الرأسمالية الدوامة التي ابتلعت العالم ودمرت البشر

هل استطاعت نظرية الرأسمالية، حماية النظام الرأسمالي طوال القرون الماضية من الاندثار؟ وهل استطاعت مبادئها أن تضمن لها البقاء وتحفظها من التهاوي والانهيار؟

تٌوجد لأي نظرية من النظريات عدد من المعاني المختلفة، التي تُفسر في ضوءها فروضها، والنظرية بمفهومها العلمي يقع على عاتقها تقديم تفسير واضح للظاهرة التي تحت محل الدراسة، علاوةً عن تقديمها عددًا مقبولًا من النتائج التجريبية التي أجرتها للتوصل إليها، ومع ذلك تبقى النظرية أمرًا نسبيًا يحتمل الخطأ والصواب، إلّا أنّ تحقق بعض التنبؤات لها يزيد من احتمالية وفرصة جعلها حقيقة من الحقائق، ومُسلَّمة من المٌسلّمات كنظرية الجاذبية التي تفسر سقوط الأجسام إلى مركز الأرض على سبيل المثال.

بالنظر إلى نظرية الرأسمالية من هذا المنطلق، سوف تجد أن النظام الرأسمالي يناقض نفسه بنفسه، فهو لم يستطع الإيفاء بأي من الوعود التي قطعها آنفًا، وادعى بأنه جاء لتحقيقها، فضلًا عن قدرته على التمسك بمبادئه المزعومة وقت الأزمات. فالأزمات وحدها كفيلة بأن تكشف لك حقيقة صدق النظريات والأفكار وقدرتها على مواجهتها، وإثبات صحة فروضها، وتحقق نبوءتها، وما دون ذلك فهي لا تعدو أن تكون نظرية قائمة على الورق، لا يمكنها تحقيق أي شيء تدعيه عمليًا.

يقول جون بيلامي فوستر: “ها نحن بعد أقلّ من عقدين على بداية القرن الحادي والعشرين، ويبدو لنا واضحًا أنّ الرأسمالية قد فشلت كنظامٍ اجتماعي. فالعالم غارقٌ في الركود الاقتصادي وبرأس المالي، وأعظم معدلات اللامساواة في تاريخ البشرية، وكلّ ذلك مصحوباً بالبطالة الهائلة وبالبطالة المقنعة وبالأعمال غير المستقرة، وبالفقر والجوع والمدخلات الضائعة والحياة المهدورة، وقد وصلنا إلى ما يسمونه في هذه المرحلة «دوّامة الموت» في البيئة الكوكبية!”

ماذا فعلت الرأسمالية والرأسماليون لمواجهة الأزمة الراهنة من جائحة كورونا؟
لا شيء سوى المزيد من الفشل الذريع في إدارة الأزمة، وعدم تحقيق الحد الأدنى من المبادئ التي تدعيها، فيمكنك أن ترى بوضوح ضربها عرض الحائط بحياة الإنسان المعرضة للخطر والفتك جرّاء هذا الوباء المتفشي في العالم أجمع، ومع ذلك هي كما كانت ولا تزال لا ترى سوى تحقيق أهدافها من جني أعلى الأرباح، وأغراضها من تسليع الإنسان واحتراقه لجلب المزيد من الأموال التي تعمل على توطيد أركانها، وتضخيم ثرواتها، كي تثبت أعمدتها وتتغلب على عقباتها حتى لو كان ذلك لقاء فناء البشر!

يقول عمرو حمزاوي المفكر المصري الليبرالي، حول جائحة كورونا والرأسمالية:

مثلما أنقذت الرأسمالية العنيفة نفسها في 2008 وأغرقت البشرية في المزيد من الكوارث البيئية والمناخية، ها هي تحاول إنقاذ نفسها مرة أخرى في 2020 غير عابئة بمصائر الناس وحقوقهم الأساسية!

كانت الرأسمالية دائمًا ولا تزال خرابًا مستشريًا، ووحشًا ضاريًا لا يهدأ أبدًا من إفساد العالم وتدميره، وتبديد مقدرات الشعوب والبلاد، وابتلاع الإنسانية وسحقها لأجل البقاء، فكيف استطاعت الرأسمالية عبر مراحلها الثلاثة ابتلاع العالم وتدمير البشرية؟!

حرية اقتصادية أم هيمنة استعبادية؟!

تدَّعي الرأسمالية أنها قامت بالأساس على الحرية الاقتصادية للأفراد، وأنّ أي فرد يمكنه الاستثمار في السوق كيفما يشاء لجني الأموال وتحقيق الأرباح، فهي بذلك تحرر حاجته الفطرية في البيع والشراء، وإشباع حاجاته الضرورية والكمالية، وفقًا لما يملكه من قدرات ومهارات، فيتحقق بذلك -حسب زعمها- اقتصاد قوي وحر غير خاضع لأي ضوابط رقابية أو تشريعية أو دينية، فهي تفصل الدين تمامًا عن الحياة، كما ترفض تدخل الأنظمة الحاكمة أيضًا إلا في إطار محدود.

والحرية الاقتصادية تتيح لكل فرد الحق الكامل في ممارسة واختيار العمل الذي يلائمه، وقد عبرَّ الرأسماليون عن ذلك بالمبدأ المشهور: “دعه يعمل دعه يمر”. ويقول جون لوك أحد مؤسسي الرأسمالية، وهو من صاغ النظرية الطبيعية الحرة عن الملكية الفردية: “وهذه الملكية حق من حقوق الطبيعة وغريزة تنشأ مع نشأة الإنسان، فليس لأحد أن يعارض هذه الغريزة!”.

لكن في المقابل فإن الطبقة البرجوازية التي أنتجها هذا النظام؛ حيث صنع من أشخاص بعينهم والذين يملكون القدر الأكبر من حصة الأسواق، سلطة جديدة مستقلة لاستعباد طبقة أخرى معدمة لا تملك شيئًا، واستغلال فقرها في العمل الشاق الطويل لقاء أجور زهيدة لتضخيم ثروات الأولى ونفوذها، هذه الأجور التي يحصل عليها العاملون الفقراء بالكاد يمكنها أن تسد رمق جوعهم أو لا تفعل! ناهيك عن التعامل معهم من منطلق السادة والعبيد، وأنَّ هؤلاء البرجوازيون لهم كل الفضل في عيش أولئك الفقراء الذين لا يملكون سوى قوتهم المحدودة للعمل، مما يوجب عليهم إعلان الخضوع وتمام الطاعة لأسيادهم الذي منوا عليهم باستخدامهم كترس من تروس الآلة المالية الضخمة التي يمتلكونها، والذي يمكن استبداله بغيره في أي وقت!

آثار الآلة الحديثة، والثورة الصناعية

مع بداية ظهور الثورة الصناعية الأولى في إنجلترا في القرن الثامن عشر، حيث سبب اكتشافها لتقنيات جديدة للإنتاج (كالمحرك البخاري وآلة الغزل) نقل الرأسمالية من المرحلة الأولى التجارية، إلى مرحلتها الثانية الرأسمالية الصناعية، لتنمو نموًا متسارعًا، ثم تلتها الثورة الصناعية الثانية في القرن التاسع عشر والتي اتجهت لاستخدام الطاقة الكهربية في الإنتاج والاتصال والمواصلات، لتغير مسار السوق وتجعل المجتمعات أكثر حاجةً للحلول والوسائل التي يقدمها أصحاب النفوذ من الرأسماليين الذين يمتلكون المال لشراء تلك الآلات الحديثة والسيطرة على العملية الإنتاجية بها. ثم تلتها الثورة الصناعية الثالثة في القرن العشرين حيث ظهر الإنترنت، الذي تسبب في طفرة صناعية للعالم بأسره، فدخلت الحواسيب في معظم مناحي الحياة من تصنيع وإنتاج واتصالات وتعليم وصحة وغيرها من المجالات الأخرى.

وها نحن على أعتاب ثورة صناعية رابعة تتقدم فيها التكنولوجيا لتحقق تفوقًا مذهلًا من صناعة روبوتات وتعليم للآلات، واستخدام تقنية النانو، إلى عصر البيانات الضخمة، والتحكم في الجينات، واستخدام التقنية الحيوية في الصناعة والإنتاج، والواقع المعزز، والواقع الافتراضي، وهذه الرأسمالية الصناعية تقوم على أساس الفصل بين رأس المال وبين العامل، أي بين الإنسان وبين الآلة.

كل هذا النمو المتسارع للآلة الحديثة والثورة الصناعية التكنولوجية، ساعدت الرأسمالية كثيرًا في نموها واستفحالها هي الأخرى، حيث نمت أذرعها لتطال العالم بأسره وتخضعه تحت سطوتها المالية القادرة وحدها على مواكبة تلك التغيرات وامتلاك تلك الآلات الحديثة باهظة الثمن وإدخالها في الأسواق، ليزداد معدل التضخم المالي وجني المزيد من الأرباح والثروات، لتنتقل إلى مرحلة الرأسمالية المالية، وإعادة تدوير رؤوس الأموال، وتراكمها. ناهيكَ عن الوجه الآخر لهذه الآلة الحديثة التي جعلت الإنسان أو العامل على وجه التحديد لا يعدو كونه آلة أو بضع آلة من هذه الآلات لدى أصحاب النفوذ والسيطرة المالية من أصحاب الشركات، فتم تسليع الإنسان بامتياز، مع إهمال مُتعمد لمشاعره وروحه، وما يملكه من قيم إنسانية واجتماعية، لا يمكنه أن يحيا سويًا بدونها!

رأسمالية تنافسية أم احتكارية؟!

تقوم الرأسمالية على فكرة التنافسية في الأساس، فهي تُمثِّل نظامًا استثماريًا مدفوعًا بالمنافسة من أجل الربح؛ ولأنها تتبنى فكرة الحرية المطلقة دونما قيود أو أي اعتبارات للعوامل الإنسانية والاجتماعية الأخرى، فقد تحولت من تنافسية مشروعة تتمنى النجاح للجميع من المجتهدين، إلى تنافسية غير أخلاقية تسعى للإطاحة بالغير في السوق، وأصبح جمع أعلى قيمة من الحصص السوقية، وجني القدر الأكبر من الأرباح هو العامل والدافع الأساسي للعمل والتواجد داخل الأسواق، فشاهدنا الكثير من الشركات الصغيرة التي تهاوت وانسحقت تحت عجلات وأذرع الشركات الكبرى، وبالأخص منها الشركات العالمية العابرة للقارات.

كما نشأت أنظمة فرعية جديدة سعت لتقنين الاحتكار مثل: (نظام الكارتل Cartel System) والذي يعني اتفاق الشركات الكبيرة على اقتسام السوق العالمية فيما بينها مما يعطيها فرصة احتكار هذه الأسواق وابتزاز الأهالي بحرية تامة، وقد انتشر هذا المذهب في ألمانيا واليابان. وأيضًا نظام (الترست Trust System) الذي يعني وجود شركة من الشركات المنافسة لتكون أقدر في الإنتاج وأقوى في التحكم والسيطرة على السوق من منافسيها.

لقد أصبحت الرأسمالية تقوم على التناحر بين الشركات، وغدا السوق لا يعدو أن يكون سوى غابة كبيرة يأكل القوي فيها الضعيف، ويسحقه بلا رحمة أو هوادة، أما عن أفراد المجتمع فقد اُستخدموا كوقود لهذه الآلة الاحتكارية الطاغية، فالمستهلكون سرعان ما ينجذبون إلى السعر الأقل والخدمة الأفضل بطبيعة الحال، غير عابئين بالعلاقات الجيدة التي صنعوها مع بعض التجار، ولا انتمائهم لمنتجاتهم لبضع سنوات، وهم في ذلك مٌرغمون إلى حدٍ كبير، فإن وسعهم قيمهم وأخلاقهم في التمسك بالبقاء والانتماء؛ فإن جيوبهم لا تسعهم البتة لهذا النبل والوفاء، وهذا هو ما أرادته الرأسمالية ونجحت فيه بامتياز، حيث جعلت المادة هي الهدف الأسمى والمطلب الأساسي الأول للعيش في هذه الحياة بأمان، أو لضمان العيش والاستمرار في الحياة في كثير من الأحيان، وطوعت الأفراد والأشياء والمواد الخام والموارد البيئية ومقدرات الشعوب في تحقيق هذا المبدأ وسيادته للعالم، حتى أصبحت المقولة الشهيرة (أنا وما بعدي الطوفان) هي القاعدة الحاكمة لمن أراد العيش على كوكب الرأسمالية، وإلا فلتذهب إلى هاوية الجحيم والفقر المدقع، ولتستحق دهسك بين عجلات الرأسمالية بلا شفقة، لأنك لا تمتلك قدرًا كافيًا من القدرة على السيطرة والهيمنة والاستحواذ!

علاقة الرأسمالية بالحروب

ترتبط الرأسمالية الإمبريالية ارتباطًا وثيقًا بالحروب والاستعمار، فهي أحد سبلها الرئيسية لتكوين ثرواتها، وجني الأرباح الهائلة من ورائها، فما بين بيع الأسلحة المختلفة ومعدات الحروب الثقيلة بملايين الدولارات، إلى استعمار البلاد واحتلالها لنهب ثرواتها تحت شعارات زائفة مثل (إعادة الإعمار) تتيح فرصًا عظيمة للرأسماليين لزيادة ثرواتهم، وغنىً فوق غناهم، كما يصاحب ذلك سيطرة وهيمنة سياسية من قبل الدول العظمى ذات السلطة الأقوى والنفوذ الرأسمالي الأعلى في العالم مثل أمريكا.

تستطيع أن ترى ذلك جليًا في المشروع الأوروبي لإعادة إعمار البلاد التي تم تدميرها بعد الحرب العالمية الثانية، وأيضًا حرب أمريكا ضد العراق ولبنان ومؤخرًا الحروب المشتعلة في اليمن، وسوريا الجريحة، ناهيك عن هدفهم الأساسي في إخماد الوعي الجمعي للشعوب الثائرة، والقضاء على المقاومة والحركات الإسلامية في هذه البلدان.

أما في الدول النامية من العالم الثالث، فأمريكا ليست في حاجة إلى احتلالها عسكريًا، لنهب ثرواتها، يكفي فقط أن تجعل من رؤوس نظامها عرائس ماريونيت تحركها كيفما تشاء، وتُحكم سيطرتها عليهم، وتجعلهم أدوات مثالية للنهوض بالرأسمالية وزيادة نموها على حساب تلك الشعوب البائسة الفقيرة، ويمكنك أن ترى ذلك بوضوح في بلدان الوطن العربي مثل الإمارات أو السعودية التي وهبت ثرواتها من النفط لهذه الدول، ومصر التي بلغ الدين الخارجي لها نحو 109.4 مليار دولار بنهاية سبتمبر 2019 الماضي.

في الحقيقة إن علاقة الرأسمالية بالحروب هي علاقة أبدية، فلا يمكن غزو الأسواق الجديدة وفرض الهيمنة عليها لتسويق منتجاتها إلا بعد استعمارها اقتصاديًّا أولًا وفكريًّا وسياسيًّا وثقافيًّا ثانيًا، فضلًا عن استرقاق الشعوب وتسخير الأيدي العاملة فيها لمصلحتها، ولِمَ لا وهي لا تعير اهتمامًا البتة بمصير الإنسان ولا البشرية، فليحترق العالم بأسره طالما أن ذلك يخدم مصالحها ويحقق أهدافها!

الرأسمالية وآثارها المدمرة

انقسام الإنسان على ذاته

يقول أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة محمود رجب:

إن الإنسان في العصر الحديث أصبح منفصلًا انفصالًا حادًّا لم يسبق له مثيل، سواء عن الطبيعة، أو المجتمع، أو الدولة، أو الله، وحتى نفسه وأفعاله!

وتلك هي من أشد الآفات، والآثار المدمرة للرأسمالية، حيث أن المفاهيم الجديدة التي قدمتها النيوليبرالية للبلاد التي تفرض سيطرتها عليها، جعلت من الإنسان آلة صماء يعمل ما هو مطلوبٌ منه فحسب، وشاغله الوحيد هو حصوله على قوت يومه دون ضوضاء، مما جعله يقوم بكبت مشاعره تجاه الأمور المؤذية له حفاظًا على مكانه في سوق العمل الذي لا يرحم. وفي نهاية يومه هو يبحث عن آدميته المنسحقة تحت مفرمة الرأسمالية التي لا تقر إلا بالمادة وكل ما يخدمها فحسب، فلا يجد منها سوى ركامًا أنتجته تلك القوة القاسية، وحطامًا خلفه هذا النظام الفاشي الجشع.

لقد أصبح على الانسان في ظل الرأسمالية الفاسدة، أن يرتدي أكثر من وجه، وجهًا يساير به عمله كأجير في مطلع النهار في خنوع واستسلام تام لما يريده منه أصحاب تلك الشركات، ووجه آخر يعود به لأصله وذاته، بل يصل به الأمر إلى حد فقدان الذات بالمرة، فتجده يلهث ليل نهار عن ما يؤكد له قيمته بعيدًا عن سوق العمل الذي يعامله كسلعة، فلا يجد سوى قدرته المحدودة للعمل، تلك الدوامة القاسية غيرت كثيرًا في معالم روحه، وجعلته يتلمس الوصول إلى ذاته الحقيقية كل يوم دون جدوى، فأصبح لا يعي الحكمة من وجوده، وفقد غاياته، وأصبح جُلَّ همه إحراز المزيد من التقدم في السوق حتى لا تلتهمه تلك القوة الاحتكارية وتهوي به في مكان سحيق، بعد أن وجدت من هو أكثر منه كفاءةً وقدرة على الانتاج!

شعور الإنسان بالاغتراب

تقوم الرأسمالية على الملكية الخاصة وتقدسيها، ولذا فهي تعد الملكية العامة شذوذًا، ولا تعترف بالمجتمع إلا بما يحقق لها مصالحها ورغباتها، فأصبح لا وجودًا حقيقيًا للمجتمع بخصائصه الفريدة في حياة الفرد، سوى مكان يطلب منه التكيف مع المادة ومعطياتها لكي يستطيع التواجد والاستمرار فيه، مما أنشأ بداخله غربة وخواء نفسيًا، جعله يشعر بالعجز وعدم الانتماء، وعدم القدرة على السيطرة والتصرف في شؤون حياته كيفما يريد.

والشعور بالعجز مؤلم وقاسٍ، ينخر في روح صاحبه، ويشل حركته، ويقوض أركانه، فلا يستطيع معه أن يقرر مصيره بنفسه، أو أن يكون له أثر فيما حوله من أحداث ومجريات، ولا يُمكنّه حتى من اتخاذ القرارات المصيرية بحياته، فيشعر بالنهاية بعدم القدرة على تحقيق ذاته، وينتابه حالة مزرية من الاستسلام والخنوع!

ومن ناحية أخرى فهي تفصل الدين عن الحياة برمتها، فتساهم بقدر كبير في إصابة الإنسان بالاغتراب، ففي دراسة قام بها أستاذ علم النفس “بركات حمزة حسن” على أكثر من 600 طالب جامعي، قاس فيها معيارين أساسيين هما الشعور بالاغتراب والتديّن، أسفرت الدراسة عن نتائج تفيد بأن الشعور بالاغتراب مرتبط ارتباطًا جوهريًا سلبيًا بالتدين، بمعنى أن الشعور بالاغتراب يقترن في الغالب بحياة خالية من الجانب الديني والروحي.

إن شعور الإنسان بالغربة عن ذاته وعن مجتمعه ومن حوله من الناس، جعله يبحث عن آخر ملاذ له يمكن أن ينقذه من تلك المشاعر المحبطة والمميتة، فلجأ إلى الجانب الديني كي يروي ظمأ روحه ويرممها، ولكنه اصطدم مجددًا بالأفكار المعلبة الجاهزة التي يقدمونها له أصحاب الوصايا من الذين يدعون التدين، يقولون له افعل ولا تفعل، بل ويقنعونه بأن العمل على هذا النحو من الاستعباد ليل نهار، مع إهمال كافة القيم الأخلاقية والاجتماعية وتنحيتها جميعًا لأجل الحفاظ على تلك المكانة، هو سعي واجتهاد يكافئ عليه الرب!

لقد نجحت الرأسمالية في صناعة رموز وأبواق إعلامية لها قوية تخاطب الناس في شتى المجالات بما تريده أن يصل إليهم، وبما يخدم أهدافها ويحقق لها رغباتها من سلطة وهيمنة، فظهر بما يُعرف بشيوخ السلاطين، ورواد التجربة الدينية الحديثة، وتم طرح أفكار وموضوعات مريبة وعجيبة مثل: تجديد الخطاب الديني، والإسلام الحديث، والتفسير والتدبر الذاتي.. وغيرها من الموضوعات التي يُراد بها بلورة التجربة الروحية والدينية من جديد لتناسب عصر الرأسمالية والنيوليبرالية الحديثة.

وما أن يصطدم الفرد بهذه الأفكار التي لا تزيد روحه إلا ألمًا، وغربته إلا اغترابًا حتى يفقد قدرته على التفكير والبحث، ويستسلم لتلك المشاعر المحيطة به التي نالت من روحه حد السقم من عجز وعدم ثقة وغياب للمعنى، وانسلاخ عن ذاته وعن مجتمعه، ويعتريه خواء نفسي وروحي مريع!

والاغتراب صفة ملازمة وحالة عامة للمجتمعات الرأسمالية -كما يرى كارل ماركس- التي نجحت عن جدارة في تحويل الفرد إلى كائن عاجز مثله مثل السلعة التي يعمل على إنتاجها، بل إن السلعة أصبح لها قوة مستقلة عنه، ومعادية له، ويقول في ذات السياق:

إن العامل في ظل النظام الرأسمالي يهبط إلى مستوى السلعة ويصبح حقًا أكثر السلع تعاسة.. يصبح العامل سلعة رخيصة بقدر ما ينتج من سلع، وبتزايد قيمة الأشياء تتدنى قيمة الإنسان نفسه!

وإن كان حديث الرجل هنا لبيان مساوئ الرأسمالية المناهضة لنظريته الماركسية (الاشتراكية الشيوعية) التي أسسها في مطلع القرن التاسع عشر، والتي لا تقل فسادًا وخللًا عنها، حيث أنه وكما جاءت الرأسمالية لتقدس الملكية الفردية، فعلى النقيض تمامًا جاءت الماركسية الشيوعية، لتنفي صلاحية وقدرة الفرد على التملك أو حق التصرف لعدم أهليته، وتنادي بضرورة تدخل الدولة في السوق وسيطرتها الكاملة على العملية الاقتصادية وتوزيع الدخل بما تراه مناسبًا ومنصفًا!

انشطار المجتمع إلى طبقات متشاحنة

توجد خصائص أساسية يتسم بها النظام الرأسمالي، على رأسها استغلال الرأسماليين لفئة العمال، يصاحبه منافسة شرسة بين الرأسمالين وبعضهم بعضًا، هذا الصراع الدائم أفرز العديد من طبقات المجتمع المتشاحنة والمتناحرة على الدوام. فالطبقة البرجوازية التي بيدها نفوذ السلطة والمال هي من تتحكم بمصائر الطبقة البروليتارية الفقيرة البائسة من العمال الذين لا يمتلكون سوى قوة عملهم، ويضطرون إلى بيعها من أجل البقاء على قيد الحياة!

وفي حين أن هؤلاء العمال هم من يقوم عليهم الإنتاج في الأساس، ولا يستطيع أصحاب الشركات الكبرى تكوين الثروات وتحقيق الأرباح بدون استغلال فائض قيمة عملهم ومص دمائهم؛ ومع ذلك فإن أي عامل في العالم يخضع للاستغلال، فبقاءه في العمل مرهون بتحقيق ما يتوقع منه من إنتاجية محددة سالفًا، لتحقيق الأرباح لرؤوس تلك الشركات الذين يصنعون الثروات التي تجعلهم يعيشون حياة المليونيرات، أو يقومون بإعادة الاستثمار في إمبراطوريات شركاتهم من أجل الدورة التالية من التضخم المالي والإنتاجي، وإن لم يحقق العامل هذه النسبة من الإنتاج، فما الذي يدفع صاحب العمل للإبقاء على توظيفه؟! 

تدفع المنافسة الطبقة الحاكمة لأن تبدو كوحشٍ لا يعرف الرحمة في سعيها وراء المكاسب متجاهلةً أي عواقب، فعلى سبيل المثال: كان هناك الآلاف الذين ماتوا بسبب شركة جيمس هاردي، التي استمرَّت في تصنيع مادة الأسبستوس لعقودٍ من الزمن بعد علمها أنه يسبِّب السرطان، وذلك لأنها كانت تحقِّق أرباحًا طائلة! أيضًا هناك آلاف العمال الذين يُقتلون أو يُصابون كلَّ عامٍ لأن الأرباح تأتي دائمًا قبل السلامة المهنية! كما أن الرأسمالية تعمد إلى حرق البضائع الفائضة، أو تقذفها في البحر خوفاً من أن تتدنى الأسعار لكثرة العرض، وبينما هي تقدم على هذا الأمر تكون كثير من الشعوب أشدَ معاناة وشكوى من المجاعات التي تجتاحها!

وعلى صعيد آخر فإن رؤوس هذه الشركات الكبرى تتنافس فيما بينها، وتسعى كل منها لإزاحة الآخر والإطاحة به لامتلاك حصته من السوق، فالاحتكار بالنسبة لها والاستحواذ هو وسيلة مشروعة للوصول إلى غايتها، والنظام الرأسمالي غير عقلاني أو يقوم على التخطيط؛ لذا فهذا الصراع الدائم بين أصحاب الشركات يعني عدم ثبات النظام الرأسمالي، ويفرض على هذه الشركات أن تستمر في التوسع والنمو باضطراد، وتحقيق المزيد من الأرباح، وإلّا فإنهم سيواجهون خطر الخروج من المنافسة وسوق الأعمال، وهذا ما يفسر عدد الساعات الطويلة من العمل التي يفرضها أصحاب هذه الشركات والمصانع على العمال، وإدخال الآلات الحديثة المتطورة وتدريبهم للعمل عليها لزيادة الإنتاج، وضمان البقاء.

تدفع هذه المنافسة الشرسة، وهذا الصراع الدائم، إلى تشكيل المجتمع وإعادة صياغته ليتألف من طبقات متشاحنة متباغضة على الدوام، فتدنت القيم الأخلاقية والإنسانية وحلَّ مقامها، الظلم والكراهية والحسد والحقد والأضغان.

الرأسمالية واستغلال المرأة

بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية في منتصف ستينيات القرن التاسع عشر، ظهرت حركات تحررية جديدة تنادي بالدفاع عن الحقوق المدنية لكافة أطياف المجتمع، من بينها كانت الحركة النسوية التي جاءت جملة أهدافها المساواة بين الرجل والمرأة، فشهدت بعدها أسواق العمل حضورًا للمرأة يزداد تدريجيًا مع توسع نشاط هذه الحركة وانتشارها.

ومع صعود نجم النظام الشيوعي آنذاك، فقد اتخذت الحركة من نفسها تبنيًا لمبادئ الشيوعية وقيمها طامعة في الوعود التي ألقتها بتحرير المرأة من الهيمنة الرأسمالية، وإعادة تمكينها وبزوغ دورها الريادي في المجتمع، ولكن ما لبثت أن كشفت الشيوعية عن حقيقتها الديكتاتورية بعد تمكن الصين من غزو السوق في عام 1978 والذي لحقه انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، لتجد نفسها مجددًا على طاولة الرأسمالية والليبرالية الحديثة حيث تعد ملاذًا آمنًا لها لاحتضانها وتبني أفكارها وأهدافها.

ولكن لكل شيء ثمن، والعمل دون مقابل لا يعد عملًا في شريعة الرأسمالية، لذلك توجب على الحركة النسوية دفع الثمن لبقائها واستمرارها! من هذا المنطلق بدأت قيادة الحركة النسوية في السعي للتماهي مع الرأسمالية، وتبني فلسفتها وأيدولوجيتها متخلية طواعية عن مبادئها الأساسية من حماية حقوق المرأة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لترمي بها في نيران السوق متغنية بشعارات النيوليبرالية التي تزعم بتحرر المرأة ومنحها الحق الكامل في الاختيار والانطلاق كيفما تشاء، دون وجود أي عوائق دينية أو اجتماعية أو أخلاقية، وهو ما عبّرت عنه ستيكن بقولها:

إنّ النسوية النيوليبرالية هي النسوية السائدة في المجتمع الأميركي، فهي نيوليبرالية ترفع شعارات براقة، وهي سهلة الانقياد وخانعة لمتطلبات اقتصاد النيوليبرالية، إنها نيوليبرالية ضعيفة إلى حد كبير!

وجهت الرأسمالية أهدافها بعناية نحو المرأة عبر مسوغات النيوليبرالية، لِتُصدّر لها أهمية خروجها للعمل، واستقلالها ذاتيًا وماديًا، وحقها الكامل في الانخراط في السوق لترتقي درجات السلم الوظيفي الذي يمنحها المكانة الاجتماعية والريادية التي تستحقها، بل وجعلت هذا الاستحقاق وتلك المكانة مرهونة ببذل أكبر قدر من الجهد والعمل حتى تستطيع مزاحمة الرجال ومنافستهم ذراعًا بذراع، وساقًا بساق، فأصبحت المرأة بذلك ترساً أساسيًا في تلك الآلة المتسلطة التي لا ترحم رجلًا أو امرأة، ومحت من أذهانها معاني الأنوثة ودور المرأة الأول -المنوط بها- في المجتمع من تكوين الأسرة وتحقيق التوازن المطلوب لمجتمع آمن ومستقر.  

الرأسمالية وتفتيت الأسرة

كيف يمكن للأسرة أن تقوم بدون المرأة؟! بالطبع إن استهداف المرأة واستعبادها في سوق العمل كان مقصودًا من قبل الرأسمالية، لهدم كيان الأسرة وتفكيك أوصالها، فالأسرة بمفهومها الجمعي التعاوني يحول دون الوصول لأهدافها وأغراضها. كيف يمكن جعل المرأة تنطلق في سوق العمل لتحقيق منازل ودرجات وظيفية عليا في محاولة للبحث عن ذاتها، وتحقيق مكانة وقيمة لها، واستقلال وحرية مادية، دون تغيير مفهوم الأسرة في عقلها وتهميشه وتبغيضه ووسمه بالتخلف والرجعية والاضطهادية للمرأة!؟

قامت الرأسمالية عبر حملات إعلانية ضخمة لشركات كبرى تابعة لها، في تسويق فكرة تحرر المرأة وخروجها من سجن العرف والعادات والموروث، والانطلاق نحو حرية التعليم والعمل، ونجحت نجاحًا مبهرًا في استقطاب النساء وخديعتهم نحو هذا السجن الأكبر من سوق العمل، الذي جعل جلال أمين يعلق على ذلك قائلا:

دع المرأة تخرج من سجن العرف والتقاليد لتدخل سجن السوق بمنتهى الحرية!

ثم قامت الرأسمالية مجددًا بالترويج لفكرة تحديد النسل وخفض الإنجاب، لعدم الانشغال بالأمومة والأبناء، ولكن ما لبثت أن عادت لحث الأسر على كثرة الإنجاب لحاجة أسواقها ومصانعها إلى المزيد من العمال، ففي “نيو إنجلاند” على سبيل المثال كان معدل المواليد -أثناء الاستعمار- يتجاوز سبعة أطفال لكل امرأة في سن الإنجاب، إذ كان الرجال والنساء في حاجة إلى الأطفال للعمل، مما جعل إنجاب الأطفال ضروريًا لاستمرار الحياة بقدرِ أهميّة إنتاج الحبوب، فكان الزواج مُسخّرًا للتَنَاسل فقط وإنتاج العمال، لا من أجل الحياة الإنسانية الحقيقية! من هذا المنطلق يمكن فهم الآلية التي تعاملت بها الرأسمالية مع الأسرة، فيقول جون ديميليو:

إن تعامل الرأسمالية مع الزواج كان تعاملًا تحكمه المصلحة لا القيمة المعنوية لتلك العلاقة!

كما أنَّ انخفاض الأجور وشدة الطلب على الأيدي العاملة دفع الأسرة لأن يعمل كل أفرادها مما أدى إلى تفكك عرى الأسرة وانحلال الروابط الاجتماعية فيما بينها، فأصبح هَمّ الأفراد بالأسرة هو العمل وجلب المال الذي يكفيهم لسد احتياجاتهم، ولم يعد هناك تواصل أو مؤازرة أو تعاون مشترك وعلاقات اجتماعية من كونها تحقيق السلام النفسي لأفرادها، فباتت الأسر كأداة جيدة للمزيد من الإنتاج، وجني المزيد من أرباح الشركات التي يعملون بها، وتضخم ثروات أولئك المسيطرون على ثروات الشعوب ومقدراتها. وفي ذات السياق، ترى الدكتورة هبة رؤوف:

أنه بسقوط الأم والزوجة تسقط الأسرة ويتراجع الجوهر الإنساني المشترك، ويصبح لكلٍّ مصلحةٌ خاصة، مما يقلص من مساحة التعاون المشترك بين أفراد تلك الأسرة شيئًا فشيئًا حتى تندثر تمامًا، تاركة إياهم في مواجهة فردية مع الحياة.

لم تعد الأم بعدُ تنشغل بالتربية، وأصبحت تبحث عن بديل لها يقوم بذلك، فنشأت الأجيال التي لا تعرف أخلاقًا أو قيمًا، ولكنها تعرف فقط لغة المادة والآلات الحديثة التي سرقت أعمارها واستلبت أرواحها، وهذا هو ما أرادت الرأسمالية تحقيقه تمامًا، فتقول سيمون دي بوفوار -إحدى أبرز المؤسسات النسوية-: “إن المرأة ستظل مستعبدة حتى يتم القضاء على خرافة الأسرة وخرافة الأمومة!

كما أن الأسرة في ظل الرأسمالية تحولت اقتصاديًا من اقتصاد منزلي يعتمد على موارد الأسرة التي يغطي انتاجها كافة احتياجاتها فهي بذلك تكفل نفسها بنفسها وتحقق توازنًا في المجتمع يساعد النظام الحاكم في تسيير الاقتصاد العام للمجتمع بأسره، إلى اقتصاد رأسمالي فقدت فيه كثيرًا من استقلاليتها وأصبحت تحت وطئة ورحمة أصحاب الشركات من الرأسماليين الانتهازيين.

الرأسمالية تدمر الحياة الاجتماعية

تناهض الرأسمالية فكرة المجتمع ولا تتفق معه إلا في الحدود التي تخدم مصالحها فحسب، إذ أنها تقدس الملكية الفردية، وتبني أوتادها على المصلحة الذاتية فحسب، وترى فيها المنفعة التي يجب على الناس اتباعها، كما يرى دافيد هيوم صاحب نظرية النفعية التي وضعها بشكل متكامل والتي تقول بأن: “الملكية الخاصة تقليد اتبعه الناس وينبغي عليهم أن يتبعوه لأن في ذلك منفعتهم”.

فهي بذلك تغض الطرف تمامًا عن القيم الأساسية والعليا لبناء المجتمعات من تعاون وتشارك وتكاتف وتآزر، وتحشد جهودها باستمرار لرسم خارطة فردية للمجتمع، يعيش أفراده منفصلين ينشغل كل منهم في اللهث وراء المادة وتحقيقها بكافة السبل والوسائل المتاحة والممكنة. بالطبع إن مجتمع يقوم على هذا النحو وتلك الصورة، ليس من العجيب أن تنعدم فيه الأخلاق وتنتشر فيه الضمائر الفاسدة، والطبائع الدنية، من كذب وغش وسرقة وتدليس وإقامة حفلات للرقص وشرب الخمور والمخدرات وممارسة الرذائل والإباحية، إذ أن كل ما يمكنه جلب المزيد من الأموال فهو مباح ومبرر لدى الرأسمالية، بحجة الحرية الطبيعية للأشخاص، والغاية تبرر الوسيلة.

وفي ذات الوقت هي تقيد الحكومة من التدخل إلا في أضيق الحدود أو عندما تعصف الازمات، ويسعى الرأسماليون للاستعانة بالحكومات للحد منها بطريقة ما، مثلما حدث وقت أزمة الكساد الكبير الاقتصادي في أمريكا خلال الثلاثينات من القرن الماضي.

ليس من العجيب إطلاقًا أن نرى اليوم أنانية الأفراد المفرطة والتي لا تتوقف عند حد الاستئثار بالأشياء والمصالح لذاتها، بل تتعداه إلى تدبير المكائد وحياكة المصائب لتلحق بغيرهم الذين يعتبرونهم مصدر تهديد لهم ولحياتهم. وإن إيمان الرأسمالية بالحرية الواسعة أدى إلى فوضى في الاعتقاد وفي السلوك مما تولدت عنه هذه الصراعات الغريبة التي تجتاح العالم معبرة عن الضياع الفكري والخواء الروحي.

يقول ماركس عن نمط الإنتاج الرأسمالي:

إنه مع تزايد قوته، وبالتوازي مع توسّعه، يدمر الأسس الأكثر ضرورية للمجتمع، وهي الإنسان -العامل المُغتَرب والمُستغَل- والطبيعة.

وإن كان كشفه لحقيقة هذا النظام البالي يأتي من منطلق الانتصار لنظريته الشيوعية الفاسدة هي الأخرى -كما نوهنا لذلك آنفًا-.

الخلاصة

لقد تنبأ العديد من الاقتصاديين سابقًا -ولا سيما الشيوعيين منهم- بزوال الرأسمالية، آملين في هيمنة نظريتهم الماركسية البالية، وتحكمها بالعالم بدلًا منها، وأكدوا على أنها لا يمكن لها البقاء والاستمرار بسبب كمية التناقضات التي تحملها في داخلها، ونحن إذ نرى بوضوح فشل النظريتين، لما ينطويان عليه من فساد وإفساد فكري وخلل مجتمعي عظيم، ومع ذلك فإننا نستطيع رؤية قدرة الرأسمالية على تجاوز الأزمات السابقة التي حلت بها، إذ تهرع رؤوس الأموال للاستثمار في فقاعاتِ مضارباتٍ تلو أخرى، من أزمة الكساد الاقتصادي الكبير بأمريكا 1929، إلى أزمة فقاعة تكنولوجيا المعلومات (1995-2000) إلى أزمة الرهن العقاري (2008) من خلال اتباعها لبعض السياسات المغايرة مثل النظرية الكينزية والجدول الاقتصادي، وغيرها من الوسائل المشروعة واللامشروعة على حساب الشعوب والأفراد والعالم برمته الذي أوحلته في مستنقع من الفقر والفساد والتجويع والبطالة، وأذاقته الويلات لسنوات يتلوها سنوات.

في السابق شُرِّدَ ملايين من العمال في جميع أنحاء العالم نتيجةً للأزمة الاقتصادية العالمية، وبينما ارتفعت أعداد المشردين في الولايات المتحدة، ظلَّت المباني السكنية الحديثة فارغةً، حتى أن بعضها كان يُهدَم لعدم وجود ربح من تسكينهم فيها، وأُهدِرَت تريليونات الدولارات على مصانع ومشاريع بناء تظلُّ إلى الآن غير مكتملة، وتريليونات أخرى أُهدِرَت من أجل إنقاذ الأغنياء من أزمتهم.. تلك هي النتيجة الحتمية للنظام الرأسمالي!

ولكن هل يمكن لأزمة جائحة كورونا الحالية أن تكون هي بشير لزوال الرأسمالية وانتهائها؟!
يبقى هذا السؤال مطروحًا، ولعلَّ الأيام والشهور القليلة المُقبلة هي من ستجيبنا عليه ولا سيما بعد تزايد أعداد الضحايا على نحو مضطرد في شتى بلاد العالم، مع عجز دائم للدول الكبرى الرأسمالية مثل أمريكا في التصدي للأزمة.

ولكن في الحقيقة هناك سؤال أكثر أهمية وهو ما يشغل بال الاقتصاديين والساسة في العالم وهو: ما النموذج الاقتصادي البديل الذي يمكن طرحه؟ وهل يستطيع إنقاذ العالم من هذا الوباء والدمار الذي خلفته الرأسمالية حتى رمقها الأخير؟! فها هي تستمر في قبحها بالتغاضي عن البشر وعن الإنسانية ويخرج أكبر ممثليها في العالم الرئيس الأمريكي ترامب ليصرح مؤخرًا بأنه لا يمكن الاستمرار في فرض الحظر على البلاد، بسبب انهيار الاقتصاد والبورصات، وبالفعل تمضي الشركات الكبرى المهيمنة في استمرارية العمل بالأسواق، غاضة الطرف عن عَدّاد المصابين والمتوفين المتزايد يومًا بعد يوم جراء هذا الوباء، مساهمة بالنصيب الأكبر من إغراق العالم في مستنقع البطالة والجوع والفقر الذي أحل بالقطاع الأكبر من العمال والموظفين.

ونحن نؤكد على ما أشار إليه العديد من الاقتصاديين المنصفين سابقًا أنه لا يوجد أفضل من النظام الاقتصادي الإسلامي بديلًا، والذي يتمثل في تفعيل وتطبيق العديد من الوسائل والأدوات والتي منها على سبيل المثال لا الحصر: مصارف الزكاة، والإنفاق، والمرابحة، والتكافل، والوقف، والصدقة، والخراج، والجزية وغيرها الكثير.
والإسلام على عكس الرأسمالية التي لا تعترف إلا بالملكية الفردية وتقدسها، أو الشيوعية التي لا تعترف إلا بالملكية العامة وتقدسها، جاء ليقر ثلاث أنواع من الملكيات: الملكية العامة والخاصة وملكية الدول، وهي في مجملها ملكية اعتبارية للإنسان، فالملكية الحقيقية هي لله الواحد القهار (وَلِلهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَإِلَىٰ اللهِ الْمَصِيرُ).

وفي هذا الصدد تقول الباحثة نعيمة شومان، في كتابها “الإسلام بين كينز وماركس وحقوق الإنسان في الإسلام”: “يتميز الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي بأركان رئيسية ثلاثة تختلف عن سائر المذاهب الاقتصادية الأخرى وهي: الملكية الفردية المزدوجة، والحرية الاقتصادية في نطاق محدود، والعدالة الاجتماعية”.

 كما أنه يتوجب على كل مجتمع من المجتمعات أو بلد من البلدان صناعة النموذج الاقتصادي الخاص به والذي يلائمه، مع مراعاة الاعتماد بشكل أساسي على موارده وثرواته الطبيعية وحسن استغلالها، والتوزيع العادل لها، وتطبيق منهج  الله وشريعته في الأرض قولًا وعملًا، فلا سبيل ولا مناص للخلاص إلا بإقامته، حينها فحسب يتحقق وعد الله لنا: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ).

المصادر

معتصم علي

كاتب ومنشئ محتوى إبداعي، طالب علم مهتم بشأن الأمة، وقضايا المسلمين

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لقد ابدعت في السرد والتوضيح والشرح لدرجة كبيرة جدا، ويجب أن نركز نحن الان على إبراز أثار هذا النظام الذي دمر كل القيم الإنسانية وجعل من الانسان مجرد اله او مادة وسيلة للعمل لصالح زيادة ثروة اصحاب رؤوس الأموال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى