مراجعة كتاب صعود الإسلام السياسي في تركيا

كتاب صعود الإسلام السياسي في تركيا The Rise of Political Islam in Turkey تأليف أنجل رابسا وستيفين لاربي، هذا الكتاب في منتهى الأهمية أصدرته مؤسسة راند عام 2008 ولم يتم ترجمته حتى الآن!!

تُعتبر مؤسسة راند من أخطر مراكز البحث الأمريكية المقربة من مراكز اتخاذ القرار في أمريكا وتتبع البنتاجون، الكتاب جاء كمحاولة لتوضيح الرؤية حول حزب (العدالة والتنمية) وذلك بعد فوزه في انتخابات 2007 للمرة الثانية على التوالي.

التقرير وضع تنبؤات وسيناريوهات مختلفة تتعلق بمستقبل الحزب وأداء حكومته برئاسة أردوغان وقد جاءت تنبؤاته دقيقة بشكل مذهل! على خلاف كل تقارير راند في حديثها العدائي والمحذر من (الإسلام الراديكالي) تجد هذا الكتاب متعاطفًا جدًا لما اعتبره “إسلامًا معتدلًا” في تركيا، بل ويدعو لدعمه مع وجود الحذر الخفي منه أيضًا.

يكشف الكتاب جانب مهم من العقلية التحليلية التي يعتمد عليها صناع القرار الأمريكان: فهي عقلية “عملية” جدًا ولا تهتم بالشعارات ولا يهمها مطلقًا -بخلاف العلمانيين المحليين- النيات الداخلية للأفراد! هم يتعاملون بواقعية مطلقة ويقيمون الواقع والمستقبل وفق المعطيات الموجودة.

أزعم أن التقرير أو الكتاب من أدق وأهم ما كُتب عن تجربة أردوغان في تركيا رغم أنه كُتب في 2008 بل لم أجد شيئًا مكتوبًا عن “التجربة الأردغانية” يستحق القراءة غيره! الغرض الأساسي من تحليل مثل هذه التقارير هو الوقوف على ما يراه الغرب ويخطط له مع الاستفادة قطعًا من منهجهم التحليلي بل ومن تحليلاتهم نفسها، وأتمنى أن يتطوع أحد بترجمة هذا التقرير كما حدث مع التقرير السابق “سرقة دفتر خطط القاعدة”.

سأقسم تحليل هذا الكتاب إلى أربعة عناوين:

  • تعريف “تركيا” من وجهة نظر الكتاب.
  • حزب “العدالة والتنمية” من وجهة نظر الكتاب.
  • أربع سيناريوهات أمام التجربة الأردوغانية لتحديد مستقبلها.
  • ست اعتبارات مهمة لأمريكا في التجربة الأردوغانية.

تعريف تركيا سياسيًا بحسب الكتاب

  • تركيا هي دولة ذات أغلبية مسلمة ومع ذلك هي:
  • دولة علمانية ديموقراطية.
  • عضو في الناتو.
  • عضو مرشح في الاتحاد الأوروبي.
  • يوجد على أرضها قاعدة (إنجرليك) الجوية الأمريكية والتي تعد قاعدة رئيسية في الحرب الأمريكية في العراق وفي أفغانستان.
  • تركيا دولة محورية جدًا للاستراتيجية الأمريكية في تأمين منطقة “الشرق الأوسط” بل ومنطقة البلقان والقوقاز.
  • أهمية تركيا اليوم لم تُكتسب من موقعها الجغرافي فقط ولكن أيضًا من نموذج التعايش المشترك الذي قدمته بين الإسلام وبين الديموقراطية العلمانية والعولمة والحداثة.

حزب العدالة والتنمية من وجهة نظر الكتاب

هو حزب لا يعرّف نفسه أنه حزب إسلامي مطلقًا، ولا يعلن اتّباعه لأي أجندة إسلامية، ولذلك فوزه في الانتخابات لا يعني حتى عند الجماهير التركية أي انتصار “للأجندة الإسلامية”، والحزب يختلف تمامًا عن أسلافه “الإسلاميين” اختلافًا جذريًا في الأيديولوجية، والأهداف السياسية، وكذلك يختلف من حيث توجهه نحو الاقتصاد الرأسمالي المنفتح، ويختلف من حيث الجمهور الذي يستهدفه، ويختلف في نظرته للغرب وخطابه لهم، فحكومته قد جعلت من أولى أولوياتها تحصيل عضوية الاتحاد الأوروبي.

أربع سيناريوهات أمام التجربة الأردوغانية لتحديد مستقبلها

وضح البحث أربع سيناريوهات لتوقع (مستقبل حزب العدالة والتنمية) لاحظ أن هذا كان في 2008! ووضع أكثر (سيناريو) متوقع في المقدمة، وهذه هي الأربع سيناريوهات:

السيناريو الأول: أن يسلك حزب العدالة والتنمية مسار الاتحاد الأوروبي المعتدل

طبقًا لهذا السيناريو -فقط- سيتمكن أردوغان وحزب العدالة والتنمية من المحافظة على السلطة والبقاء فيها! وذلك عن طريق الحفاظ على النهج المعتدل الذي يمثل التوجه الذي يريده الاتحاد الأوربي، في هذا السيناريو سيحدث الآتي (لاحظ أن هذا قيل في 2008).

ستقل وتتلاشى صور المعاداة للمظاهر الإسلامية، وسيعطي الحزب مساحة أكبر من الحرية الدينية للأفراد وسيتمكن أصحاب التوجه الإسلامي من الإعلان عن هويتهم الإسلامية. إلا أنه في الوقت نفسه لن يكون هناك وجود مطلقًا لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية داخليًا، وأما خارجيًا فلن تؤثر النزعة الإسلامية مطلقًا على سياسات تركيا الخارجية، وهذا هو ما يهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي من تركيا.

كذلك من المتوقع في هذا السيناريو أن حكومة العدالة والتنمية برئاسة أردوغان ستسعى لتحجيم التدخل العسكري في السياسة وستزيل كثيرًا من الحواجز المفروضة حول الأقليات الدينية المختلفة. وقد رجح التقرير هذا السيناريو جدًا (وهو ما حدث فعلًا بالضبط).

 السيناريو الثاني: الزحف الإسلامي

هذا السيناريو هو السيناريو المرعب للعلمانيين، وهو سيناريو يفترض أن حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان يمتلك أجندة إسلامية خفية غير معلنة وعدائية، وأنه يحمل خطة لأسلمة المجتمع التركي ستظهر بتوليه السلطة، كما سيقوم بالسيطرة على السلطتين التشريعية والتنفيذية، وسيصبح الحزب حينها بتوجه إسلامي معلن هو المتحكم في تعيين القضاة ورؤساء الجامعات والإداريين بل وسيتحكم في القرارات الشخصية داخل الجيش، كما أنه على مستوى السياسات الخارجية لن يسعى للانضمام للاتحاد الأوروبي بل سيسعى في إنشاء وتأسيس (تكتل إسلامي) جديد في العالم خاصة مع إيران وسوريا، وهنا يلمحون إلى شيئين:

الأول: إلى أن تركيا بحسب هذا السيناريو ستتحول كإيران وسوريا فيما يسمى معسكر الممانعة، فتأخذ توجهات عدائية للولايات المتحدة وإسرائيل.

الثاني: ويشير أيضًا هذا السيناريو إلى البدء الجاد في إعادة بناء الخلافة (تكتل إسلامي) أي بعبارة أخرى لن تصبح تركيا في هذا السيناريو “دولة علمانية” وستبدأ في هدم الأصول الأتاتوركية، وقد قلل البحث تمامًا من قيمة هذا السيناريو الوهمي، واعتبره غير وارد، ولم يُلق له كبير اهتمام.

ملاحظة: هذا السيناريو الوهمي هو الذي مازال بعض السذج يتحدثون عنه حتى الآن متغافلين أن هذا كان تخوفًا مطروحًا كاحتمال ضعيف في الكتب الأمريكية من ٦ سنوات!، ولكن الحزب حدد مساره أمام الجميع.

السيناريو الثالث: إلغاء حزب العدالة والتنمية عبر المحكمة الدستورية

هذا سيناريو قد يراه العض حلًا للأزمة وقد يعمقها أكثر، خاصة وحزب العدالة والتنمية يتمتع بتأييد شعبي واسع في تركيا، كما أنه سيناريو قليل الأهمية حيث أن الحزب سيكون قادرًا للعودة إلى السلطة مرة اخرى عبر الانتخابات تحت اسم جديد!

السيناريو الرابع: الانقلاب العسكري

صورة من الانقلاب العسكري الفاشل والذي حصل في تركيا عام 2016.

وهو سيناريو لا يتوقع التقرير أن يحدث مادامت حكومة العدالة والتنمية لم تتخط النقاط الرئيسية التي تهم الجيش.

إضافة مني: هذا السيناريو تحقق في مصر ليس للاختلاف بين فكر الإخوان في مصر وفكر حزب (العدالة والتنمية) ولا أعتقد أن “الانقلاب” في مصر وراءه أسباب أيديولوجية، الحقيقة من وجهة نظري هي اختلاف الجيش في مصر عن الجيش التركي، فالجيش في مصر لا يحمي النظام فقط وقيمه، بل يحمي إمبراطوريته الاقتصادية والتي لا شك أن طموحات الإخوان قد تصادمت معها وقد ظهر ذلك جليًا في مشروع قناة السويس بالذات.

ست اعتبارات مهمة لأمريكا تتعلق بتركيا وتجربة حزب العدالة والتنمية بحسب الكتاب

قاعدة إنجرليك الجوية الأمريكية.

الأول: تركيا اليوم هي مثال رائع في إثبات إمكانية تحديث منطقة “الشرق الأوسط” سياسيًا بدون الحاجة للانخراط في العنف والانقسامات التي صاحبت عمليات التحديث الأخرى (يقصد التدخل الأمريكي في أفغانستان والعراق) فوجود حكم له مرجعية إسلامية في منظومة علمانية ديموقراطية، ويحترم هذا الحكم فصل الدين عن الدولة سينهي أسطورة تعارض الإسلام مع العلمانية والديموقراطية.

بينما لو فشلت هذه التجربة فهذا سيصب في مصلحة (الإسلام الراديكالي) وستفشل أمريكا في احتواء انتشار هذا التيار، وستزيد حدة التوتر والصراع بين الإسلام والعلمانية ولن يكون هناك فرصة لبناء مساحة رمادية ومنطقة متوسطة بين الأيديولوجيتين.

ولذلك حتى خارج تركيا يجب أن تدعم أمريكا وجود امتدادات لهذه الفكرة عن الإسلام والتي تصب في صالح هزيمة المتشددين، إلا أنه من المهم جدًا أن يحذر صناع القرار في أمريكا من وصف تركيا علنًا “بالنموذج” الذي يجب أن يُحتذى به في “الشرق الأوسط”، لأن إعلان ذلك ربما سيزيد من مخاوف العلمانيين والجيش، حيث سيتعبرونه بمثابة تدعيم لهوية تركيا الشرق أوسطية على حساب هويتها الغربية.

الثاني: تنامي قوة “الإسلام السياسي” في تركيا جاء نتيجة عوامل داخلية، على رأسها التحولات الديموقراطية والاقتصادية الاجتماعية داخل تركيا خلال العقود الماضية، وغياب أمريكا عن هذه المساحة تسبب في ذلك، وهذا يوضح أهمية أن تبدأ أمريكا في زراعة نخب جديدة ومتنوعة لملء هذا الفراغ.

الثالث: من السطحية رؤية التوتر الحادث في تركيا على أنه صراع بين الإسلام والعلمانية، هو في الحقيقة جزء من صراع على السلطة بين القطاعات الاجتماعية الناشئة حديثًا والنخبة العلمانية القديمة، والتي لها جذور في المجتمع التركي العثماني والحديث أيضًا.

ففي عام 1980 أصبح هناك شيء من الديموقراطية في تركيا سمحت لقوى كثيرة تم استبعادها في الماضي (ومن ضمنهم الإسلاميين) من إعادة تنظيم نفسها ونشر وجهات نظرها وآراؤها السياسية.

وكأن التقرير يريد أن يقول إن زمن العلمانية الجافة التي حكمت تركيا بالإقصاء وبحد السيف قد انتهى، وقد جاء دور علمانية جديدة تتصالح مع الجميع ولا تقصي أحدًا وهي علمانية أردوغان.

الرابع: حزب العدالة والتنمية هو حزب له جذور إسلامية، لكنه استطاع أن يحظى تأييدًا بين شرائح مختلفة في المجتمع التركي، فعبر شبكة علاقاته الاجتماعية تجد له تأييدًا من الطبقات الفقيرة والمهمشة، وفي الوقت نفسه يحظى بتأييد طبقات اجتماعية أخرى عبر سياسته الاقتصادية الليبرالية المنفتحة التي تدعم حرية السوق وتنهج نهجًا متلائمًا مع الاقتصاد العالمي، كما أنه استطاع أن يكسب تأييدًا داخل الأقليات عبر إعطائهم قدرًا من الحرية والتسامح.

الخامس: في العقد الماضي خضع حزب (العدالة والتنمية) لتحول أيديولوجي، حيث تخلى عن الخطاب العدائي تجاه الغرب والذي كان يميز أسلافه، وانتهج في خطابه نهجًا آخر يؤكد على القيم المتسقة مع المجتمعات الغربية، كما ظهر هذا التحول الفكري والأيديولوجي من موقف الحزب من الانضمام للاتحاد الأوروبي.

فقد كان قديمًا الذين يدعمون هذا التوجه هم الكماليون (نسبة لكمال الدين أتاتورك) في ظل رفض إسلامي لتغريب تركيا واليوم من المفارقات أن (حزب العدالة والتنمية) ذو الجذور الإسلامية أصبح هو من يتبع خطوات إصلاحية وجادة في السعي للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي في ظل تخوف الكماليين والجيش من أن ينصب ذلك في إضعاف قبضتهم السلطوية!
وبالرغم من كون أمريكا ليست عضوًا في الاتحاد الأوروبي إلا أنها تدرك كيف تؤثر في إدارة هذا الملف، ويرى البحث أن فشل تركيا في دخول الاتحاد الأوروبي قد يعزز من تلك النظرات المعادية للتوجه الغربي داخل تركيا، وكأنه يحث أمريكا على التدخل لصالح ضم تركيا للاتحاد الأوروبي.

السادس: علاقة تركيا “بالشرق الأوسط” هي أخطر ملف تهتم به الإدارة الأمريكية، فتركيا بها أهم قاعدة جوية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وهي قاعدة (إنجرليك)، ولا يمكن للولايات المتحدة أن تستغني عن تسهيلات تركيا العسكرية لها، ولذلك يُخشى من أن امتداد المصالح التركية داخل الشرق الأوسط قد يؤثر على هذه التسهيلات خوفًا على مصالحها، وإن كانت أمريكا قادرة حينها على الضغط على تركيا بعدة طرق.

ولذلك أوصى التقرير بضرورة توطيد أمريكا علاقتها (بحزب العدالة والتنمية) بل أوصى التقرير صراحة بضرورة دعم حكومة أردوغان في مواجهاته ضد حزب العمال الكردستاني وهجماته الإرهابية، ورأى ضرورة أن تقدم أمريكا للحكومة التركية الدعم الاستخبارات والعسكري الكامل في هذه الحرب.

كان هذا هو وجهة نظر الكتاب المهم عن حزب العدالة والتنمية وليس رأيي الشخصي، وما كان إضافة مني فقد نبهت لذلك أثناء التحليل.

ختامًا

ملاحظة: الواضح من التقرير السابق لزمنه أن هناك توجه غربي لعدم إفشال تجربة أردوغان بخلاف الخطة الأمريكية تجاه “الإسلام السياسي” في باقي دول “الشرق الأوسط” فخطة أمريكا في البلاد الأخرى كانت إيصالهم للسلطة من أجل إفشالهم وحرقهم ولذلك لم يتم اتخاذ موقف حاسم مع ما يسمى “الانقلاب” في مصر، وهو موقف مختلف عما يحدث مع التجربة التركية لأنهم لا يعدونها تجربة إسلامية أصلًا!

أحمد سمير

ناشط ومهتم بالشأن الإسلامي والعالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى