فضيلة الصدق تتجاوز مجرّد قول الحقيقة

هذا المقال ترجمة بتصرف لمقال: The virtue of honesty requires more than just telling the truth لكاتبه: Nigel Warburton في موقع: psyche.co. الآراء الواردة أدناه تعبّر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبّر بالضرورة عن تبيان.

إن الصدق فضيلة، لا أحد يُجادل في هذا. وهو امتيازٌ في الشخصية، كما أنه يعزز الثقة، ويُنمي العلاقات الصحية، يقوي المنظمات والمجتمعات، ويمنع كثيرًا من الأذى.

للأسف، لقد فُقدت هذه الفضيلة في العقود الأخيرة، وغابت إلى حدٍّ كبير في المجال الأكاديمي، كما يبدو أن الصدق قد أصبح نادرًا في المجتمع، ولم يعد يُضمَّن -في العادة- في المباحث التي مقصدها أن تجعل الإنسان شخصًا أفضل.

ما هو الصدق؟ كيف يرتبط الصدق بالنزاهة والشجاعة واللباقة؟ هل يُفضّلُ لنا أن نكون صادقين على الدوام؟ وكيف يمكن أن يفشل المرء في أن يكون صادقًا؟ هذه أسئلة مهمة، لكنك سوف تُنهك إذا ما رُمت البحث عن هذه الأسئلة في نقاشات العلماء. في مجالي -وهو الفلسفة- على سبيل المثال، فخارج نطاق عمل فريقي، هناك مقالتان فقط عن الصدق تم نشرهما في الخمسين عامًا الماضية.

إذًا ما هو الصدق؟ إنها سمة شخصية تقودنا إلى التفكير والشعور والتصرف بطُرقٍ صادقة. دعونا نركز على التصرّف للحظة؛ بطبيعة الحال، الصدق هو نقيض الكذب، لكنه أوسع نطاقًا بكثير؛ إن الصدق نقيضٌ للغش، والسرقة، والحنث بالوعد، والتضليل، والمضايقة، والنفاق، والكذب على الذات، وغير ذلك من أشكال الإساءة. إنه نقيضٌ لهم جميعًا، وبالتالي فهو واسعٌ للغاية، ومؤثرٌ جدًّا في نطاقه.

فيمَ تشترك كل هذه السلوكيات؟ ما هو جوهر الصدق الذي يُمكِّنُه من تغطية كل هذه المساحة الواسعة من الأرضية الأخلاقية؟ الجواب -في اعتقادي- هو أن السلوك الصادق هو مسألة إبقاء الحقائق كما هي؛ كما يراها الشخص الصادق، وعدم تشويهها عن قصدٍ في نظره.

على سبيل المثال؛ التلميذ الذي يكذب على والديه فيما يخصُّ درجاته في المدرسة، إنه يحرف أداءه الأكاديميّ عند والديه عن قصد. أو الرياضيّ الذي يستخدم عن قصدٍ مادةً محظورة، إنه يحرِّف حقيقة أدائها عندما ينسبه لمجهوده الذاتي، وليس إلى مساهمة المادة التي يتعاطاها.

الصدق

يرتبط السلوك الصادق بكيفية رؤية الشخص للعالم والحقائق كما يفهمها. إذا كان شخص ما يعتقد حقًّا أن الأرض مسطّحة، فإنه عندما يُبلِّغ شخصًا ما بهذا الاعتقاد، فإنه يكون صادقًا، على الرغم من كون العبارة خاطئة. ولو قال إن الأرض كروية، لكن يتصرف بعدم صدق، وبطريقة غير شريفة، رغم أن العبارة صحيحة.

هذه معالمٌ قليلة عن التصرف بصدق. والآن، ماذا عن الدافع؟ لكي تكون شخصًا فاضلًا لا يكفي أن يكون سلوكك جيّدًا؛ قلب المرء وراء هذا العمل مهم أيضًا، والصدق ليس استثناء. قول الحقيقة -حتى عند المرء الذي عُرف عنه ذلك- لن يكون تعبيرًا عن فضيلة الصدق إذا كانت النية خلفها نيْل إعجاب الآخرين، أو تجنب العقاب، أو لتحصيل المكافآت الأخروية.

في الواقع -من وجهة نظري- أي دافعٍ للفضيلة خلفه المصلحة الذاتية، فهو غير مُعتَبر. قدّم الفيلسوف إيمانويل كانط ملاحظة مماثلة عندما ضرب المثل بصاحب البقالة الذي يعرض سِلَعه بأسعارٍ عادلة، حتى عندما تُتاح له الفرصة لزيادة الأسعار، كأن يزوره زبون غافل مثلًا.

يدّعي كانط أنه إذا كان السبب الوحيد لعدم خداع صاحب المتجر لزبائنه هو قلقه بشأن خسارتهم إن هم اكتشفوا ذلك، فستكون هذا حالة فُعِل فيها الصواب لسبب خاطئ. هذه النقطة ذاتها تنطبق على أي دافع آخر خلفه المصلحة الذاتية.

إذًا ما الذي يمكن اعتباره سببًا صحيحًا للسلوك الصادق؟ هناك مجموعة متنوعة من الدوافع منها:

  • دوافع المحبة، على سبيل المثال: أقول لك الصدق لأنني أهتم لأمرك.
  • دوافع العدالة، على سبيل المثال: لن أغش في الاختبار لأنه لن يكون من العادل أن أنال علامةً لا أستحقها.
  • دوافع الصداقة، على سبيل المثال: لأنك صديقي، وأحفظ هذه الحرمة.
  • دوافع الواجب، على سبيل المثال: لأنه من واجبي أن أقول الحق.
  • دوافع الصدق، على سبيل المثال: لأن الصدق يتطلب ذلك.

إذا قال شخصٌ ما الحقيقة بدافع من هذه الأسباب، فمن الصعب التشكيك في شخصية هذا الشخص. هي أسبابٌ مختلفة إلى حدٍّ ما، لذلك أعتقد أنه يجب أن نكون تعدديين هنا، وأن نسمح لأي من هذه الأسباب أو كلها بأن يُحسب على أنه دافع صادق يدفع الشخص الصادق للتصرف بصدق.

هناك الكثير مما يمكن قوله حول ملامح هذه الفضيلة. لكنني قد قلت بالفعل أكثر مما قاله معظم العلماء منذ فترةٍ طويلة.

إليكم سبيلًا آخر نعلم منه أن فضيلة الصدق قد ضاعت، وأنها أصبحت نادرةً اليوم. يمكنك أن تستنتج هذا من نشرة الأخبار المسائية، أو من تجربتك الخاصة، لكنني مهتم بشكل خاص بما يمكن استنتاجه عن طريق البحث التجريبي في علم النفس والاقتصاد السلوكي. في مجموعة متنوعة من التجارب المختلفة -مثل تقليب العملة، والاختبارات الذاتية، وغيرها من مقاييس السلوك الصادق- يُظهر المشاركون بانتظامٍ نمطًا من السلوك لا يتناسب مع توقعاتنا عن الشخص الصادق.

على سبيل المثال؛ في إعدادٍ تجريبي شائع الاستخدام لتقييم الغش، يُعطى المشاركون 20 مشكلة في اختبار الرياضيات، ويُقال لهم إنهم سيحصلون على مقابلٍ ماديّ عن كل إجابةٍ صحيحة، في دراسة أجرتها ليزا شو وزملاؤها، كان المقابل هو 0.50 دولارًا عن كل جوابٍ صحيح. في الاختبار الأول، لم تكن هناك أي فرصة للغش، وسجل المشاركون 7.97 من أصل 20. وفي الحالة التجريبية الثانية، أصبح للمشاركين إمكانية تقييم أنفسهم، وأُعطوا حرية الغش إن هم أرادوا ذلك، سجل المشاركون 13.22 من أصل 20؛ وهذا فرقٌ كبير جدًا.

الصدق

لنأخذ مثالًا آخر، أجرى كريستوفر برايان وزملاؤه مسابقةً أونلاين، يقوم المتشاركونَ فيها بتقليب عملة معدنية 10 مرات، مع حصولهم على دولارٍ في كل مرة سقطت العملة على “الرأس”. كان متوسط الأداء 6.31 مرة، وهذه نتيجة عالية جدًا. حتى عندما تم تحذير مجموعةٍ أخرى من المشاركين من الغش، وطُلب منهم أن يبلغوا عن أي حالة غش يروْنَها، وأُعلِموا أنه حتى القدر الضئيل من الغش قد يقوض الدراسة، كانت المتوسط لا يزال 6.22، ليس بعيدًا عن الأول.

كيف تتوافق هذه النتائج مع توقعاتنا حول الصدق؟ الشخص الصادق لن يغش في المواقع التي يكون فيها قادرًا على الغش، حتى لو كان الغش ضامنًا للحصول على بعض الفوائد. هذا ما قد تتوقعه من شخص نزيه، ولكن هذا ليس ما نراه يحدث في هذه النتائج.

هذا وثيق الصلة بالمخاوف الأخيرة بشأن أزمة نسخ التجارب والبيانات المزورة. كما هو الحال في العديد من مجالات علم النفس، فشلت بعض دراسات الغش عندما حاول بعض الباحثين إعادة التجربة. على سبيل المثال؛ وجدت دراسة معروفة سابقًا أن استحضار المرء للوصايا العشر فعّالٌ في الحدِّ من الغش، لكن هذه النتيجة لم تصمد عندما حاول تكرارها باحثون في 19 مختبرًا. علاوة على ذلك، زعمت دراسة أن عملاء شركات التأمين سيكونون أكثر صدقًا في تقارير الشركة إن هم وقّعوا في أعلى النموذج بدلًا من أسفله، وقد حصلت الدراسة على موثوقية كبيرةٍ قبل أن يُكتَشف أنها كانت دراسة مُزَوّرة.

مرة أخرى، هذا هو السبب في أنه من المهم جدًا عدم الاعتماد على دراسات قليلة عند محاولة التفكير في مدى صدق الأشخاص، ونأمل أن تكون الأنماط الأوسع نطاقًا هي التي تقدم البيانات الموثوقة.

أخيرًا، هذه قصة حول ما يميل إليه غالبية الناس، إنها تعتمد على متوسط الأداء، لكن المتوسطات يمكن أن تغطي بعض السلوكيات الاستثنائية. لذلك، قد نكون في حالة منحنى الجرس، عندما يكون هناك بعض الأشخاص الذين يتسمون بالصدق الشديد، والبعض الآخر بالنقيض الحاد من ذلك، في حين أن البقية منا في مكان ما في الوسط. علاوة على ذلك، يجب أخذ هذه القصة لتطبيقها في المقال الأول فقط على سكان أمريكا الشمالية وأوروبا؛ لأنهم يميلون إلى المشاركة في هذه الدراسات. لكن القصة قد تنطبق أيضًا على مقامٍ أوسع، لكن ليس لدينا ما يكفي الآن لنقوله.

بافتراض أن الكثير منا ليسوا أشخاصًا صادقين في ظروف مختلفة، وبافتراض أن الصدق هو فضيلة مهمة يجب أن ننميها في أنفسنا والآخرين، فمن المهم اتخاذ خطوات عملية للقيام بذلك. وهنا مكان ثالث اختفت فيه فضيلة الصدق. لقد قيل القليل جدًا عن استراتيجيات النمو في الأمانة، وحول اختبار هذه الاستراتيجيات لمعرفة ما إذا كانت ناجحة حقًا.

فيما يلي ثلاثة اقتراحات أولية قد تكون مثمرة، ولكنها تحتاج أيضًا إلى تأكيد تجريبي. يبحث المرء عن أمثلة عن الصدق ويريد أن يفهمها بشكل أفضل. يمكن أن تكون هذه نماذجًا تاريخية مثل أبراهام لينكولن، أو معاصرين مثل أحد أفراد الأسرة أو صديق أو زميل في العمل أو قائد للمجتمع الذي يعيش فيه. يمكن أن يؤدي الإعجاب بالنماذج التي يحتذى بها على صدقهم إلى الرغبة في محاكاة هؤلاء الأشخاص لجعل شخصيتنا تعكس شخصية النماذج بشكل أفضل. يمكن أن يكون التفاعل المستمر مع النماذج عادةً أكثر فاعلية من التفاعلات لمرة واحدة، ويمكن أن يكون للنماذج التي يمكن الارتباط بها والتي يمكن تحقيقها تأثير أكبر من نقيضها.

اقتراح آخر؛ هو أن يكون لدينا تذكير أخلاقي منتظم بالصدق في حياتنا. يمكن لمثل هذه التذكيرات أن تجعل معاييرنا الأخلاقية بارزة، بحيث تعمل بنشاط أكبر ضد الرغبة في الغش أو الكذب أو السرقة. يمكن أن تتخذ تذكيرات الصدق مجموعة متنوعة من الأشكال؛ بما في ذلك اليوميات والقراءات والعلامات ورسائل البريد الإلكتروني. يمكن أن يكون هناك أيضًا تذكيرات مؤسسية، تُقابلنا في العمل أو المدرسة. أحد هذه التذكيرات الأخلاقية في العديد من المدارس هو ميثاق الشرف؛ الذي يتعين على الطلاب التوقيع عليه قبل إجراء الاختبار. وهناك بعض الأدلة التجريبية الأولية على أن مثل هذا التذكير يمكن أن يكون فعالًا في منع الغش.

بالعودة إلى البحث الذي أجرته شو، طلبت هي وزملاؤها من مجموعات من المشاركين إجراء اختبار الرياضيات بعد قراءة أو التوقيع على ميثاق الشرف. عندما كانت هناك فرصة للغش، أحدث ميثاق الشرف فرقًا: المشاركون الذين لم يقرأوا ميثاق الشرف أعطوا أنفسهم متوسط درجة 13.09 من 20؛ وأولئك الذين قرأوا ميثاق الشرف فقط حصلوا على 10.05؛ بينما سجل أولئك الذين قرأوا ووقعوا على ميثاق الشرف 7.91 (وهي درجة واقعية للاختبار، تشير إلى أنهم لم يغشوا على الإطلاق). في فصولي الخاصة، نقرأ جميعًا ميثاق الشرف بصوت عالٍ قبل أن يوقعه الطلاب ويبدأوا الاختبار.

الصدق

الاقتراح الأخير هو مخالفة رغبتنا في الغش، وهي رغبة يمكن أن تكون قوية بشكل خاص عندما نعتقد أنه يمكننا أن نغض وأن ننجو من العقوبة مع تحصيل فوائد من عملية الغش. يبدو أن هذه الرغبة تتأجج في دراسات مثل تلك التي أجرتها ليزا شوف وكريستوفر برايان المذكورة سابقًا، ويمكننا جميعًا التعرف على اللحظات في حياتنا عندما أثرت علينا أيضًا. تتمثل إحدى الطرق المباشرة لمحاولة السيطرة على الغش في التعزيز من مراقبة الغش وفرض عقوبات أشد على من تثبت إدانتهم. على سبيل المثال؛ مع الانتقال في التعليم نحو الاختبارات المنزلية أثناء جائحة COVID-19، أصبحت المراقبة الحاسوبية التي يخضع لها الطلاب عملًا تجاريًا كبيرًا، وإن لم يخلُ من إثارة عدد من المخاوف الأخلاقية والنفسية.

قد تكون زيادة الرقابة وتشديد العقوبات على عمليات الغش فعالة في كبح السلوك غير النزيه، على الرغم من أن هذا أيضًا ادعاء تجريبي يحتاج إلى مزيد من الدراسة. ولكن، حتى لو كان الأمر كذلك، فهذا لا يكفي لتعزيز فضيلة الصدق، كما قلت سابقًا، الدافع مهم أيضًا. هنا سيكون الدافع لعدم الغش هو تجنب العقوبة؛ وهذا دافع خلفه المصلحة الذاتية البحتة، بينما حاولت أن أكون حذِرًا للغاية بشأن ما يمكن اعتباره دافعًا صادقًا، هذا دافع لا يمكن اعتباره كذلك.

بدلًا من ذلك، يمكن أن تتضاءل الرغبة في الغش بطريقة أكثر فضيلة من خلال تعزيز الفضائل الأخرى جنبًا إلى جنب مع الصدق؛ مثل الصداقة والحب. إذا كان شخص ما صديقي حقًا، فأنا أريد ما هو الأفضل له، حتى لو كان ذلك على حساب مصلحتي الشخصية. وبالمثل، إذا كنت أحب الآخرين وأهتم بهم بعمق، فأنا أشعر بالقلق حيال مصلحتهم. كلما كانت الصداقة والحب أعمق، قل احتمال كوننا غير أمناء مع الآخرين لتحقيق مكاسب خاصة بنا.

كودري محمد رفيق

من الجزائر، أكتب في الدين والفكر والتاريخ، أرجو أن أكون مِن الذين تُسدُّ بهم الثغور.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. حياكم الله
    القضية محسومة في مثل هذه القضايا الأخلاقية، حيث الأساس فيها يعود إلى الـأسرة وطريقة التربية والنشأة الأولى. فالطفل أبو الرجل، كما قيل، ومن تطبع على شيئ عاش عليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى