة.

«الرسوم المتحركة» تغير لغة الأطفال

أحد أبرز محاولات محاربة اللغة العربية هو شيوع مظاهر استخدام اللهجات العامية في وسائل الإعلام، وإعلاء شأن البرامج التي تُعنى بالعامية، على حساب اللغة الفصحى، وذلك في وقت تعاني بلادنا فيه من ضعف تعليم اللغة العربية في المدارس والجامعات التي بات معظمها يستخدم الإنجليزية كلغة أساسية للتعليم.

وحين يكون الحديث عن برامج الكارتون، فإننا بالضرورة نتحدث عن أكثر عناصر الإعلام الموجه للطفل تشويقا ومتابعة، وأيضا أكثرها تأثيرا في ذهنه وعاطفته ولغته وربما سلوكه. 

قديما، كانت رسوم «الكرتون» الموجهة إلى الأطفال مصدرًا من مصادر التعلم اللغوي الذي يضيف إليهم كلمات وعبارات فصيحة؛ إلا أنه مع الهجمات الشرسة للدبلجة باللهجات العامية التي غزت عالم أفلام «الكرتون» أصبح الوضع مختلفا، وخفت وهج الفصحى إلى حد كبير، بعد ما أصبح الأطفال أمام هجمة كبيرة من برامج كرتونية بمزيج مختلط من اللهجات والكلمات المغرقة في المحلية وخاصة باللهجات لبنانية ومصرية وخليجية.

إقرأ أيضا: أفلام الكرتون: خطر محدق وآباء غافلون

وبمقارنة سريعة بين الجيل الذي كان يستمع إلى برامج الأطفال في الإذاعة والتلفزيون بالعربية الفصحى في تسعينيات القرن الماضي وما قبل ذلك، مع جيل الألفية الجديدة ستجد فرقا واضحا في اللغة والأدب بل في الثقافة والهوية وحتى السلوك والأخلاق بين هذين الجيلين، لدرجة أن أفلام الكرتون التي كانت تعرض في التسعينات من القرن الماضي ربما تبدو غير مفهومة لشريحة كبرى من الأطفال حاليا، لكون آذانهم لم تعتد على سماع اللغة العربية الفصحى مثل أقرانهم من الجيل السابق.

تزداد خطورة هذه المشكلة حين يقضي الأطفال ساعات مطولة أمام برامج الكرتون، مما يمنحهم قدرة تعبيرية من واقع ما يسمعونه في هذه البرامج. ومكمن الخطورة هنا يتمحور في أن أغلب من يشاهد الرسوم المتحركة هم من الأطفال بين 3 و8 سنوات.

وهذه الفترة من العمر تعتبر مرحلة حساسة جدا في حياة الطفل، حيث يرتبط فهم الأطفال للألفاظ بنموهـم الإدراكي، وحين يتلقون معلومة ما في مرحلة مبكرة، ويتم تكرارها بأكثر من طريقة، فإنها تترسخ وتبقى في ذاكرتهم مع الزمن.

الأخطر من ذلك هو أن الجيل الحالي بات مهووسا بالتقنية والتواصل الكتابي عبر شبكات التواصل الاجتماعي، والكارثة أن معظم الكتابات على هذه المواقع يكون باللهجة العامية، بما تحمله من أخطاء إملائية ولغوية، إلى جانب ما يجده الصغار معروضا على الشاشات من برامج ورسوم كرتونية انفصلت تماما عن الفصحى وغاصت في اللهجة العامية؛ كل ذلك يدك أسوار لغة الضاد ويهدد مستقبلها.

الإنصاف يقتضي أن نشير إلى تحول إيجابي في لغة بعض الرسوم المتحركة مؤخرا حيث تحول عدد لا بأس منها إلى الحديث بالفصحى، وبخاصة حين يُصاغ الحديث بلغة سهلة وجاذبة، ويبدو أثر ذلك في طريقة تقليد الأطفال لطريقة حديث هذه الشخصية أو تلك،

لكننا لا نستطيع أن ننكر أن كثيراً من الرسوم المتحركة في إعلامنا العربي الموجه إلى الطفل تعتمد اللهجات العامية الإقليمية، وهذا أسهم في تكريس العامية الإقليمية من جديد في أذهان أبنائنا وأبعدهم كثيرا عن سماع وتكلم الفصحى فضلا عن قراءتها والكتابة بها.

أهمية اللغة بالنسبة لشخصية الطفل

من المعروف أن الطفل كالورقة البيضاء التي تحسن استقبال ما يكتب فيها، وتلعب اللغة دورا مهما في تشكيل هوية الطفل وتحديد شخصيته، فبها يُعبر عن أفكاره وميوله، ومن خلالها يستوعب البيئة المحيطة به، وعن طريقها يتواصل مع الآخرين.

كل ذلك يشير إلى خطورة «المعركة اللغوية» بالنسبة للأطفال ومستقبل الأجيال القادمة، مما يعني أن الأمر يتطلب الكثير من الحذر والوعي بخطورة القضية، لاسيما إذا علمنا أن المعركة لا تبدو متكافئة، نظراً للزخم الكبير الذي تنطوي عليه وسائل الإعلام الموجهة إلى عقل ووجدان الطفل العربي، في عددها وجاذبيتها وتأثيرها.

أضف إلى ذلك التأثر السريع والشديد من الطفل بها، وهو الأمر الذي يجعل المسؤولية مضاعفة على الدولة والمجتمع والأسرة لحماية النشء الصغير، وصيانة هويتهم ولغتهم وثقافتهم ودينهم.

ولعل أخطر ما يمكن أن يتركه الإعلام الموجه إلى الطفل العربي في لغته، هو مأزق الازدواجية اللغوية التي تفسد قاموسه، وتربك تفكيره اللغوي ومستويات نطقه الصوتية، ثم ينعكس ذلك لاحقا على هوية الطفل وثقافته وسلوكه.

وبالنظر إلى واقع وسائل الإعلام العربية الموجهة إلى الطفل، يبدو أن أكثرها لا تهتم بأمر اللغة العربية، ولا تعتني بها، وربما ليس من أهدافها أن تنمِّي قاموس الطفل اللغوي، أو حتى أن تحافظ عليه. وبالعكس تجد تواجدا ملحوظا للأسماء والكلمات الأجنبية مكتوبة أو منطوقة في البرامج والرسوم المتحركة والأغاني والإعلانات التجارية وغيرها.

نماذج جديرة بالاحترام للحفاظ على اللغة

الاعتزاز باللغة الأم والاهتمام بها أمر يعتبر من البديهيات لدى الجميع، وربما ارتقى إلى مرتبة المقدسات لدى بعض الأمم، يقول الشاعر الصقلي “اجنازيا بوتينا” في كلمات معبرة عن أهمية اللغة: “ضع شعباً في السلاسل، جرِّدهم من ملابسهم، سدّ أفواههم، لكنهم ما زالوا أحراراً، خذ منهم أعمالهم، وجوازات سفرهم، والموائد التي يأكلون عليها، والأسرَّة التي ينامون عليها، لكنهم ما زالوا أغنياء، إن الشعب يفتقر ويستعبد، عندما يسلب اللسان الذي تركه له الأجداد، وعندها يضيع إلى الأبد”.

وإذا نظرنا إلى تجارب دول أخرى في الحفاظ على لغتهم من الاندثار ستجد نماذج جديرة بالاحترام، مثل تجربة كوريا الجنوبية، التي أدركت مكانة اللغة وعلاقتها الكبيرة بالهوية، وخاصة بعد الاحتلال الياباني، الذي فرض اللغة اليابانية كلغة تدريس في المدارس الكورية عام 1931م.

لذلك عمد الكوريون فور استقلالهم، بعد الحرب العالمية الثانية 1945م، إلى الاهتمام المضاعف باللغة الكورية، عبر الاهتمام بالمدرسة، والمعلم، والكتاب، والمكتبة. وقدروا معلّم اللغة معنويا وماديا، حتى أن راتب المعلم في مرحلة التدريس للطفولة المبكرة، لا يقل عن ألفين وثلاثمائة دولار شهريا حاليا. ولا يسمح له بتعليم دروس خصوصية؛ وإلا فقد عمله إلى الأبد.

وأولى الكوريون أهمية خاصة للقنوات التلفزيونية، فخصّصوا خمس قنوات منها للأطفال، كما خصص في القنوات الأخرى وقت محدد لبرامج الأطفال، وكلّها تبث باللغة الكورية الفصحى.

وأعطوا اهتماما واسعا بالتأليف والترجمة لكتب الطفل، واعتبرت قراءة الكتب مجانياً للأطفال في المكتبات العامة والخاصة التي يوجد بكل منها ركناً خاصاً بالأطفال.

كما استخدم الكوريون تقنيات تربوية غير تقليدية، تعتمد الحوار، وكتابة التعبير والقصة، وتستعين بالفنون المتنوعة، مثل المسرح، والتمثيل، كما تستعين بالمسابقات، والرّحلات العلمية والترفيهية، وتدرب الأطفال على استخدام الحاسوب، ووسائل المعلومات الدولية.

هذه بعض وسائل الحفاظ على اللغة وضمان مستقبل زاهر لها على لسان الأجيال القادمة.

توصيات للارتقاء بلغة الأجيال المقبلة

بالنسبة لحالة اللغة العربية، هناك حلول ومقترحات عديدة للارتقاء بها وترسيخ قيمة الاعتزاز بها لدى الأجيال المقبلة، خاصة وأن لغتنا تمتلك العديد من المقومات التي تحافظ على اللغة واستمرارها بشكل ذاتي مثل كونها لغة القرآن الكريم الذي تعهد الله عز وجل بحفظه.

إلا أن تزايد مخاطر الأخطاء الموجودة في برامج الأطفال على مستقبل أولادنا وبلادنا، تفرض على كل الغيورين اتخاذ قرارات وإجراءات سريعة على مستوى الدولة والمجتمع والأسرة.

والمسؤولية تتضاعف في هذا الجانب على مسؤولي الإعلام والتعليم والثقافة والدعوة فيما يخص احترام اللغة العربية في برامجهم وفعالياتهم، والبحث عن حلول إبداعية ووسائل علاجية تسهم في إنقاذ ألسنة وذاكرة أجيال المستقبل.

وهناك العديد من التوصيات التي يمكن اعتمادها في هذا الباب، مثل: اعتماد اللغة العربية الفصيحة كلغة أساسية في برامج الأطفال الإذاعية والتلفزيونية، وتشجيع الإنتاج التعليمي والترفيهي الموجَّه للأطفال على الأداء باللغة العربية الفصيحة بطريقة جذابة.

كما يمكن أيضا للغيورين على لغة الضاد ومستقبلها إنشاء قنوات تربوية متخصصة للأطفال على أن يكون التحدث فيها بالعربية الفصيحة، وإلزام الإعلاميين في برامج الأطفال بالتحدث بالعربية الفصحى، بهدف تحبيب الأجيال الجديدة في لغتهم، وإنشاء مسابقات للقراءة والكتابة باللغة الفصحى، من خلال وسائل الإعلام، لتشجيع الأطفال على النطق والكتابة بها، والاستماع إليها.

في كل الأحوال يجب علينا أن نعيد الاعتبار إلى لغتنا العربية، وأن نعمل على زيادة كفاءة مدرِّسي اللغة العربية، وزيادة مخصصاتهم المادية، وتكريمهم معنويا، حتى يجدوا الوقت الكافي للحوار مع الأطفال وتحبيب اللغة إليهم كتابة وتحدثا.

كما يجب أن نمنع السخرية من اللغة العربية، وخصوصاً في مجال الإعلام، وأن نهتم بكل ما يؤلف ويكتب للطفل، وبما يترجم له، ونزيد البرامج الموجهة إلى الأطفال، التي تستخدم الفصحى، بشكل يجمع بين الفائدة والإمتاع، نفعل ذلك، على الأقل، كما تفعل كل الدول والحضارات تجاه لغتهم، وإن كانت العربية تستحق أكثر من ذلك بكثير.

المصادر

  1. الإعلام.. ولغة الطفل من السطوة إلى المقاومة
  2. هل تسهم «دبلجة» رسوم الكرتون «العامية» في تمزيق الفصحى؟
  3. اللهجة العامية تطارد الفصحى في وسائل الإعلام
  4. إحلال العامية محل الفصحى.. مخاطر وآثار
  5. اللغة العربية في العصر الحاضر ـ مشكلات وحلول
  6. اللهجة العامية تسيطر على الإعلام وتهاجم «الفصحى»
  7. حقائق عن اللغة العبرية
  8. الحفاظ على اللغة حفاظ على الهوية: كوريا والصين نموذجاً

تبيان

تبيان، مجلة رقمية تتناول ما يُهم أمّتنا ومشاكلها وقضاياها الحقيقية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى