مشاهدات من واقع الأسرة والمجتمع الأمريكي

لقد كان أمرا غير مألوف أن ألتقي أمهات بأبناء ولكن غير متزوجات، ذلك أنني قدمت من مجتمع مسلم لا يقر الزنا وأن الزواج هو الرباط الوثيق قبل قدوم أي طفل، ولكنني صادفت الكثير من الأمريكيات البائسات اللواتي يندبن حظهن في العيش كأسر مبتورة، تفتقد للأب، فالآباء أو الوالدون كانوا يتنصلون من واجبهم الأبوي، وحين يزف له خبر ولادة ابن أو ابنة، يتهرب من لقائه ومن تحمل مسؤوليات تجاهه.

الحنين للاهتمام

ولا أنسى تلك الجارة التي سكنت بقربها وكان لديها ولد في عمر الخامسة، فكان أن دخل علي وعندي حبات من الشكولاتة، فأعطيته منها فما لبثت إلا ورأيتها تدق بابي وتشكرني جزيل الشكر على إبداء الاهتمام بابنها، لقد كانت تعكس حالة من الحنين للاهتمام تثير الإعجاب، شكرتني بشكل مبالغ فيه وكأنني أقدمت على فعل عظيم، وما كان إلا مجرد حبة شكولاتة، لكنها في عينيها كانت تعني أكثر من ذلك، فابنها هذا لم يحظ باهتمام أي شخص من عائلتها ولم يسبق أن تلقى هدايا أو أي محبة تذكر من والده الذي لا يعرف أين هو!

تهرب من المسؤوليات

المساعدة التقنية في الجامعة كانت تعاني نفس المأساة بابن من أب فرّ منذ أول لحظة علم فيها بحمل صاحبته، وتركها تواجه صعاب الحياة لوحدها، لهذا فإن الحكومة الأمريكية تخصص المنح التي تقدم للأطفال، باسم الأمهات لكثرة الأطفال بدون آباء كنوع من حفظ للحقوق..! وقد سألتها يوما هل تتمنى عودة والد ابنها ليعيش معهما، فقالت لي وهي متأثرة بشكل واضح، أتمنى ذلك وأرجوه وأحلم باليوم الذي نعيش فيه كعائلة واحدة ينعم فيها ابني بوالده، ولكن صاحبي رفض كل عروضي له حتى في كوني سأتحمل جميع تكاليف المعيشة، لقد فر فرارا إلى حياته المليئة بالحريات التي يخشى أن يحرمه إياها طفله!

اتفاق غريب

هكذا هي الأسر في أمريكا وإن كانت هناك أسر تعرف التكوين الطبيعي من زوج وزوجة وأبناء فهي بلاشك تعاني مشاكل من جانب ما، فلا زلت أذكر تلك الدكتورة الباحثة التي كنت وإياها نخرج من المطار لنتجه إلى منازلنا بعد حضورنا مؤتمرا علميا ، ثم بينما نحن في طريق العودة، كانت تتصل زوجها تستأذنه في الرجوع للبيت!ّ كان هذا تصرفا مريبا جدا، ولكنني علمت من المقربات منها أنها تعلمه بهذه الطريقة عن قدومها حتى يفرغ بيتها من العشيقات، إذ أنها تعلم يقينا أنه مع إحداهن وفي غرفتها ولكنها لا تريد أن تحرجه فتسبقه بالسؤال كي يتدارك نفسه ولا تراه في منظر انحطاط عند دخولها منزلها، وحين سألتها عن حياتها هل هي سعيدة مع زوجها أخبرتني أنهما عقدا اتفاقا، ينص على الاحترام والحرية، بمعنى أنها زوجته على الورق وأمام العائلتين ولكن في حياتهما فليعيش كل منهما كما شاء دون أن يفضح نفسه! ذلك أن لكل منهما مكانة مرموقة في المجتمع ولا يريدان إفسادها، لقد كان بحق اتفاقا غريبا يبرم بين زوجين. ولكنها حالة من حالات الزواج الفاشل الكثيرة التي صادفتني في طريق اكتشافي لأمريكا.

فوضى العلاقات

يعيش الكثير من الشباب والشابات في علاقات غير رسمية بفوضى عارمة، وقد سألت يوما إحدى الطالبات معي إن كانت تحب رفيقها وتنوي الزواج منه فقالت لي ، لقد أحببته أول سنة ولكن الآن في السنة الثانية بدأت أمل منه وأتذمر من أنفه الكبير، وأفكر في الانفصال لكنني لم أجد بعد فرصة أفضل، ولكنني بلا شك سأنفصل عنه فقد ذقت ذرعا بهذه العلاقة وما جعلني أتريث إلا كونه يتقاسم معي مصاريف الإيجار والطعام والمعيشة!

أما أمريكية أخرى فسألتها عن سر احتفاظها بعلاقة مع صاحب له الكثير من العشيقات فأخبرتني أنه أحسن حالا من غيره، وكونها تعرف حاله خير من أن تعاشره وهي تجهل ما يفعل في حياته الأخرى!

الأصل في العلاقات

نعم هكذا هي العلاقات بين الذكور والإناث تسير بشكل فوضوي ، لا تعتمد المشاعر الإنسانية بقدر ما تتبع الشهوة الحيوانية، لا يحترم فيها الأمريكان الجوار، ولا يبالون بالمارة ولا يهتمون لمن يرمقهم في مكان عام!

حين تمشي في محطات المترو  أو تركب في القطارات أو في الساحات العامة والحدائق الخضراء، لا تتفجأ بمناظر مقززة في أي وقت كان وإن كان في الصباح الباكر، أناس لا يعرفون  أصلا لقواعد السلوك، ولا لآداب المجتمع، ولا لروابط الأسر والأفراد، تنشغل المرأة بفتنة الجسد وحدها، عارية من كل ستار، مجردة من كل حياء وينشغل هو بقوة الجسد وضلاعته بلا أدنى معنى للرجولة!

لقد كان مفاجأ لي حين ركبت في أحد الباصات فوجدته مملوء بفتيات بفساتين السهرة المكشوفة غير الساترة مع شباب ببدلات وربطات عنق  وعطور تفوح في المكان، تعجبت كثيرا أن يركب هؤلاء في باص عمومي لوجهة الحفلة!

ولا أتحدث فقط عن المنظر بل عن التصرفات التي لا تراعي حرمة لمكان عام وهم لا يزالوا في بداية طريقهم للحفلة فكيف سيرجعون بعد خمر ورقص وفجور!

خلاصة المتابعة

وخلاصة متابعتي لإجابات الفتيات اللاتي عرفت في أمريكا، فإن العلاقة تعتمد أساسا على روابط الجسد والحس الهائج.. ولهذا لا تستمر العلاقات طويلا أو سريعا ما تنتهي بخيانة ما، وتسقط الفتاة في الإدمان وشرب المخدرات والخمر أو إن تمكنت من اجتياز المرحلة تكون تحمل في قلبها شرخا كبيرا تحاول مداراته بخيانات أكثر وكذلك الرجل إن تركته صاحبته!

نشر للرذيلة

ولا يتفاجأ الناس بأولئك الذي يقفون في محطات المترو أو عند بوابات الجامعات أو المعاهد لتوزيع كتيبات تثقيف جنسية وقد استغربت كثيرا هذه الظاهرة، وما زاد من غرابتي أنني علمت أنها تصل حتى المدارس الابتدائية، فقد كانت لي صديقة ابنتها في عمر التاسعة ، دخلت على والدها بكتيب يشرح العلاقة الجنسية بحذافيرها وأهدتها المعلمة معه عينات عن الوسائل التي تستعمل في مثل هذه العلاقات! فجن جنون الأخت المسلمة وكان هذا سببا كافيا لأن ترجع لبلادها وهي تسب على أمريكا  وحرياتها المجرمة!

سطحية نكدة

وفي الواقع تفتقد العلاقة بين الفتى والفتاة للجدية التي تنتظر من علاقة بين اثنين، ففي يوم من الأيام كانت معنا طالبة في الجامعة اشترت لتوها أريكة ثمينة لصاحبها ، وحين اختلفت معه طالبته بسرعة أن يعيد لها الهدية الثمينة، وكانت تقول سأضعها في شقتي وأتمتع بها بدلا منه، أو أتشاركها مع صاحبي الجديد! فعجبت لهذه الطريقة في التفكير حينما تنتهي بهذا الشكل علاقة جمعت اثنين لمدة أكثر من سنتين! والأمثلة على سطحية العلاقات تطول ..

الشذوذ

أعتقد أن هذه الظاهر آخذة في البروز شيئا فشيئا في المجتمع الأمريكي، لقد هالني منظر رجلين يمسكان بأيدي بعضهما البعض وقد خرجا من أحد المباني الحكومية يحملان باقة من الورود ويتبادلان التهاني، لقد عقد عقد زواجهما، كان حقيقة منظرا مقززا، كدت أن أتقيأ، شيء مغاير تماما للفطرة، ولكن الأمر أصبح مستفحلا وبدأ الأمريكان يعتادون عليه كأمر طبيعي في حياتهم اليومية، حتى في المدارس والحضانات كانت تشتكي بعض المسلمات من معلمات يحدثنهن عن حرية الشذوذ، وأنهن قادرات على تمييز الطفل الشاذ منذ عمر صغيرة، وكم كان صادما لتلك الأخت المسلمة التي حدثتني قصتها وهي تبكي!! تقول أن المعلمة التي تتولى تربية ابنتها في الحضانة أخبرتها يوما بكل سرور، أنها اكتشفت بأن ابنتها تميل للبنات أكثر من الذكور وطالبتها بأن لا تقف أمام هذا الشعور وتغذيه ولا تحرمها الحرية الجنسية عندما تبلغ!!

جاليات مسلمة في خطر

وكانت نصيحتي للأخوات المسلمات أن يتوقفن تماما عن إرسال أبنائهن وبناتهن لمثل هذه الحضانات والمدارس وأن يكتفين بتعليمهم في البيوت أو مدارس إسلامية مخصصة، كما أنني لاحظت الاستهانة بأكل الحرام عندما يترك أولاد المسلمين يأكلون من نفس طعام الأمريكان في الحضانات والمدارس! ولا يجد لهذا المأزق من تفسير عند الآباء سوى أن للضرورة أحكام، فأي ضرورة تبيح حراما وأنت مخير بأن تأكل ما تشاء إن أردت ذلك!

مستقبل العلاقات

نسبة قليلة تنتهي بالزواج، والغالبية تنتهي بالافتراق هذا حال أغلب العلاقات، ثم بعد عمر تظهر فيه ملامح العجز عند المرأة لا تسأل عن قصص الوحدة والغربة، لقد شاهدت نسبة كبيرة من النساء الكهلات اللاتي يعشن لوحدهن مع ذكريات الشباب، كل واحدة كان لها أكثر من صاحب ولكنها لم تتمكن من إقناعه بالزواج أو إقامة علاقة رسمية والاستمرار، وكثير منهن يلجأن لتربية الحيوانات، وللعمل بكثافة أكثر من الساعات المعتادة، وقد تجدها تقضي وقتها في دور السينما أو في الملاهي أو أي مكان تحاول أن تنسى فيه واقعها البئيس، وقد كنـت أرى في أعينهن إحساس الفشل في الحياة، فالفشل الأسري يعد فشلا حقيقيا عند المرأة حين تنتهي حياتها وليس لديها ولد أو أنيس أو عائلة تدفأ مشاعرها في وقت هي بأمس حاجة لهذا الإحساس.

نماذج تعد ناجحة

في المقابل هناك بعض الأسر استطاعت أن تحفظ بنيانها ، ولكن غلبت على العلاقة الماديات، فرابط المنفعة المادية كان أصلب شيء في إقامة هذه العلاقة، وقد لاحظت أن الانسجام المادي بين الطرفين كان سببا لاستمرار العلاقات من هذا النوع، فحفظ خط معين من الحياة الرفيهة وتناغم المشاركة المادية يجعل بعض العلاقات تستمر بقوة وبانتفاع.

ولاشك أن هناك نماذج لزواج ناجح لكنها قليلة جدا مقارنة مع نسب الفشل والفوضى في طرق تأسيس الأسر والنسيج المجتمعي في أمريكا.

في الأخير تعلمت كثيرا من هذه المشاهدات وحمدت الله أكثر على نعمة الإسلام التي حفظت لنا العلاقات وحفظت لنا مملكة الزواج وجعلت من الحياة نظاما سعادة إن أحسنا الالتزام والإقبال، ولا زال للحديث عن واقع الأمريكان بقية!

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. نمتنى الاستمرار فى مقالات عن الواقع الامريكى ومن جوانب متعددة
    كتاباتك مهمة و مفيدة جدا جدا جدا

  2. مقال رائع شكرا جزيلا لك أخت ليلى وجزاك الله خيرا وجعل عملك هذا خالصا لوجهه الكريم ونفع به وبك

  3. مقال رائع شكرا جزيلا لك أخت ليلى وجزاك الله خيرا وجعل عملك هذا خالصا لوجهه الكريم ونفع به وبك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى