حتى يغيروا ما بأنفسهم، قد وعينا فمتى ننطلق؟!.. لمحات في سبيل التغيير

توالت النوازل والنكبات على أمة الإسلام تباعًا منذ عقود من الزمن، والمسلمون مكبّلون مقرّنون بالأصفاد، يدورون في دائرة تيه وعبث غير قادرين على الخروج منها، رغم كل المحاولات والانتفاضات على قوى الظلم والشر، ورغم إدراك شريحة واسعة لأسباب هذا الضعف والجمود والتراجع الذي تجاوزته الأمة مرارًا من قبل في عصرها الماجد.

في حين يبسط الخبراء والعقلاء في كل يوم نظريات وحلول تبدو صائبة وثاقبة لأزمة الأمة، إلا أن النهضة الحقيقة لم تتحقق بعد ولا زال التجاوب مع جزء محدود من هذه الأمة، إن قارنا حقيقة نسبة هذا الجزء بالعدد الحقيقي للمسلمين على وجه الأرض.

التغيير

التغيير

إن أول العقبات التي يتناولها المصلحون هي عقبة “التغيير”، وهي الخطوة الأولى التي نجحت في تعديها فئة من المسلمين، ولكن عددهم لا يكفي لإحداث التغيير الجذري الذي يرتقي لمرتبة أمة كاملة تعدادها فاق المليار..، فلابد من حد أدنى من نسبة التغيير لنشهد التحول الكبير المنتظر والذي بالنظر للمعوقات والأغلال التي تحبس الأمة المسلمة عن القفز إليه أعتقد أن الأزمة العظيمة يعود أصلها لأزمة فردية بادي البدء.

فالأمة نسيج من المجتمعات المسلمة منتشرة في الأرض، كل مجتمع مؤلف من وحدات تشبه الخلايا في النسيج، كذلك حال الأسر في هذا النسيج المجتمعي، فإن حللنا مكونات الأسرة وجدناها تشمل أفرادًا بعينهم، لكل فرد منهم وظيفته ودوره في هذه الأمة، ولو دققنا النظر في داخل كل أسرة لوجدنا المشكلة لا زالت في داخل هذه الخلية وتحديدًا في هذا الفرد الذي لم ينجح بعد في اجتياز عقبة التغيير وتحقيق التأثير في مجتمعه…، مما يظهر أثره لزامًا في حركة تغيير الأمة قاطبة. فلو تحمل كل فرد مسؤوليته في إحداث التغيير في نفسه وفيما يملك فيه سلطة أو تأثيرًا، وزادت درجة الوعي والإدراك بين الأفراد تباعًا وتصاعدًا، حينها يمكننا الحديث عن تغيير حقيقي يرقى لحجم مصاب هذه الأمة.

إن المتأمل في حالة الفرد المسلم- إلا من رحم ربي-، رجلًا كان أو امرأة ليشعر بالأسى لذلك البعد الحقيقي عن فقه الدين الإسلامي الذي ينتمي إليه، وهو فقه رائع لا يملك إلا أن يخرج فردًا متوازنًا معطاء مسابقًا يُقتدى به في كل المضامير، سواء الأخلاقية، أو العملية، أو الاجتماعية، أو العسكرية، أو السياسية، أو غيرها، لأن الغالب عليه تلك القوة الإيمانية التي تحدد خطواته وتوجّه طموحاته لما فيه خير نفسه وخير أمته. قوة تدفعه للمسابقة بالخيرات والإعداد لنيل الأجر، والثواب، ولمراقبة الجودة، والإتقان.. فكيف لا تخرج أمة هي خير أمة أخرجت للناس.

البداية من النفس

التغيير

نعم ندرك جميعنا أن البداية تبدأ من النفس، منا نحن، ولكن للأسف لا زال التسويف والتواكل والتبرير داء العصر، وكلّ ينتظر من ينطلق أولًا أو من يحقق التغيير مسبقًا.. وهذا ضرب من الخيال، فلا بد من تكاتف ووحدة جهود، بتغيرك أنت وتغير زيد وعمر وسلمى، سنخرج بنسيج في الأمة أكثر قدرة على تقديم القدوة واستجداء النصر والتمكين من ربّ العالمين، فهي طريق امتحان وبلاء وعقاب، لا ينجو فيها إلا من وعى وأدرك رسالة ربّه وأخذ الكتاب بقوة لم تغره حياة دنية ولم تستغفله نفوس مطيّة، واستمر في سبيل سار فيه خير سلف ليكون بحق خير خلف.

إنها قصة كفاح طويل يقضيها المسلم في ترسيخ مفهوم تلك الرسالة النبيلة العظيمة، رسالة الإسلام الذي لم يحملها على مرّ العصور إلا من كانوا أهلًا لحملها، فبلّغوا الأمانة وحفظوا العهد وأبلوا البلاء الحسن في تشييد مجد أمة يغيظ الأعداء ويخلق في أنفسهم ذلك الاحترام المرغم لأمة مسلمة عرفت كيف تترجم المبادئ والقيّم أفعالًا على أرض الواقع كما أدركت كيف توظّف الهمم لتحقيق أعظم حضارة إنسانية في عالم الوجود.

نعم نحلم جميعًا بعصر الأندلس وأيام الخلافة المزدهرة وصدر الإسلام الأول حين عمّ العدل الأرض فتسابقت أجناس البشر لتقديم الولاء ودفع الجزية وهم صاغرون. حين كنا ندرك معادلة الازدهار والنجاح، فعلمنا أن كينونتنا لن تكون إلا بدين ربنا.. أما اليوم فلابد لمن غيّر وبدّل وتخلى عن الإسلام أن يتخلى عنه الإسلام وأن يسلبه المجد والعزة والقوة، هكذا هي المعادلة أخذ وعطاء، لو أعطينا الإسلام حقه لما منعنا حقنا في التباهي بحضارة الإسلام الماجدة.

حتى يغيروا ما بأنفسهم

التغيير

ولنرجع للبداية لأول الطريق حين نرى آية ربنا تبيّن لنا السبيل للخروج من دائرة العبث والتيه بكل وضوح: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).

الآية الكريمة آية عظيمة تدل على أن الله تبارك وتعالى بكمال عدله وكمال حكمته لا يُغير ما بقوم من خير إلى شر، ومن شر إلى خير ومن رخاء إلى شدة، ومن شدة إلى رخاء حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإذا كانوا في صلاح واستقامة وغيروا غير الله عليهم بالعقوبات والنكبات والشدائد والجدب والقحط، والتفرق وغير هذا من أنواع العقوبات جزاء وفاقًا قال سبحانه: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ). وقال:

(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).

فأيها المسلم.. أيتها المسلمة.. ما نسبة التزامك بالإسلام، ما نسبة تطبيقك فروضه واهتمامك بعلومه وتفقهك فيه، إن الحد الأدنى الذي على كل مسلم ومسلمة حفظه، هو إقامة فروض الإسلام ومجاهدة النفس والاستعانة بالعبادات القلبية والسعي للإتقان والإحسان في كل عمل يقوم به وفي كل خطوة يقدم عليها، فالإتقان والإحسان عبادة تقلّصت في هذه الأيام، والغش أصبح فنًا يتسابق فيه المسلمون بكل فخر وتباهي رغم التنبيه النبوي الصريح (من غشنا فليس منا)، فلو أن كل امرئ تحرى أن يجعل من عمله سواء -الدنيوي أو الأخروي- عملًا متقنًا هدفه الإحسان، لما انبهر أحد بحضارة غربية أو تطور غربي أو تفوق، فأساس سباق الغرب لنا إتقانهم وإحسانهم في أعمالهم الدنيوية.

في حين برع المسلمون في التواكل والتسويف والغش والخداع وبحث الحلول الاتكالية والطرقات الملتوية، في سبيل الدّعة والخنوع، تأملوا معي لحظة واحدة لو أن الفرد كان متقنًا لعمله ملتزمًا بفروض دينه ومتأسيًا بأخلاق الصالحين ومكارمهم لابد أن يحبه من حوله ويلتمسوا فيه القدوة فيمكنه حينها التأثير وجذب الأقرب فالأقرب بدعوتهم وشغل فكرهم بما هو الأعظم اليوم، إنه مصاب الأمة، ونوازلها، كيفية نصرة هذه الأمة ونصرة دين الإسلام، ولابد لكل من ذاق لذة حمل هذا الهمّ أن تصغر كل المطالب أمام عينه وتتقزم كل الهموم الأخرى، ويشغل روحه وتفكيره أمة الإسلام والسبيل لحريتها واسترجاع مجدها الذي ضاع بسبب خنوعنا وذلنا وهواننا على الناس.. إنها مجرد قفزة واحدة إن وصلت تلك القناعة للنفس ورسخت أن هذا هو الهدف الذي يجب أن نعمل له ونكرس له حياتنا وفكرنا، لتغيرت حياة المسلم والمسلمة تمامًا، وأصبح يشعر بالهمة تتدفق لعروقه وللقوة تشتعل في حواسه وللعطاء ينطلق من جوارحه، نعم هو كماء الحياة يحيي الروح لتستجيب لنداء ربها وتقوم بواجبها في مرحلة هي الأحلك في تاريخ الأمة..

إن وصلنا لزرع هذه المفاهيم بيننا سيصبح الأب متقنًا في أبوته وفي تربيته لأولاده وفي عمله وفي علاقته مع أهله وجيرانه وكذلك الأم وكذلك الأبناء وكذلك الطبيب والمهندس والتاجر والطالب وكل فئات الأمة، سيسعون لأن يقدموا تلك الصورة النقية المبهرة للمسلم والمسلمة، فلن تجد إلا النظام وإلا الإيثار وإلا الخلق الحسن والجد والعمل لتحقيق التغيير المنشود.

أيها الناس، لماذا ابتلانا الله بهذه النوازل، عقابًا كان أم ابتلاء، لأننا ابتعدنا عن حبل الله وعن هدي نبيّه صلى الله عليه وسلم، والحل واحد لا غير، هو العودة لديننا وأخذ هذا الكتاب بقوة والفرار إلى الله، ومن ابتغى العزة بالإسلام أعزه ومن خدم الإسلام خدمه ومن ضحى للإسلام رفع الله منزلته وذكره.

أيها التواق لمجد أمة عظيمة، لا تستصغر العمل، فحتى لو كان تنظيف شارع أو رمي قمامة فهو في آلة التغيير خطوة مهمة ولبنة أساسية لانتظام الحركة وتحقيق الإتقان والإحسان، لا تعجز عن ترسيخ مفهوم العمل والتعاون لله وفي سبيل الله، به تنتعش الروح وتشعر ببركة العطاء وبركة الصدق وبركة المسابقة..  وإن نجحت في ضبط نفسك على هذه الطريق ستجد لك رفقاء وكلما اتسع النسيج كلما ظهر ذلك جليًا في الأمة، وكلما ساد الخير تغلب على الشر وعلى البؤس والخنوع.

قومة رجل واحد

التغيير

هكذا قام أسلافنا حين اجتمع عليهم الأعداء، تداركوا أنفسهم وتخلصوا من أحقادهم وتطاحنهم ثم قاموا قومة رجل واحد ورصوا الصفوف وأعدوا العدة فهزموا أعتي قوة وأقاموا صرح الإسلام شامخًا لا يخشى فيه المسلم أحدًا إلا الله.

وحتى يستقيم العمل وحتى نُقبِل بلا ملل، لابد من غذاء لتلك الأرواح لابد من وقود وشحذ للهمم، فلا أفضل من صحبه المشاعل والقناديل ومن الإبحار في كل ما فيه فائدة ومنفعة، والعلم هو أفضل بحر نغوص فيه فنخرج باللآلئ والدرر.

كيف تخشع إن لم تذكر الله، وكيف تُلهم نفسك وتُوقد همتك إن لم تذاكر سير العظماء والفاتحين، وكيف تسابق وتتفوق إن لم تطالع تاريخ المسلمين ورقائق الأسلاف الصالحين. فهل يمكن لسيارة أن تصل بدون وقود لوجهتها، كذلك الروح لابد لها من وقود، ووقودها العلم والعبادة، فإن حصلت عليهما أنار الله لها الدرب ومشت بقوة وعزم تتخطى بخطوات ثابتة كل العواقب والصعوبات ويقينا ستصل.

واقعية هذا الدين أنه أمرنا أن نتحرك، ولكن في حدود استطاعتنا، وهذا من رحمة الله بعباده لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ولكن لا يقل أحد (لا أستطيع) قبل أن يجرب قبل أن يفجر تلك الطاقات الكامنة في ذاته، قبل أن يمهد نفسه للعطاء، وينبهر بنفسه من قوة الإيمان كيف صنعت رجالًا قاموا لهذا الدين فأذهلوا العالم، فيقتدي ويطبّق.. إن القلب إن آمن هانت في عينه كل الصعاب وأصبح النجاح والإنجاز هو الفن المتقن لا غير.

لا شك أن المؤامرة كبيرة وكبيرة جدًا على أهل الإسلام، واليوم وقبل أي تأخير ليراجع كل منا مصادر علمه ومصادر معرفته، بل حتى مصادر ترفيهه وتسليته.. حتى القنوات التي يتابع هل هي مأجورة عميلة أم هي محايدة سليمة، فليصنف مصادر المعلومة لديه، وليتحرى النظيفة السليمة الأقرب للحق، وليجعل ذلك سنة في حياته، لا تقع عينه إلا على طيب ولا يبحث إلا في الخيرات يتجنب مواقع الشبهات والشياطين إنسهم وجنهم، وليحفظ نفسه ومن يحب من لوثات الفكر ومن دس السم في العسل ومن حرف لعقيدة سامية بحقن الثقافة الغربية والانهزامية..

على المعلم أن يجعل من فصله قدوة وعلى المدير أن يجعل من مدرسته مثالًا يُحتذى به، وعلى الأم والأب أن يجعلا من أسرتهما لبنة قوية في بنيان الأمة. وكذلك كل مسؤول هو مسؤول عن رعيته، فالعامل في مؤسسته والتاجر في سوقه والساعي في حاجات الناس في مجتمعه.

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقال رائع. يحتاج إلى الكثير من التغيير وبناء فكر قوي يغسل ما زرعه العملاء في عقول شباب وفتيات الأمة. لكي تعود عقولهم صافيه خالية من الشبهات والعولمة والتغريب الذي أصبح ينهش في جسدها حتى أصبحنا كالمعاقين.

    أسأل الله العظيم أن يرفع الغمة عن أمة محمد صل الله عليه وسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى