نحو فهمٍ أفضل للهيمنة الأمريكية

هل تأملت في هذا الواقع من قبل؟

هل سألت نفسك بوضوح ما الذي يحدث في هذا العالم ومن الذي وضع قواعد اللعبة فيه وعلى أي أساس وضعها؟ هل راودك شك ولو لمرة واحدة في أننا نعيش في أكذوبة كبرى وأن هناك من يريد لنا أن نصدقها؟ هل تمنيت في يوم أن يتغير هذا العالم لعالم آخر يستحق أن نعيش فيه؟ إذا كنت ممن يشعرون بأن هناك شيئا ليس صحيحا في هذا الواقع الذي نعيشه فإن هذا المقال سيضع لك نقاطا كثيرة على الحروف، أما إذا كنت لا تشعر بهذا الخلل الموجود في واقعنا المنحط فبإمكانك أن تعطي لنفسك الفرصة لإعادة التفكير بقراءتك أيضا لهذا المقال!

دعني أحكي لك القصة من بدايتها: بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة في غضون عام 1954 بدأت الدول المنتصرة في الحرب وعلى رأسها أمريكا في تقسيم ترِكة العالم الجديد فيما بينها، وبدؤوا في رسم خريطة مختلفة لنظام عالمي يحقق أطماعهم في السيطرة والتوسع، ويلبي رغباتهم التي ولدتها نشوة الانتصار الثمين في تلك الحرب العالمية المدمرة، وبالفعل وضعت هذه الدول نظاما عالميا متوازن القوّة تقريبا بين شرقه المتمثل في الاتحاد السوفييتي والصين وغربه المتمثل بالأساس في أمريكا وفرنسا وبريطانيا، إلا أن صراع المصالح بين القطبين لم يتوقف داخل هذا النظام العالمي.

وبلغ التنافس الأمريكي السوفيتي مراحله القصوى حتى انتهى بسقوط سور برلين عام 1989 والذي أعقبه انهيار الاتحاد السوفيتي. وهنا بدأ العالم حقبة مختلفة وأصبح عندنا نظام عالمي جديد، حيث انفردت أمريكا بقيادة العالم انفرادا شبه كامل ليكون أول رد فعل لها هو أن ترسي قواعدها العسكرية العملاقة في قلب منطقتنا في أحداث ما يُعرف بـ”حرب الخليج الثانية” مستغلة اجتياح العراق للكويت عام 1990 ، في رسالة إلى العالم كله أنه من اليوم قد صارت منطقة ما يسمى “الشرق الأوسط” بثرواتها وخيراتها تحت الطوع الكامل للسيد الأمريكي، إنها علامة كبرى على سيطرته العالمية، فهي منطقة محورية وكنز استراتيجي منقطع النظير، منطقة ظلت تثير لعاب الجميع منذ زمن بعيد، إلا أن الأمريكان لم يجدوا الفرصة السانحة للانقضاض العسكري عليها إلا بعدما سقط عدوهم الأكبر في النظام العالمي السابق الاتحاد السوفيتي ثم هيؤوا لأنفسهم ذريعة يتدخلون بها باتفاق مع الحكام العملاء وبدون أي رد فعل مؤثّر من الشعوب النائمة!

وهكذا أصبح النظام العالمي الجديد بقيادة أمريكا لا ينظر إلى بلادنا إلا باعتبارها منهبا للثروات وسوقا لتصريف المنتجات وأداة من أدوات سيطرته على العالم، وأصبح يحارب ويمنع كل ما يمكن أن يساعد في تحرير إرادة الشعوب في المنطقة، فلا اكتفاء ذاتي من القمح في بلادنا، ولا تصنيع حقيقي للدواء والسلاح، ولا امتلاك لترسانة ردع كالسلاح النووي، كل ذلك أنت ممنوع منه تحت ذرائع مختلفة، وما ذاك إلا لتظل أسيرا لمنظومتهم الفاسدة، وتابعا مطيعا لسياساتهم وتوجهاتهم المريضة، وترسا منعدم الإرادة في ماكينة حكمهم للعالم.

إنهم يكفيهم في وضع بلادنا الحالي إن أرداوا إبادتنا أن يفرضوا علينا حصارا اقتصاديا وحينها سيجد الشعب نفسه أمام مصير محتوم .. الموت! .. فإما الموت من نقص الدواء أو الموت من نقص الغذاء، فدواؤك وطعامك يأتيان إليك من الخارج! .. وهل ما حدث للعراق بعد حصارها عام 2002 قد غاب عنا! لقد مات من الأطفال فقط مليون ونصف طفل بسبب نقص الدواء والغذاء! إن الحقيقة المرة التي يجب ألا تخفى على الناس اليوم هي أن بلادنا مازالت محتلة، وأن إرادتها مسلوبة، وأن ثرواتها منهوبة، وأننا عبارة عن مجتمعات تسير في فلك العدو، وأن الاستقلال الذي تم خداع الشعوب به بعد جلاء الاحتلال العسكري القديم هو استقلال صوري ووهمي، نحن محتلون من كل الجهات، احتلالا ثقافيا وفكريا وسياسيا واقتصاديا بل وعسكريا أيضا، إنه الاحتلال الذي مازال يحكم على شعوبنا بأن تكون أفقر الشعوب بينما هي تعيش على أغنى أرض! إننا صرنا نعيش على أنقاض دول يمتص الغرب ما تبقى من خيراتها يوما بعد يوم، ولا يوجد من يوقف هذه المهزلة، بل لا يوجد من يفكر أصلا في كونها مهزلة، إلا من رحم الله.

إنها نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها) فالأكلة هي جمع آكل، إنه يُشبّه حالنا بحال قصعة الطعام المستباحة عندما يجتمع عليها الآكلون الجوعى، وياليتهم يأكلون فقط، بل إنهم يدعون بعضهم بعضا إليها وهذا معنى كلمة (تداعى)، فهم يتناولون من القصعة بلا مانع ولا منازع، يأكلونها عفوا وصفوا، إنهم ظلوا لسنوات متعاقبة يأخذون ما في أيدي شعوبنا ويلتهمون أقواتنا بلا تعب ينالهم أو ضرر يلحقهم أو بأس يمنعهم، حتى اعتقدوا أنها أمة من الأموات ! كيف اقتنعت شعوبنا بأن وضعها اليوم هو الوضع الطبيعي! كيف يكون منطقيا جوع الناس رغم ثراء بلادهم!

إن بلادنا لا يخفى على أحد كونها المصدر الأكبر للثروات في العالم، إنها الخزان الأول للنفط الموجود في الكرة الأرضية كلها، ومصدر ضخم للمعادن بصورها المختلفة، هذا غير ما فيها من ثروات مائية وحيوانية وزراعية، ناهيك عن موقعها الاستراتيجي الرابط للعالم كله فهي تمتلك أهم أربعة مضائق ومعابر مائية عالمية ( مضيق هرمز، وباب المندب، وقناة السويس، ومضيق جبل طارق ) كل ذلك يجعل لها وضعا استراتيجيا واقتصاديا مميزا ومع ذلك فهي في ذيل الأمم! .. إن ميزة واحدة من المميزات المذكورة كانت كفيلة بأن تجعلنا في مقدمة الأمم ولكن هناك من يمنع!

إن سرقة الثروات في بلادنا تتم بصورة ممنهجة ثابتة، لا تكاد تختلف من دولة إلى دولة، فهي تبدأ بعقود الامتياز والاحتكار للشركات “الاستعمارية” الأجنبية الكبرى بمشاركة حكومات بلادنا فاقدة الشرعية، وتنص هذه العقود على حصول الشركة الأجنبية على نسبة تفوق في الغالب ال 11 % من الثروة التي يتم إخراجها من باطن الأرض، ثم الشركة نفسها هي التي تحدد حجم هذه الثروة التي استخرجتها في أول خطوة للنهب، ثم يا ليت النصف الثاني من الثروة المنهوبة يعود إلى الشعوب، بل هو غالبا ما يباع في الأسواق العالمية بالسعر الذي تحدده الدول الكبرى، لتنتهي في النهاية أثمان تلك الثروات في بنوك الغرب أيضا كأرصدة لبلادنا بعدما ينهب منها بالطبع حكامنا ما ينهبون، فيستفيد الغرب مرة أخرى في النهاية من استقرار هذه الأموال عنده، وبهذا لا يعود على الشعب من ثرواته شيء يُذكر، وإذا كان الجميع يعلم حدوث ذلك مع النفط في دول الخليج فإن الشعب المصري لا يعرف أن ثرواته تتعرض لنفس عملية النهب بينما هو لا يجد لقمة عيشه!

ولا أدل على ذلك من منجم السكري وهو منجم واحد من مناجم أخرى غير معلومة للشعب، يدار هذا المنجم بنفس الطريقة التي شرحناها فقد أخذت شركة سينتامين (وهي شركة أجنبية مقرها أستراليا) حق الامتياز لاستخراج الذهب في مصر منذ عام 1994 بشراكة مع شركة تتبع المخابرات المصرية، هذا غير فضيحة الغاز الطبيعي المصدر لإسرائيل شبه مجانا وغيره، ليبقى السؤال أين ثرواتنا؟! ومن المضحك في مصر الحديث الحكومي الثابت عن ” الدعم ” وكأنها تمنّ على الشعب، وقد اتجهت مؤخرا نحو إلغائه تدريجيا، بينما هذا الدعم هو شيء لا يذكر من ممتلكات هذا الشعب وثرواته الممتصة عبر النظامين: الداخلي والخارجي!

لا يدري الشعب المسكين أن ثرواته المنهوبة برعاية خارجية وداخلية، كفيلة ليست بدعم سلعه فقط بل وبدعمه هو مباشرة بالمال الفائض؛ هذه هي السرقة التي تتم عبر النظام العالمي والجهات السيادية ومن ارتبط بهما من رجال الأعمال في بلادنا ! إن التغيير ليس بالسطحية التي تطرحه بها الأحزاب والحركات السياسية في بلادنا، إنما هو معركة تحرر على كل المستويات بداية من الفكر وحتى السلطة، تحرر من احتلال حقيقي نعيش بين جدرانه! ليس تغيير الوجوه ولا الأسماء، بل هو التغيير الممنوع! التغيير الذي يكون أثره الاكتفاء الذاتي من القمح وسائر السلع الاستراتيجية، التغيير الذي يجعلنا قادرين على امتلاك سلاح نووي كما امتلكه عدونا، التغيير الذي يجعل سائر أسلحتنا من صنعنا واختيارنا وليس سلاحا يُفرض علينا فرضا عبر ما تسمى المعونة الأمريكية، التغيير الذي يجعل الثروات ملكا للشعوب تعود عليهم وحدهم بالنفع ويشعرون فعلا بوجودها وخيرها، تغيير يجعل سلوك مجمتعاتنا وحكامنا نابعا من ديننا وليس سلوكا يحقق للخارج ما يريد، إنه باختصار التغيير الذي يحاولون إقناع الشعوب كذبا بأنه مستحيل، التغيير الذي يسقط هيمنة الخارج على بلادنا وشعوبنا، وكل تغيير لن يضع في حساباته إسقاط الهيمنة الخارجية علينا هو تغيير صوري وكلام منمق لخداع الناس، وما أكثر المخادعين في هذا الزمان!

إن التحرر من الهيمنة الخارجية ليس مستحيلا ولكنها معركة كبرى، إذا حيّدت الشعوب نفسها عنها فليس لها أن تشتكي بعد ذلك من تردي الأحوال على كل المستويات، الدينية والدنيوية، إذا لم تدرك الشعوب حقيقة “معركة التحرر” ولم تعزم على خوضها بكل تكاليفها فسيظل التغيير وهمًا..

اضغط هنا لتحميل كتاب معركة الأحرار كاملًا PDF – الطبعة الثانية

أحمد سمير

ناشط ومهتم بالشأن الإسلامي والعالمي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى