من الكويت إلى قطر إلى الإمارات إلى السعودية، مساجد فخمة وخدمات مدهشة، معمار باهر، وجو مكيف منعش، تطلب الاعتكاف فيُهيأ لك المكان ويصل إليك الإفطار حيثما كنت، مجانًا غالبًا، دورس هنا وهناك، قراء وأئمة منتقون بعناية بالغة، مصاحف فاخرة الطباعة، ثم المؤتمرات والندوات الإسلامية، مجامع فقهية، أبحاث، مناقشات، فعاليات، توصيات، ما الذي يمكن أن يُطمع فيه أكثر من هذا؟ ومن الأخرق الأحمق الجاهل بفقه المصالح والمفاسد الذي يمكن أن يضحي بل مجرد أن يخاطر بكل هذا؟
انفتاح وغواية

ثم تذهب إلى متاجر (هارودز) القطرية في بريطانيا، تجد تشكيلة نادرة من (الويسكي) ثمنها 1.5 مليون دولار أمريكي، وتطالع في صحيفة (آرابيان بريس) خبر حصول الإمارات على المركز الأول في العالم في استهلاك (السكوتش) بمعدل 10 ملايين ليتر سنويًا، لتتفوق بذلك على فرنسا، موافقًا لتقرير (يورومونيتور) لإحصائية 2005-2010 الذي يشير إلى ارتفاع متوسط استهلاك الفرد للخمور من 30,4 ليتر إلى 36,8 ليتر سنويًا.
أما السعودية، فحققت المركز السادس على مستوى العالم في استهلاك المنشطات الجنسية، وهو ما يعادل عشرة أضعاف استهلاك روسيا، رغم أن سكانها حوالي عُشر سكان الأخيرة، بمعدل إنفاق نحو 1.5 مليار دولار سنويًا على العقار المعروف.
وأما مصر، فما أدراك ما مصر! قاهرتها عاصمة الألف مئذنة، قيل نزل القرآن في مكة والمدينة وقُرئ في مصر، شعبها متدين بطبعه، فيها استقر الإمام الشافعي وجدد مذهبه وفيها دُفن، وعد ما شئت من مناقبها! تطالع في جريدتها الرسمية (الأهرام) إحصائية عن ارتفاع معدلات ما يسمى بالزواج العرفي (الزنا المقنع) بين الشباب الجامعي على مدار خمس سنوات من 18% إلى حوالي 30%، أي من كل ثلاث حالات زواج هناك من تقع في هذه الفعلة فضلًا عمن لا تعبأ بالعقد الصوري، كان هذا منذ بضع سنين، أي قبل الانفتاح!
مساجد فخمة ومصاحف

نرجع مرة أخرى إلى الصورة الأولى: مساجد فخمة، مصاحف، مآذن، قراء، مؤتمرات، مشايخ، إلخ. ينشأ هؤلاء في أحضان (المزرعة السعيدة) يتربون في كنفها ويتنعمون في خيراتها، حتى تحكم براثنها عليهم فلا يستطيعون الفكاك منها، بل يتعذر عليهم تصور حيواتهم بدونها، فيصبح بقاؤهم من بقائها، فيستميتون في الدفاع عنها في صورة دفاعهم عن وجودهم، خاصة من أولئك الهُوج الجهلة الذين لا يعبئون إلا برؤيتهم هم، فمن الأخرق الأحمق الجاهل بفقه المصالح والمفاسد الذي يمكن أن يضحي بل مجرد أن يخاطر بكل هذا؟
لو تأملت قليلاً فيما سبق لوجدت أن هذا هو فقه الدعوة السكندرية وحزب النور، هذا هو الدين الذي سيصل إليه منهجهم، دولة علمانية لائكية دينها مسبحة ومبخرة ومساجد مزركشة، ومنافسة على حفلات الرقص واستهلاك الخمور وشيوع الفواحش.
لكن قبل أن تسترسل أريدك أن تقف مع نفسك وقفة تساؤل: هل هذا هو دين حزب النور؟ الإجابة لا، بل هو دين كل من رضي بالعمل الدعوي أو الإصلاحي (من داخل النظام). بدءًا بالإخوان المسلمون ومرورًا بعلماء بلاد الحرمين وتعريجًا على ما يسمى بتيار (الإسلام السياسي) وأكمل القائمة براحتك.
العمل من داخل النظام

فهل المشكلة في الخمور أو الفواحش أو ما إلى ذلك؟ لا، إطلاقًا، ليست هذه هي المشكلة. أو بتعبير أدق: ليست هذه هي المشكلة الحقيقية، بل هي نتيجة لمشكلة أخرى آصل وأشد تجذرًا وأبعد عن بادي الرأي وأقل نصيبًا من العناية والنظر والتقدير والوزن في ميزان (المصالح والمفاسد)، ألا وهي مشكلة (النظام)، وهو المفهوم الذي تقصر عنده أفهام كل من سبق ذكرهم وزيادة.
وليس المقصود بالنظامِ (النظام الحاكم)، فإن النُظُم الحاكمة لأراضي المسلمين إنما هي وكالات محلية لما يسمى بالنظام العالمي، القائم على المنظومة العلمانية-الليبرالية-الرأسمالية، تحت الإدارة الأمريكية في المقام الأول، ومعها من مراكز القوى من معها.
فالمشكلة في النظام، فهل الخمور والفجور هي أفحش أعراضه ومشكلاته الفرعية؟ عجبًا لك أيها المؤمن! فأين الحكم بما أنزل الله، والذي هو من أركان الإيمان ومن مقتضيات التوحيد؟ أين إقامة دين الله وبسط سلطانه في أرضه وعلى عباده؟ أين نصرة المسلمين في بلادهم (ولا أقول في بلاد الكفار التي كانت تهبُّ الجيوش لنصرة امرأة اعتُدي عليها فيها!)؟ أين وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الأخير: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب؟
ماذا قدم كل من عمل في النظم، حتى من المتشرعة الذين لا نطعن في إخلاصهم ولا نحقر جهدهم؟ ماذا كانت نتيجة سعي الشيخ صلاح أبو إسماعيل -رحمه الله- من خلال عمله في البرلمان المصري؟ ما هي نتيجة سعي الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق على مدار عقود في البرلمان الكويتي؟ بل ماذا قدم العلماء الذين أصلوا للحريات ودعموا الثورات بعملهم السياسي، كالدكتور حاكم المطيري والدكتور أحمد الريسوني؟
أحيانًا يحجب التعمقُ عن المرء البديهيات، فكما قال أرسطو: “من أعمل الفكر في موضع البديهة فقد أضر بخاطره”. ولهذا لما مر رأس من رؤوس المتكلمين بعجوز فسألت عنه فأجابوها: هذا الذي عنده ألف دليل ودليل على وجود الله، فأجابت بفطرتها وبداهتها مستنكرة: “والله لو لم يكن عنده ألف شك وشك لما احتاج إلى ألف دليل ودليل! أفي الله شك؟!” فسمعها المتكلم فقال: “اللهم إيماناً كإيمان العجائز!”.
وإن بديهيات الشرع، وأدلته، وأصوله، وقواعده، كلها تصب في مصب رفض العمل (من داخل النظام المُعادي)، وقد ظهر لكل العيان تناقض كل من ادعى مشروعية الإصلاح من الداخل ومخالفته للأدلة التي يدعو إليها، وإن لم يعدم وجها ملتويًا متعسفًا مفضوح التناقض، والنتائج ظاهرة.
قبل أن يثور الثوار ضد الأفعال (كالانتهاكات والقتل والتعذيب بل والحكم) عليهم أن يثوروا ضد المبادئ (العمل من داخل النظام والخضوع للهيمنة الأمريكية والإصلاح من الداخل). فإن كل ثورة تخاطب عملًا ظاهرًا ليست في حقيقتها ثورة، الثورة تكون على المبادئ الفاسدة، والأفعال فرع عنها ونتيجة لها، وهذا ما فهمه العقلاء من الثوار حتى ملاحدتهم.
لقد كان في إمكان ماو تسيدونج القضاء بثورته الشيوعية على النظام الملكي الصيني بسرعة، إلا أنه تعمد التطويل مع بناء العقيدة الشيوعية في قلوب شعبه، ومن قبله فعل لينين وحزبه البلشفي في روسيا، ومثله فعل أتاتورك في تركيا، وكذا فعل جمال عبد الناصر في مصر عندما بادر بعد انقلابه العسكري وعزله لمحمد نجيب بتجذير الاشتراكية والقومية العربية في قلوب المصريين.
لم يكن أحد من هؤلاء من السذاجة بحيث يدعو لمبدأ مخالف لعقيدته (الشرعية الديمقراطية في حالة ثوارنا)، ولا لثورة قوامها ومبدأها فعل ظاهر (الانقلاب العسكري بل ولا القتل وانتهاك الأعراض). نعم هناك ما يسمى بمفتاح الصراع، وهو المدخل لتثوير وتهييج الشعب ضد النظام، لكن المفتاح يبقى مفتاحاً، مجرد وسيلة لفتح الباب والوصول لما وراءه، وهو العمل خارج النظام.
ختامًا

لكي تنهض الأمة يجب أن تقوم ثورة قبل الثورة، ثورة على المفاهيم التي رسخ لها المتربعون عرش السلطان الديني (لو جاز التعبير) بغير استحقاق، سواء من المتشرعة أو من المتسيسة أو ممن جمع بين الاثنين، أو من الشباب الذين ساروا في ركبانهم بشكل أو بآخر من منتخبة طلبة العلم، ثورة على منهجهم الإصلاحي الذي أردى بالأمة في دركات المهالك ومكن السرطان الأمريكي من جسدها المريض المتهاوي، بل ثورة حتى على متعجلة الخلافة من غير تأصيل ولا تجذير للمفاهيم في جسد الأمة المنهكة، ومن غير تمكين لسلطان الدين من قلوب الناس وعقولهم أولًا.
وهذا الذي كتبتُ -على طوله- إنما هو مختصر يحتمل البسط لألف ضعف أو يزيد، ولكني أحسب أن فيه الكفاية لذي العقل اللبيب المريد للإصلاح، الذي يقوده العقل والشرع لا العاطفة والهوى.