الولايات المتحدة والنظام الدولي

تهيمن أمريكا على النظام العالمي، منذ عقود طويلة، ولا شك أن هذه الهيمنة كلفت الشعوب المسلمة الثمن الباهظ، سواء من خلال ما تكبدته من حروب وصراع وأزمات أو لما تملكه من أهمية وثروات، تجعل منها دائما في مرمى أهداف الأمريكان.

ثم هذا النظام الظالم، قد قام على أعقاب الحرب العالمية الثانية ليعطي الحق للأقوى في فرض نفسه على الجميع وفرض سياساته –وإن كانت جائرة ومستبدة- بما يوائم مصالحه الخاصة، وبعد أن تمكنت أمريكا من إزاحة القطب الثاني المنافس لها “الاتحاد السوفيتي”، تفردت بقيادة هذا العالم، فزادها ذلك كبرا وغرورا بل وجشعا، خاصة وأن حجم الرَدة العالمية التي ترفض الهيمنة الأمريكية كانت دون المستوى أو ربما لم تتحقق أبدا.

وحين نتأمل عبارة فرانكلين روزفلت عقب ضرب الأسطول الأمريكي في بيرل هاربور في ديسمبر 1941 حيث قال : “في هذه المرة سنكسب الحرب وسنكسب السلام الذي يتلوها”. نجد أن معنى السلام بحسب مفهوم روزفلت يعني أن تقود أمريكا العالم من خلال نظام عالمي جديد، تضمن من خلاله الاستقرار  على يدها، والذي بدوره لا يخرج عن معنى الهيمنة الأمريكية.

وفعلا بعد هذه الحقبة ظهر النظام الدولي الجديد المعتمد على ثلاثة عناصر: القواعد التي تنظم العلاقات الدولية، والدول والمنظمات، والتفاعلات بين أجزاء النظام الدولي، فحين تولى تيودور روزفلت رئاسة أمريكا أشار إلى “الزيادة في درجة الاعتماد المتبادل والتعقيد في العلاقات الدولية والعلاقات الاقتصادية”. بحيث أصبح من الصعب على أية دولة أن تعيش بمعزل عن غيرها من الدول.

روزفلت هو نفسه الذي دعا إلى الإعداد لنظام ما بعد الحرب وكان مشروعه هو إنشاء الأمم المتحدة للقوى الكبرى وظهرحق الفيتو الذي يجعل قرار بعض الدول فوق قرار جميع الدول الأعضاء وإن اتفقوا بالغالبية،فكانت هذه الدول صاحبة الفيتو كالبوليس أو بشكل أدق كالبلطجي الدولي، واستمر هذا حال العالمبعد الحرب الباردة ولكن في رئاسة جورج بوش ظهر نمط جديد من النظام، يطالب بالتدخل الدولي في الأزمات الدولية، كما فعل بوش في حرب الكويت وأفغانستان وكما فعل بيل كلنتون في حرب الصومال، حيث توقفت أمريكا عن التدخل بمفردها في الصراعات وبدل ذلك عمدت إلى تجيش حلفائها لإقحامها في هذه الصراعات،  وبدأت الأمم المتحدة  أيضا تنفذ أجندات أمريكا ، وبدأنا نشاهد ما يسمى قوات حفظ السلام والتوجهات نحو العولمة. وبدأ عصر جديد من التلبيس والتمويه والخداع والتحايل والاستعمار المقنن لم تعرفه الأرض من قبل.

ولا شك أن اعتماد أمريكا  على مؤسسات ومنظمات مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي والتحالف العسكري، سمح بتوحيد مصالح ومصير الدول الغربية وامتصاص خلافاتها، وعلى الأقل كسب أوروبا في صف أمريكا. في حين ساعدت هذه المؤسسات والمنظمات في بسط الهيمنة الأمريكية على بقية الدول بحسب طبقتها. ولهذا نجد بعض البحوث والدراسات تتحدث عن هيمنة غربية ليس أمريكية فقط، لأنهم يرون النفوذ  الأمريكي لم يكن بدون كسب أمريكا للنفوذ الغربي فتشكلت بذلك وبدافع المصالح المشتركة والسياسات المتفقة، كتلة المعسكر الغربي.

الشرعية الدولية

ولعل الطامة الكبرى في هذا النظام، هو تلك “الشرعية الدولية” التي فرضها الأمريكان والأمم المتحدة، وفرضت على العالم الإسلامي فرضا كأنها تشريع إلاهي، وهكذا أصبحت هذه الشرعية الدولية والتي هي تنفيذ لميثاق الأمم المتحدة أعلى مراتب المعاهدات الدولية وأعظم قواعد القانون الدولي ونجد المادة 103 لهذا الميثاق تنص على أنه إذاتعارضتالالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأمم المتحدة، وفقا لأحكام هذا الميثاق، مع أي التزام دولي يرتبطون به فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق، فهي شرعية لا تعترف بتشريع آخر غير هذا التشريع البشري الناقص وإن كانت شريعة الإسلام الإلهية.

الطبقية في النظام الدولي

NEW YORK, NY – AUGUST 30: A United Nations (UN) Security Council meets regarding the on-going civil war in Syria on August 30, 2012 in New York City. UN Security Council negotiations regarding the situation in Syria collapsed last month. (Photo by Andrew Burton/Getty Images)

ولو أردنا وصف النظام الدولي القائم اليوم سنجد أمريكا تتربع على عرش الحاكم أو القائد للنظام الدولي، لديها صلاحيات ونفوذ  في غالب الأوقات والأماكن. وقد تتحرك  دولة قوية أخرى أقل نفوذا من أمريكا توصف بالشريك، لأجل تحقيق مكاسب أو مصالح ما، بشرط عدم الاخلال بتوازن القوى الإقليمي أو الدولي الذي تحكمه أمريكا،  وهذه حال إسرائيل مثلا، أو الصين أو روسيا ولكنها دول مصنفة في طبقة الشريك.

بعض الدول يحق لها أن تطالب بحقوق معينة أو  مكاسب كونها في وضع الحليف، ولكن لا تستطيع أن تتحرك دون إذن مسبق أو تنسيق مع أمريكا ..مثل المجموعة الأوروبية، كألمانيا وفرنسا وانجلترا ومثل كندا والهند وغيرها. وهذه الدول انخرطت طوعا أو كرها في الحرب على التنظيمات الجهادية تحت قيادة أمريكا. فضلا عن تسخير قوتها وسياساتها في مواجهة المخاوف من تنامي قوة ونفوذ روسيا، دائما تحت قيادة أمريكا المتحكمة في حلف الناتو وغيره من قوى تحالفية.

وفي ظل هذه السلطة الغالبة هناك دول تصنف في طبقة الأتباع لا تتمتع بأي حرية ولا تستطيع تحصيل أي مكاسب أو مصالح، إلا في حدود ما تسمح به أمريكا لها، وكل شئونها تخضع مباشرة للحكم الأمريكي. وهذا حال جميع الدول العربية وأغلب الدول الإفريقية وكذا دول أمريكا الجنوبية.وحتى إن وجد تأثير لدول أخرى على هذه الدول إلا أنه تأثير لا يصل لمستوى التأثير الأمريكي المهيمن.

لا يعني هذا أن النظام الدولي الحالي يخضع جميع الدول بحسب الطبقية التي فرضها الأمريكان ، فهناك دول تمثل نموذج الدول المتمردة، وهي أفغانستان وكوريا الشمالية. ولهذا تعرف الأولى حربا مستمرة في سبيل إخضاعها في حين تتلقى الثانية العروض السياسية المغرية تارة والتهديدات المبطنة تارة أخرى، لضمها من جديد للنظام الدولي الحالي.

هذا دون أن ننسى تلك الدول التي تتميز  بقدرٍ كبيرٍ من الاستقلالية مثل إيران أو كوبا، وربما يتعلق هذا  الاستقلال أكثر بطبيعة نظام الحكم والطبقة الحاكمة في مثل هذه الدول، ولا يعني أن تكون الدول في طبقة واحدة أنها في نفس قوة التأثير بل التباين في القوى يكون في داخل الطبقة الواحدة كما قد تكون بعض الدول في مرحلة وسيطة بين الحليف والشريك أوبين التابع والحليف.

كيف تمكنت أمريكا من الهيمنة على العالم

لقد بسطت أمريكا هيمنتها على العالم بفضل أذرعها المتخصصة، سواء في الميدان العسكري، أو الاقتصادي أو الأمني أو الفكري أو الإعلامي.

وقد دفع سجل الحروب الثقيل للأمريكان والذي خرج بذات النتائج التي خرج بها المستعمر الأوروبي المنهزم،  دفع أمريكا إلى تغيير استراتيجيتها في الهيمنة العسكرية، وبدل أن تقحم نفسها في خوض حروب بذاتها، والتورط في احتلال مباشر، عمدت إلا حل الاحتلال غير المباشر، والذي يوفر عليها الكثير من الخسائر البشرية والمادية وهذا يعني توظيف القوى المحلية والمرتزقة المأجورين وتوريط المجتمع الدولي في أي صراع تخوضه تحت شعار (إما معنا أو ضدنا).

ثم حتى تضمن أمريكا هذه الهيمنة العسكرية، عمدت للتحكم في سوق السلاح والجهات التي يحق لها امتلاكه والتعامل به، فالسلاح لا يقع إلا في يد مرتزقتها، والجيوش التي تعمل تحت إمرتها، أما دون ذلك من الشعوب، فهذه تحرم من فرص التسلح وإن كانت مظلومة أو صاحبة حق في امتلاكه،وإن حصل وامتلكته من مصادر أخرى، حوربت واتهمت “بالإرهاب”! وفي المقابل تسلح أمريكا حكومات أو أنظمة هذه الشعوب التسليح المدروس، ورغم ذلك فهي لا تقدم على مثل هذه الخطوة الخطيرة إلا بعد أن تكون قد ملكت زمام القيادة لهذه الأنظمة ، وطوعتها بالبعثات العسكرية والتدريبات المشتركة والدعم العسكري بما يتوافق مع دور هذه الدولة لأجل مصلحة حفظ توازن القوى.

وهذه الجيوش التي نراها تقمع الثورات وتحفظ مصالح اليهود والأمريكان والدول الغربية، وتحرص على استمرار نهبهم لثروات البلاد المسلمة، وتحمي ممراتهم المائية وطرق تجارتهم، قد تصل إلى درجة القتال بالنيابة عن الأمريكان، هي جيوش تحمل ولاءها الأول للأمريكان، وحتى تضمن أمريكا استمرار هذا الولاء ، فهي تحرص على نشر شبكتها الاستخباراتية المراقبة لكل تحركات هؤلاء العملاء، ثم توزيع قواعدها العسكرية برا وبحرا وجوا، في كل الأماكن الحساسة والمهمة في العالم. وهكذا تؤمن أمريكا عملياتها السريعة والطارئة التي تعجز القوات الموالية لها في تحقيقها ونجدها تتدخل في اللحظة الحاسمة حين يعجز وكلاءها وعملاءها في أداء وظيفتهم.

ولأن أمريكا تقدر الأحجام المتباينة لمنافسيها، فقد عمدت إلى نشر السلاح النووي الأمريكي في مناطق أوروبا وآسيا، كتهديد واضح لكل دولة وخاصة تلك التي تنافسها في اقتناء الترسانة النووية، مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية، فيتنبه الجميع أن هناك مارد في المنطقة يهيمن على الأرض.

ثم إن القوة العسكرية لن تكون فعالة بدون إتقان فن التحالفات العسكرية الإقليمية، ولهذا نجد أمريكا قد تحالفت مع الدول الغربية في حلف الناتو، وتحرص على التحالفات الاستراتيجية، بما يضمن ربط هذه القوى بمواثيق سلام دائم تضمن عدم تمردها أو محاولة منافستها لأمريكا عسكريا، بل وتوريطها لصالح قوة أمريكا ومجدها، ثم أيضا لتتمكن من إحكام سيطرتها على بقية الأطراف الأقل قوة ويدفع بهذا الجميع فواتير الهيمنة الغربية طوعا أو كرها.

وحين نتأمل ميزانية الدفاع في أمريكا والتي تصل إلى 616 مليار دولار ، سنعلم كم من الاهتمام توليه هذه الدولة المهيمنة للميدان العسكري. ثم ذلك اللغط الذي تثيره كواليس الإدارة الأمريكية في كل مرة تخصص فيه ميزانية الدفاع يؤكد أن هناك أطرافا في الحكومة الأمريكية تسعى لتغليب مصلحة الميدان العسكري قبل أي ميدان آخر وإن كان اقتصاد البلاد هشا.

ولا تكفي الأموال لدعم  قوى الدفاع الأمريكية بل تحتاج لضخ الأرواح التي تسهر على تحقيق الحلم الأمريكي “أمريكا أولا” تغذيها قومية عصبية بغض النظر عن الجذور الأصلية للمجندين،فالمهم أولا وأخيرا هو الولاء لأمريكا. ولا عجب أن يصل عدد القوات العاملة في الجيش الأمريكي إلى 1400000 فرد في حين وصل عدد قوات الاحتياط حوالي 850000 فرد. هذا دون إحصاء لقوى القيادة الاستراتيجية وقيادة القوات الخاصة.فالأولى تتولى مسئولية السلاح النووي  والانذار المبكر  والدفاع ضد الصواريخ  و مسئولية الأقمار الصناعية والشئون السيبرانية (الالكترونية)  وعمليات الاستخبارات العسكرية  والاستطلاع  وعمليات القذف الاستراتيجي بعيد المدى .  أما الثانية، فتقوم بقيادة القوات الخاصة لجميع الأفرع والتي منها القوات الخاصة التابعة للجيش والبحرية والقوات الجوية ومشاة البحرية  ويبلغ مجموع تعدادها كلها حوالي 63 ألف فرد.

ويسند هذا التنظيم وهذا التفوق العسكري، تفوق الأسلحة الأمريكية المتقدمة والمتطورة على طول محور التطور العالمي التكنولوجي المتفوق. فالدولة المهيمنة التي تمنع امتلاك أي دولة أخرى قوة نووية وتتصارع مع كوريا الشمالية بسبب عصيانهالهذه الأوامر، تمتلك لوحدها حوالي 6800 قنبلة ورأس نووي  والتي تستطيع إطلاقها عبر الغواصات النووية والقاذفات بعيدة المدى والصواريخ الباليستية المتقدمة التي يزيد مداها عن 13 ألف كم و ارتفاع طيرانها عن 1100 كم ودقتها تصل إلى 200م.

هذا فضلا عن ترسانتها من  حاملات الطائرات المسيرة بالطاقة النووية والتي يصل عددها إلى 11 حاملة طائرات نووية في الخدمة  يحمي هذا كله،  أقوى وأحدث أسطول جوي في العالم  بحوالي أكثر من 13 ألف طائرة متعددة  منها حوالي 5000 طائرة مقاتلة ومتعددة المهام. فضلا عن أكبر وأحدث أسطول حربي في العالم  يشمل غواصات مسيرة بالطاقة النووية  و طرادات ومدمرات وفرقاطات وغيرها من أشكال السفن الحربية.

قوة هائلة لكنها عاجزة أمام حرب الإرهاب

بمثل هذه القوة الضخمة، تنشغل أمريكا بحرب شاملة على ما يسمى الإرهابفي 76 دولة أو ما نسبته 39% من دول العالم، ولكنها تبدو الحرب الأطول في حياتها والأكثر استنزافا والتي لم تظهر بعد بوادر جلية لنهاية حاسمة لها.

ولا يخلو تصريح أو خطاب دولي من ذكر “حرب الإرهاب” بل إن الاجتماعات والمؤتمرات والتحالفات باتت كلها تعقد وتفعّل في سبيل الحرب على “الإرهاب” كل هذا بأوامر أمريكية، واختلف المراقبون في تفسير هذه الحرب العالمية الجديدة، بين متهم الأمريكان بخلق الإرهاب لتحقيق مصالحهم في الشرق الأوسط والعالم عموما، وبين متهم الأمريكان بالعجز في مكافحة الإرهاب ومحاولة إقحام المجتمع الدولي في حربه التي أطلقها بحماقة منذ أول إعلان للحرب على أفغانستان والعراق.

ولعل هذه الحقائق حول القوة العسكرية الأمريكية تساعد في قياس نفوذ الدولة المهيمنة المحاربة أمريكا مع أن الأحداث العملية فقط وليست التصريحات الإعلامية أو الدعايات السياسية والادعاءات الشخصية. هي التي تقيس جدوى هذا النفوذ في بعض أنواع الصراع. وهذا ما أثبته صراع أمريكا مع أفغانستان أين لم تحسم القوة العسكرية الحرب الدائرة هناك رغم كل الضخ والاستنزاف الذي تكبدته القوات الأمريكية وقوات حلف النيتو..

وحين نبحث في تعريف الإرهاب، لا نجد تعريفا دقيقا لهذه الحرب، ولكن ما نستخلصه من التصريحات اليومية للساسة الأمريكان فإنها حرب بين أمريكا ومن حالفها وبين المنظمات الإسلامية التي صنفت بإرهابية، وتمتد جذور هذا الصراع بين أمريكا وهذه المنظماتولم نقلدول، لتاريخ أول ظهور للهيمنة الأمريكية في العالم الإسلامي، ولم تكن ولادة هذه المنظمات إلا نتاجا منطقيا لتمادي الأمريكان في هيمنتها على العالم الإسلامي،  وتفانيها في قلب ميزان القوى بشكل واضح لصالح إسرائيل. فنجحت في تطويع الأنظمة العربية ووأد أي فرصة لمقاومة نظامية،  فولد هذا القمع  والترويض، حركات وأنماط مقاومة لا نظامية،   تفسر ولو جزئيا  بروز الظاهرة الجهادية في العالم الإسلامي.

وهذا أيضا ما يفسر استمرار رحى الصراع بين القطبين، الأمريكي من جهة والمنظمات الجهادية من جهة أخرى، كون أمريكا لا زالت تغذي أسباب هذا الصراع باستمرارها في الهيمنة على العالم الإسلامي ودعم إسرائيل بلا حدود بل واستثارة الشعوب المسلمة بإهانتها وإهانة مقدساتها، كما فعلت مؤخرا في تقديم موعد تحويل سفارتها من تل أبيب إلى القدس إمعانا في إذلال الشعوب المسلمة بعد إعلانها القدس الشريف عاصمة لدولة بني صهيون، وربما لأن جس النبض أكد أن هذه الشعوب باتت محبطة بشكل يسمح للاحتلال الإسرائيلي بالتمادي أكثر وكسب نقاط أفضل.

هيمنة أخطبوطية لكن تفاوت في القدرات

نعم فهيمنة الأمريكان لا تعتمد القوة العسكرية فحسب بل توازيها أذرعها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإعلامية والثقافية وغيرها من الأذرع التي تعمل كلها في سبيل إدامة عمر هذه الهيمنة وتقوية نفوذ هذه الدولة.

لقد نجحت أمريكا في التربع على عرش النفوذ العالميعمرا مديدا،ولكن مؤخرًا بات الاقتصاد الأمريكي يعاني مع ازدياد المخاوف من أزمات كبرى تعصف به، وبدأت رؤوس أخرى تطل منافسة لها بقوة كالصين،ولعل هذا ما جعل المراقبين يتنبأون بقرب زوال مرحلة الهيمنة القطبية الوحيدة لأمريكا، ذلك أن الدول الكبرى التي تقف في رأس الهرم،  ( أمريكا  والاتحاد الأوروبي واليابان والصين وروسيا ) لا تتميز الواحدة فيهم بتفوق في جميع الميادين. فحتى أمريكا التي تفوقتفي الغالب، لا يخفىضعفها في الميدان الاقتصادي الذي أضحى مشكلة كبيرة تهدد تقدمها وبدت بوادر هذا الضعف تتجلى على قوتها العسكرية وسياساتها في الهيمنة، في حين أن الاتحاد الأوروبي الذي تفوق اقتصاديا يعاني من ضعف في الميدان العسكري، وحتى السياسي، كما تجلى ذلك في عجزه عن حسم  أزمات البلقان المختلفة حتى تدخلت أمريكا . وما ينطبق على الاتحاد الأوروبي ينطبق على الصين التي تتفوق اقتصاديا لكنها قوتها العسكرية لا تنافس بقوة أمريكا، وكذلك روسيا كقوة عسكرية وضعف اقتصادي.

هذا التشخيص الحقيقي لحالة معسكر الغرب وإن بدى متماسكا،يؤكد أنه معسكر قد أصابته هشاشة وبدأ يعاني من تراجع مستمر لقوته في ميدان ما أو أكثر، ما ينبأ بتزايد فرص التغير في موازين القوى العالمية، ويوحي بإمكانية رسم نظام عالمي جديد ينهي الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي في نهاية المطاف بصعود قوى وسقوط أخرى.

وفي حين تؤكد الدراسات التي تناولت هذه التغيرات في هيكل النظام الدولي، أن حالة فقدان القوة والميل نحو الضعف باتت مرشحة للزيادة في الأعوام القادمة، وستكون عواقبهاانحسار النفوذ الأمريكي في بعض المناطق وملء هذا الفراغ بواسطة قوى أخرى دولية كانت أو جهادية. تقترح دراسات أخرى أن التعددية القطبية ستكون تركيبة النظام العالمي الجديد.

ولأن التغيرات الجذرية للنظام الدولي لا تأتي إلا بعد حروب عظمى دولية، كما تسببت الحرب العالمية الأولى في زوال أربع إمبراطوريات كبيرة، أبرزها الإمبراطورية العثمانية والنمساوية المجرية والإمبراطورية الروسية،   فإن نشوب حرب عالمية في الوقت الراهن أمر مستبعد ما لم تتوفر العوامل والأحداث الكبرى وعلى  نطاق دولي شاملكالتي سبقت  الحربين العالميتين أو مهدت لانهيار الاتحاد السوفيتي. لكن المؤكد أن بوادر ظهور انحسار النفوذ الأمريكي بدأت تتجلى بشكل صارخ في الشام على سبيل المثال، وذلك بالسماح للنفوذ الروسي بالهيمنة، وإن كان هناك تواجد مستمر للأمريكان في الساحة السورية وأن سيطرتهم وصلت ل 30% من أراضي سوريا إلا أن القيصر الروسي لا يبدي أي تنازل اتجاه المصالح الأمريكية بل سجلت مؤخرا مناوشات وتراشقات تنبأ باحتمالية تصاعد الخلاف بين الدولتين الكبريتين في نظام عالمي أثبت فشله في إقرار الأمن والسلام في العالم.

النظام العالمي في عصر ترامب

منذ تولى دونالد ترامب، الملياردير الأمريكي منصب رئيس لأمريكا، والانتقادات تتوالى على السياسة الأمريكية في العالم وخاصة من قبل الحلفاء الأوربيين. فصلافة الرجل أحرجت الخارجية الأمريكية مرارا، ووقاحته باتت تنذر بخطر خسران التحالفات الاستراتيجية كتحالف الناتو العسكري. ولعل هذا ما يفسر تصريح عضو مجلس الشيوخ الجمهوري السابق عن نبراسكا ومقاتل سابق من حرب فيتنام ، شغل منصب وزير الدفاع في ظل الرئيس السابق باراك أوباما، تشاكهاغل، الذي قال في مقابلة مع صحيفة “Lincoln Journal Star”، إن الولايات المتحدة والعالم دخلا “سنة حاسمة، وسنة من التقلب وعدم اليقين والخطر الكبير”. وقد اتهم هاغل ترامب بأنه ” يقسّم عمداً البلاد والعالم” من خلال الانسحاب من التحالفات والصفقات التجارية مثل الشراكة عبر المحيط الهادي. كما انتقد هاغل هجوم ترامب على الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية وهي سابقة لم يسبقه بها أحد من قبل تهدد أمن وانسجام الأجهزة الامريكية التي تعمل في سبيل مجد أمريكا.

ولعل أوضح تصريح لهاغل حول بوادر تغير مرتقب في زعامة النظام الدولي بسبب سياسات ترامب غير المدروسة،تصريحه الذي قال فيه إن: “السياسة الخارجية الأمريكية في الوقت الحالي هي سياسة انقسامات.. هناك نظام عالمي جديد يجري بناؤه وتشكيله في الوقت الراهن”.

الخلاصة

تعد هذه المرحلة من أهم المراحل التي يجب على العالم الإسلامي وقواه المختلفة أن تستغله لصالح مستقبل أفضل وأكثر ازدهارا وأمنا، ذلك برفع مستوى الوعي لدى الأمة المسلمة بواجب العمل والاجتهاد في كافة المجالات للتمكن من سد الفراغ الذي سيجلبه انحسار النفوذ الأمريكي المرتقب، ثم لأن التنافس الدولي لن يقصي القوى الإسلامية من محاولة الصعود من جديد بسبب توفر جميع المقومات لهذا الصعود، سواء الحاجة الملحة للخروج من بوتقة الضعف والمهانة والذل التي سئمتها الشعوب المسلمة أو بسبب ضعف أغلال الأنظمة الطاغية التي ستضعف بضعف الرأس المهيمن، ثم بسبب مشروع الصحوة الإسلامية ومشاريع النهضة التي وإن كانت لا  زالت تعاني الضعف والتضييق ولم تصل بعد للحجم المطلوب إلا أن المستقبل يبشر بكل خير.

وكما فصل ذلك ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، فإن أي دولة لها بداية وقمة ونهاية، وجميع السنن تدفع بسقوط الدولة المحاربة الظالمة أمريكا، لهذا فلا يحسبن أحد أنها مجرد تحليلات أو تخمينات غثائية، بل هي تستند على العقل وعلى الوحي معا.

فيا له من صباح ماجد ذلك الذي ستشرق فيه الشمس على أرض زال فيها طغيان الأمريكان ومعسكر الغرب وأنارت معه أنوار الخلافة الإسلامية الموعودة، وإن كان يبدو حلما بعيد المنال عند بعضهم إلا أنه نبوءة خير الأنام في نظر المؤمنين والموقنين! ستتحقق يوما وإن طال الزمان، ومن أصدق وعدا من  الله سبحانه.

المصادر

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى