نحو إعادة تنظيم هيكل القوى العالمي: الولايات المتحدة مركز الهيكل

  • المقالة نشرتها الصفحة الإلكترونية لمجلة (the American interest)، للكاتب زبغنيو بريجينسكي، وهو مفكرٌ إستراتيجيٌّ ومستشارٌ للأمن القومي لدى الرئيس الأميركي جيمي كارتر بين عامي 1977 و 1981 ويعمل الآن مستشارًا في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، وأستاذًا (بروفسورًا) لمادة السياسة الخارجية الأميركية في كلية بول نيتز للدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز في واشنطن.

ملخص المقالة:

يرى بريجينسكي أن الولايات المتحدة ما تزال لديها فرصةٌ ثانيةٌ لقيادة العالم بعد أن كادت تضيع فرصتها في حرب العراق. ويؤكد بريجينسكي على أهمية الشهور العشرين القادمة في حسم اضطلاع الولايات المتحدة بقيادة العالم محذرًا من أن ازدياد سوء الوضع في العراق أو توسيع دائرة الحرب في الشرق الأوسط بمهاجمة إيران قد يؤديان إلى أن تذكُرَ كتب التاريخ أن عمر الولايات المتحدة كقائدة للعالم كان قصيرًا جدًا.

افتتاحية المقالة:

“لأنَّ عصر الهيمنة العالمية قد انتهى، فعلى الولايات المتحدة أن تأخذ زمام المبادرة لإعادة تنظيم هيكل القوة العالمي”

الثوابت المتحكمة في إعادة التوزيع

ثمةَ خمسةُ ثوابتَ أساسيةٍ فيما يتعلق بإعادة التوزيعات الناشئة للسلطة السياسية العالمية والصحوة السياسية العنيفة في منطقة الشرق الأوسط تعطي الإشارة للزوم البدء بإعادة تنظيمٍ عالميٍ جديد.

  • الثابت الأول: لم تعد هناك إمبريالية وحيدة

أولى هذه الثوابت هو أن الولايات المتحدة ما زالت هي الكيانَ الأقوى في العالم سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، ولكنْ نظرًا للتحولات الجيوسياسية الأخيرة المعقدة في التوازنات الإقليمية، لم تَعُدْ الولايات المتحدة القوةَ الإمبريالية العالمية، بل لم تعدْ كذلك أيٌّ من القُوى الكبرى.

  • الثابت الثاني: روسيا تصارع انحطاط إمبراطوريتها

روسيا تختبر اليومَ المرحلة التشنجية الأخيرة في انحطاط إمبراطوريتها، هي عمليةٌ مؤلمةٌ، لكنَّ روسيا ليست مستبعدةً كليًا-إن تصرفت بحكمةٍ-من أن تصبح في النهاية دولةً أوروبيةً رائدةً. و مع ذلك، فإنه من غير المفيد الآنَ أن تُبعِدَ أو تنفِّر بعضًا من أتباعها في الجنوب الغربي الإسلامي في ما كان سابقًا إمبراطوريتَها الواسعة، فضلًا عن أوكرانيا، وبيلاروسيا وجورجيا، ناهيكَ عن دول البلطيق.

  • الثابت الثالث: الصين قادمة وبقوة

الصين تتصاعد بصفةٍ ثابتةٍ-و لو أكثرَ بطئًا مؤخرًا-لتصير في نهاية المطاف المكافِئَ والمنافسَ المحتمل لأمريكا. إلا أنها في هذا الوقت حذرةٌ أن تمثلَ تحديًا صريحًا لأمريكا. أما عسكريًا، فيبدو أنها تسعى للوصول لتقدمٍ مفاجئٍ في الجيل الجديد من الأسلحة، في حين،و بصبر، تطور قوتها البحرية التي ما زالت محدودةً جدًا.

  • الثابت الرابع: أوروبا غير مهيئة لتكون قوة عالمية

أوروبا ليست الآن، و لا في المحتمل،أن تكون قوةً عالميةً، ولكنها تستطيع أن تلعب دورًا بناءً في أخذ زمام المبادرة حيالَ التهديدات التي تحيق بالعالم و تهدد بقاء الإنسان. كما أن أوروبا سياسيًا وثقافيًا تتماشى وتدعم المصالح الأمريكية الأساسية في الشرق الأوسط، والصمود الأوروبي داخل الناتو يُعد أمرًا لازمًا للوصول لحلٍّ بنَّاءٍ في الأزمة الروسية-الأوكرانية.

  • الثابت الخامس: الصحوة الإسلامية

الصحوة السياسية العنيفة،اليوم، بين المسلمين ما بعد الاستعمار تمثِّل-في بعضها-ردَّ فعلٍ متأخرًا على القمع الوحشي الممارَس عليهم بين الفينة والفينة، والذي في عمومه كان من قِبل قُوًى أوروبية. لقد صهرت هذه الممارسات إحساسًا عميقًا بالظلم-وإنْ ظهرت نتائجُه مؤخرًا-ممزوجًا بدافع ديني، وحّد أعدادًا كبيرةً من المسلمين ضد العالم الخارجي. لكنْ في الوقت ذاته، و بسبب تاريخٍ من الانقسامات الطائفية في داخل الإسلام ذاته، والتي لا عَلاقة لها بالغرب، فإن تزايد هذه المظالم التاريخية سيُحدث انقسامًا في الداخل الإسلامي.

بما تخبرنا هذه الثوابت؟

معًا كإطارٍ موحَّدٍ، هذه الثوابت الخمسة تقول لنا أنَّ على أمريكا أن تأخذ زمام المبادرة لإعادة تنظيم هيكل القوة العالمي، بطريقةٍ تجعل من العنف الناشب-ضمنَ و في بعض الأحيان مجاوزًا العالمَ الإسلامي، و في المستقبل ربما في أجزاءٍ أخرى، فيما دُرِجَ على تسميته بالعالم الثالث-من المُمكِن احتواؤه دون تدميرٍ للنظام العالمي. يمكننا هنا رسمُ هذا الهيكل الجديد من خلال التفصيل الموجز للثوابت الآنفة الذكر.

الهيكل الجديد للنظام العالمي المُحتمَل

  • أولًا: علاقة الولايات المتحدة بروسيا والصين

أمريكا تستطيع فقط أن تكون فاعلةً في التعامل مع العنف القائم في الشرق الأوسط إذا أبرمت تحالفًا يشتمل-بدرجاتٍ متفاوتةٍ-كلًا من روسيا والصين. ولتمكين هذا التحالف من التبلور، ينبغي ثَنيُ روسيا عن استخدامِها القوةَ أحادية الجانب ضد جيرانها وبالأخص أوكرانيا وجورجيا ودول البلقان. أما الصين فينبغي تحريرها من وهم اعتقادها بأن السلبية الأنانية في وجه الأزمة الإقليمية المتصاعدة في الشرق الأوسط سيكون له مردودُه المثمر سياسيًا واقتصاديًا على طموحاتها على الساحة العالمية. هذه الدفعات السياسية المتسمة بقِصَر النظر تحتاج لأن تُوجَّهَ لرؤيةٍ أكثرَ بعدًا.

  • ثانيًا: دور روسيا في الاتحاد الأوروبي

روسيا ولأول مرة في تاريخها تصبح “دولةً قوميةً حقًا”، وهو تطورٌ من الخطر بمكانٍ أن يُتغاضَى عنه. فالإمبراطورية القيصرية متعددة الجنسيات والتي شعبُها إلى حدٍ كبير كان سلبيًا سياسيًا، انتهت مع الحرب العالمية الأولى، وأخذ مكانها التمثيل البلشفي الذي ضمَّ طوعًا اتحادًا من الجمهوريات القومية (اتحادَ الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية)، مع استقرار القوة أساسيًا في أيدي الروس. انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية 1991 أدى إلى الظهور المفاجئ لدولة روسيا كخليفتها بصورة رئيسية، وأدى لتحول الجمهوريات “غيرِ الروسية” في الاتحاد السوفيتي السابق إلى دولٍ مستقلةٍ رسميًا.

الآنَ هذه الدول تعزز من استقلالها، وكلٌّ من الغرب والصين-في نواحٍ مختلفةٍ وبطرقٍ مختلفةٍ-يستغلون هذا الواقع للإضرار بروسيا. في هذا الوقت، مستقبلُ روسيا يعتمد على قدرتها على أن تكون دولةً قوميةً رئيسيةً ومؤثرةً في الاتحاد الأوروبي.إن لم تفعل ذلك فقد يكون لذلك عواقبٌ سلبيةٌ مدمرةٌ على قدرتها على تحمل الضغط السكاني الإقليمي المتزايد من الصين والذي ينمو بقوةٍ ليذكِّر بالمعاهدات “غيرِ العادلة” التي فرضتها موسكو على بكين في الماضي.

  • ثالثًا: الاقتصاد الصيني

النجاح الاقتصادي الكبير للصين يتطلب الصبر الدائم، وعلى الدولة أن تعيَ أن التسرع السياسي سيؤدي إلى فسادٍ اجتماعي. إن أفضل احتمالٍ سياسيٍّ للصين في المستقبل القريب هو أن تصبح الشريك الرئيسي للولايات المتحدة في احتواء الفوضى العالمية الممتدة إلى الخارج-و من ذلك الشمال الشرقي-القادمة من الشرق الأوسط. إن لم تُحتَوى، فإنها ستُفسد المناطق الجنوبية والشرقية من روسيا وسيمتد أثرها ليصل للأجزاء الغربية من الصين.

كما أن العَلاقات المقرِّبة بين الصين وجمهوريات آسيا الوسطى الجديدة وكذلك بينها وبين الدول المستقلة عن بريطانيا في جنوب غرب آسيا (أهمُّها باكستان)، وخاصةً أيضًا علاقتها بإيران (نظرًا لأهميتها الإستراتيجية والاقتصادية)، كلُّها يجب أن تكون الأهداف الطبيعية الموضوعة في الأجندة الصينية الإقليمية.

  • رابعًا: القضاء على التشكيلات المسلحة من قبل دول منطقة الشرق الأوسط

الاستقرار المحتمل لن يعود إلى الشرق الأوسط ما دامت التشكيلات العسكرية المسلحة المحلية تحسَب أنها يمكن أن تكون الرابح من إعادة تنظيم الأراضي بينما هي تحرض على العنف المفرط. قدرتهم على التصرف بصورة وحشية لا يمكن ردعُها إلا من خلال ضغطٍ فعالٍ زائدٍ-وأيضًا انتقائيٌّ-مستمد من تحالفٍ للتعاون بين كلٍّ من أمريكا، وروسيا والصين، والذي بالمقابل سيعزز آفاق الاستخدام المسؤول للقوة من قِبل دول المنطقة (وتحديدًا إيران، وإسرائيل، وتركيا ومصر)، على أن على هذا التحالف أن يتلقى دعمًا انتقائيًا من أوروبا أيضًا.

في الظروف الطبيعية، كانت السعودية لتكون أحد اللاعبين الأساسيين في المرحلة، ولكن الاتجاه الراهن في السعودية ما زال يشجع التعصب الوهابي-حتى حين تشارك في جهود العصرنة المحلية-إلا أن ذلك ما يزال يثير شكوكًا خطيرةً حول قدرتها على لعب دور بناءٍ و هامٍّ في المنطقة.

  • خامسًا: احتواء الجماهير الثائرة

ينبغي إيلاء اهتمامٍ خاصٍّ للتركيز على الدول غير الغربية والجماهير الثائرة سياسيًا. القمع الممارَس لمدةٍ طويلةٍ في الذاكرة السياسية يشعل إشعالًا كبيرًا، وعلى نحوٍ مفاجئٍ، الصحوة المتفجرة، والتي يحفزها المتطرفون الإسلاميون في الشرق الأوسط، ولكن ما يحدث أن الشرق الأوسط الآن قد لا يكون إلا مجردَ بدايةٍ لظاهرةٍ أوسعَ تخرج من أفريقيا وآسيا وحتى من بين شعوب ما قبل الاستعمار في نصف الكرة الغربي في السنوات القادمة.

المذابح المتكررة المرتكبة في أسلافهم والتي قام بها المستعمرون والباحثون عن الثروات المرتبطون بهم، وبصورةٍ كبيرةٍ من أوروبا الغربية خصوصًا (الدول التي هي اليوم و مبدئيًا على الأقل، الأكثرُ انفتاحًا على التعايش ضمن مجموعات متعددة الأعراق)، أدى خلال القرنين الماضيين أو نحوِ ذلك، إلى ذبح الشعوب المستعمَرة على نطاقٍ مماثلٍ لجرائم النازية في الحرب العالمية الثانية: حرفيًا شملت المذابح مئاتِ الآلاف بل حتى ملايينَ من الضحايا الأبرياء.

ولكن الإصرار على الحق المعزَّز بغضبٍ مؤجَّلٍ وحزنٍ، سيصبح قوةً مطلقةً نراها بدأت تظهر على السطح لتنذر بانتقامٍ متعطشٍ، ليس فقط في الشرق الأوسط  المسلم ولكن من المحتمل جدًا أن تصل قوته أبعدَ من ذلك أيضًا.


للاطلاع على التقرير الأصلي: Toward a Global Realignment

آلاء محمود

كن شخصاً إذا أتوا من بعده يقولون مر وهذا الأثر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى