الثورة التونسية… جولة في مسار المعركة وتحدياتها

بينما كان جسد المريض مُستلْقٍ في هدوء بارد، هدوء لا ينم عن أثر حياة ولا حركة، وقد استيأس الأطباء  أو كادوا من   قيامه مرة أخرى، وفي لحظة خاطفة، سُمعت نبضة مدوية مفعمة بالحياة، اهتزت معها بقية أطراف الجسد المتداعي بالسهر والحمى،  وضخت في العروق المتباعدة  والشرايين تيار من الحركة الساخنة،  وكسرت حواجز الوهم، فإذا بالجسد الذي أنهكته الأوبئة والأمراض يعلن ثورته على سنين الركود، ويتدفق خلاله  إشراق الحياة على العتمة  التي أنهكتها غطرسة العقاقير المميتة والأدوية الفاسد، وفي ذهول من تجار الموت استنهض الجسد قواه الذاتية معلنًا عودته من أعماق بعيدة، ظن الكائدون أنه حتما منها لن يعود.

من عاش الثورة التونسية وأيامها لن ينسى ذلك المد الذي غمر الشوارع  والميادين من الجماهير التي انهمرت أفواجًا متلاحمة تُسمِع الطغاة ما لم يعتادوا سماعه من هتافات الغضب والتحدي، أولئك الذين تعودوا على استعباد أجساد الشعوب، وحاربوا معاني الحرية والكرامة والشهامة والمقاومة، حتى أصبح الطغيان هو الوصفة التي يحقنوها لكل نفس كريمة، والاستخفاف بالعقول هو العقار الذي اعتادوا تعميم استهلاكه، إلى أن حوّلوا  الحياة إلى ركام من الذل والهوان والتكبر والتجبر، تلك الأيام التي اهتز فيها عرش الفرعون  وجنوده،  واهتزت معهم أصنام الطغيان، قبس النور الذي بعثه الله من تونس ليخبر عن أمة عائدة، أمة تتعافى من أسقامها وتتخلص رويدًا مما ران على تاريخها من قيود، قيود ستُكسر ولو بعد حين…

إرهاصات الثورة

كانت الهوية عاملًا مشتركا في الإرهاصات المباشرة للثورة، الشعب الذي شاهد الاستهزاء بالدين علنا عبر تقدم نائبة في البرلمان لتطالب بخفض صوت الأذان، ثم شاهد مغني تونسي يهتف باسم الصهاينة في إسرائيل، وشاهد النخبة التي أصبحت تستهزئ بالحجاب عبر الأفلام والبرامج، ناهيك عن نهب العائلة الحاكمة وتصرفهم في الثروات كأنها حق مشروع يصرف على المجون والبذخ، شعب كانت تراكمات عهد المقبور بورقيبة والمخلوع بن علي في حربهم على المقدسات وولائهم للغرب قد ألهبت حركته.

تونس الأرض التي أنس بها عقبة وزانتها القيروان، وأنارت الزيتونة منها علوم التوحيد وأشرقت على الأندلس، أرض رواها المسلمون بدمائهم وزرعوا فيها بذور العزة، حتى دار الزمان واستحكم المحتل الفرنسي الغاشم.

محتل ارتفعت خسائره بسبب مقاومة الفرسان الذين لم يهدأوا حتى دحروه فاختار تمكين عميله بورقيبة ليواصل الاحتلال وحرب الهوية وتحريف الديانة، وهرم الطاغوت ليرثه من تربى مثله على تقبيل أقدام الطغاة والعمالة، فكان زين العابدين بن علي حامل لواء التغريب وحامي المصالح الصهيونية والفرنسية في البلاد، وواصل السير في نفس الطريق، حتى ظن الفرعون أن الشعب قد لانت قيادته وماتت عزائمه، فكذّب الشعب الظنون حين خرج هاتفا بالحرية والكرامة في لحظة تعالت فيها الأنفس عن مطالب المأكل والملبس إلى القيم العالية، فتهاوت العروش تحت أقدام الشرفاء.

الثورة الجماهيرية

من راقب الثورة التونسية استشعر فيها الأثر الجماهيري الذي لم يكن ينضوي تحت أي قيادة، فلا النخب ولا الأحزاب ولا السياسيين كانوا مسيرين لغضب الشعب. تلك الوثبة العفوية من شعب فاض كأس صبره وبلغت الغيرة على مقدساته وكرامته مبلغ كبيرًا، تحرك بشعارات بسيطة لكن بروح كبيرة، روح تحمل موروث الهوية الإسلامية المتأصل، الذي تشهد عليها أسوار القلاع والأربطة، وتشهد عليها الأسماء اللامعة التي بقيت مفخرة لسكان البلاد جيلًا بعد جيل، وتشهد عليه المآذن التي يعلوها نداء التكبير المتصل بأول يوم دعي فيه إلى الصلاة في تلك الربوع.

ورغم مظاهر الفساد والانحلال التي يسعى المستبدون لتكريسها، ويسهر سحرة الإعلام على ترويجها، كان ضياء النور  كامنًا وراء الواجهة يحارب رياح التغريب وأعاصير الاستبداد، إلى أن خرج الشعب ليهدم الأغلال، ويقوض صنم الرجل الواحد والحزب الواحد والخطاب الواحد، خرج وهتف بالهتافات التي اختلطت بالأرواح الصاعدة إلى السماء وقال:

الشعب يريد إسقاط النظام.

النخب والثورة

لم تكن النخب السياسية أحد محركات الثورة، بل كانت قد تفاجأت كغيرها من المراقبين بصمود الشعب،  وكان دورها في مرحلة لاحقة هو تشتيت الجماهير وتفرقة الحشود الشبابية عبر الانقسامات الحزبية التي أصبحت وسيلة محورية في ضرب وحدة الثورة التونسية وإعادة الجموع الثائرة الى حظائر المكاتب المغلقة واللعبة السياسية.

حتى أصبحت الإيديولوجيات وسائل لإنتاج ولاءات جديدة يتم من خلالها تحديد الأهداف والغايات، لتسقط الطبقة السياسية في محور التجاذبات الذي تهيمن عليه شبكة الاحتلال العالمي بقيادة أمريكا وذيلها فرنسا، أصبحت بالتالي الساحة الحزبية معركة ضخت فيها النخبة السياسية  بجهود الشباب لتحقيق أهداف فرضها الغرب لا تمت بصلة لقضايا الشعب الحقيقية، بل إنها أصبحت ترفع شعارات مصادمة ومعادية للهوية، بالتالي تحولت لمطية جديدة لمشروع التغريب، تدعمها في هذا الآلة الإعلامية المطبلة ورؤوس الأموال الفاسدة والأيادي الأجنبية.

الثورة والتيار الإصلاحي

وبتعريف الثورة أنها الخروج عن قواعد اللعبة، القواعد التي كانت أصلًا أحد أسباب الثورة ضمنيا، وهدم أركان النظام من الجذور، كيف يكون ترقيع المنظومة والسير في السكة التي رسمها أعداء البلاد، أو كيف يكون الجلوس في ركن من أركان النظام الفاسد سبيلًا للنصر بعد ثورة ضحى فيها الشباب؟! والأغرب هو تسويق العودة بالبلاد إلى الدائرة الأولى، تسويقه للشباب الإسلامي والشعب على أنه نصر حققته الأحزاب الإسلامية. ثم التنازل عن الثوابت والمبادئ والمشاركة في تقنين العلمنة واعتبار هذا حكمة، والتواطؤ مع رموز النظام القديم وتبييضهم من جرائمهم وتصويرهم كشركاء في صناعة المستقبل. في الوقت الذي غابت أهداف الثورة والمحاسبة وحق الشعب في ثرواته المنهوبة عن الساحة السياسية؟!

التغيير الحقيقي هو نتيجة وعي

إن الشعب التونسي الذي خرج وقال «الشعب يريد إسقاط النظام»، يحمل اليوم مع ذكرى ثورته أمانة كبيرة تنتظرها أجيال الأمة قاطبة، وكل المستضعفين الذين تُدكُّ بيوتهم يوميًا من آلة الإبادة الصهيونية، ويُقتل الأطفال والشيوخ والنساء بأيدٍ أمريكية أو بأيدٍ عربية عميلة تأتمر بأوامر قِبلتها واشنطن وتحكم بما أنزل البيت الأبيض.

إن الشعب التونسي اليوم يقف أمام مسؤولية عظيمة وتاريخية لدحر الطغيان الصهيوني الذي امتد حتى داخل البلاد وأصبح معلنًا يتخذ من الطبقة السياسية ستارًا لإلهاء الجماهير عن الحقائق البشعة، بل تمددت  أيادي اللوبيات إلى الاغتيالات وسفك دماء المخترعين، ويبقى دم محمد الزواري  الطاهر وصمة عار وبرهان على عمالة أصحاب الكراسي وكاشفًا لوظيفتهم الحقيقية  المتمثلة في  إضفاء الشرعية على نهب الشركات الغربية والمحافظة على مصالح المحتلين وتحقيق أهوائهم وتنفيذ برامجهم وضمان اختراقهم للمؤسسات واستغلالها، بينما تستعمل الأجهزة الأمنية كوسيلة لمراقبة الشعوب وإسكات الأصوات الحرة.

ماذا ننتظر من الثورة التونسية؟

إن الأمة تنتظر من الشعب التونسي اليوم أن يقولها من جديد “الشعب يريد إسقاط النظام”، لكن هذه المرة بوعي، أن يسقط نظام العمالة للاحتلال الذي تهيمن عليه القوى العالمية وتتحكم عن طريقه في القرار الداخلي والخارجي للبلاد، أن يسقط العملاء الذين يتاجرون بثروات البلاد بعقود استغلال استعمارية مذلة، في الوقت الذي يلاحق الفقير في لقمته بالزيادات المجحفة، وهو الذي يعيش أقصى حالات الخصاصة بينما يخطوا فوق أغنى أرض، وترتهن الجماهير لصناديق النقد الدولية عبر القروض التي يصورها السياسيون ضرورة للخروج من عنق الأزمة، بينما يختفون عن الأضواء حين تطرح حقيقة السلب المنظم والعربدة التي تجري بمعيتهم ومعاينتهم من أباطرة نهب الثروات الباطنية.

أن يُسقِط كل من يعتبر قضية الهوية قضية ثانوية أو قابلة للإلغاء أو المقايضة أو التحريف، لأنه قد أصبح من الجلي أن الدين هو أساس البناء والنهضة، لا أنه مجرد شعارات خالية من مضامينها، ومنه تنبثق كل عوامل التحرر والتقدم والحضارة، ولأن الدين هو القوة الدافعة لجماهيرنا، تتداعى النخب وسحرة الشاشات لمحاربته ليل نهار عبر إثارة الشبهات وتصدير نماذج الإلحاد وتقنين ذلك في الدساتير واعتباره من الحرية، بينما لا يعتبر حق الشعوب في ثرواتها أبدا نوع من أنواع الحرية.

أن تسقط هيمنة الغرب على مناهج التعليم المفروضة على عقول النشء، تلك التي تصنع التبعية الفكرية داخل المؤسسات التربوية، وتقود الأجيال نحو الهزيمة النفسية أمام بقية الأمم، بالتالي يكبر الطالب مع مركب النقص أمام الحضارة المادية الغربية، حيث يتم النفخ في سقط المتاع من الأدبي الفرنسي وفلسفة الشذوذ، هناك حيث يُغير الوعي العام على ما أنتجه التاريخ الأوروبي في صراعه مع الكنيسة، وتضخم منتجات المخاض الغربي، ويغيب البناء العقدي والعلمي المتوازن، ليفصل الشاب المسلم عن قضايا أمته وواقعه ويحرم من اكتساب مؤهلات فهمه ومعالجته ومواجهته.

التغيير الحقيقي هو أن يخرج الشعب حقيقةً من قيود التبعية الغربية، التبعية بكل تجلياتها، لأن الحرية ليست أبدًا أن يُسمح بالطيران داخل القفص، والرضى بالفتات المُقدَّم من الذين يملكون مفاتيح الأبواب الموصدة، بل الحرية هي كسر القضبان والتحليق عاليًا خارج القفص، وليست الحرية هي السماح بالانتخاب داخل منظومة وهْم وُضِعت قواعدها لإبقاء المسار الاستعماري. يتم التخيير داخلها بين وجهين لعملة واحدة وخطابين لنفس البرنامج.

الحرية هي الاستقلال الحقيقي الكامل من الاستعمار الجاثم على صدور الشعوب مهما كان من يرعاه أكان المحتل أو أذنابه. وأن بداية التغيير هي الوعي الذي يرسم الطريق الحقيقي للثورة ويصحح مسارها، بحيث تملك منظومة قيم مستقلة، تنبع من هوية الشعب ودينه.

المصادر

  1. المغني التونسي محسن الشريف يهتف نتنياهو.
  2. سلطات تونس يزعجها صوت الأذان
  3. الحرب على الحجاب بتونس الخضراء
  4. الثورات بين تعريفين متناقضين
  5. أثر علمنة المناهج التدريسية على وعي الأجيال
  6. ثلاث قيم رئيسية لابد أن يوصف بها السلوك الثوري السليم

مؤمن سحنون

أرجو أن أكون من الساعين لأن ننال يوما الحرية، الحرية بمعناها الشامل لأمة تعرف رسالتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى