مشروع ماحية الأميّة

لقد فاجأني كثيرا وربما أظهر غفلتي سؤال تلك المرأة المسنّة وأنا ألقي محاضرة الأسبوع عن الجنة في أحد مساجد المسلمين، كان سؤالها لي صادما حينما تساءلت بحرقة واضحة وبرغبة شديدة في البكاء، وهي تقول: وهل سنرى ربنا في الجنة يا بنيتي!! ولعل ما هالني أكثر، ليس تأثرها بهذا التفصيل المذهل عن الجنة ولكن تلك الحسرة التي رأيتها في عينيها وكأنها تقول: كم أنا جاهلة!  نعم فحرقة الجهل بالمعلومة كانت قاتلة لتلك المرأة المسنة المسلمة تجلت ملامحها حزنا وكآبة في حين لخص وصف عينيها قصة فجيعة!.

الشاهد من هذه القصة أن أمتنا تعاني الكثير من الثغرات وبحاجة للكثير من البذل في كل المجالات ومع كل الطبقات والشرائح الاجتماعية، والمسنّات اللاتي لم يحظين بتعليم كافي ولا دعوة وافية بحاجة لأن تنبري لهن فارسة من فارسات الإسلام تمحو عنهن كل أثر للأمية وتخصص من وقتها ما تستدرك به ما فاتهن وكان مهما.

كم هو جميل أن تسابق الشابة المتعلمة لفتح دار محو للأمية فتجمع كل من حولها من مسنّات وتحتضن جهلهن لتقلبه معرفة وعلما. لست مطالبة بفتح دار لمحو الأمية بالضرورة كما تعكسه الجملة من وصف، بل ما تعكسه من معنى، إذ يمكنك أن ترصدي المسنات اللاتي بحاجة لمساعدة ولو كانت واحدة فقط، وتعطيها من وقتك ما يكفي لإنارة دربها وذهنها وقلب أيامها سعادة وهناء ببركات المعرفة والعلم.

هناك مسنّات لا يعرفن القراءة ولا الكتابة، وهناك أخريات لا يعلمن شيئا عما ينتظرها إن تعدت عتبة الدنيا! هناك من تتصدق ولكنها لا تدرك حقيقة عظيم الأجر الذي ينتظر المتصدقة المخلصة، الكثير من الشرح والتوضيح والتفسير والتعليم في يدك أنت لتقدميه لهذه الجدة أو الأم التي لم تحظ بما منّه الله عليك من معرفة وإن كانت بسيطة.

لا تستهيني بالوقوف على هذا الثغر وتذكري دوما، (إنما الأعمال بالنيّات)، و(لن تؤمن حتى تحب لأخيك ما تحب لنفسك)، و(سرور تدخله على قلب مسلم)! هذا ميدان مسابقة بلا شك ويحتاج لصبر وقلب معطاء وروح حنون تبصر أن كل زرع تزرعينه في هذا الاتجاه سيعود عليك بالخير والبركات، كما أنك ستصبحين مسنة في يوم ما، إن كتب الله لك طول عمر، فستتذكرين عملك الصالح أكثر من أي شيء، وهو الذي سيكون عزاءك بعد أن يكسو الشيب شعرك وتضعف قوتك وينطفأ نور شبابك.

باختصار إنك الآن في مرحلة الاجتهاد ولا أروع من المساهمة في الاهتمام بما يهمله أغلب الناس أو يستثقلونه أو يتجاوزونه، والأجر على قدر المشقة والأجر بصدق النيّة.

قد تقول قائلة ولكن النساء المسنات طبعهن صعب ومراسهم ليس بالسهل وقد نواجه صعوبة في التعليم، قلت لكل باب مفاتيح ، فابحثي مفاتيح المسنات. ثم اعلمي أن في صحبتهن ستتعلمين الكثير أنت أيضا وأن صداقتهن ستخفف عليك عبأ عقبات التعليم، والأهم من ذلك هو أساليبك في التلقين، عليك أن تبسطي المفاهيم لأسهل ما يكون وأن تستعملي التعابير المفهومة لديهن ودعيك من التعقيدات التي ستخلق الوحشة في قلوبهن وربما ينفضضن من حولك لأنهن يشعرن بزبادة جهل.

انزلي لمرتبتهن في العلم وارتفعي لمرتبة التوقير والاحترام في السن. راوحي بين الفكاهة والجدّ، بين الترغيب والترهيب ، بين التسميع والتصوير، فأنت إن رسمتي لإحداهن رسما يشرح أمرا ربما سيرسخ في ذهنها أكثر من عدة محاولات للشرح، كما أن بث روح الأمل والتفاؤل وإسعاد قلوبهن سيغير الكثير الكثير في نفسيات التلقي لديهن. فاعتني بهذا الجانب وكوني القدوة في تعاملك معهن.

ثم اعلمي أنك في هذا الثغر لست فقط تعلمين وتنيرين عقولا بنور من الله، فأنت الداعية والمعلمة، بل أنت أيضا تؤدين دور البرّ بكبار السنّ في مجتمع مسلم يوقر ذي الشيبة ويتواصى بالخير وصلة الرحم، وقد كان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه،  وهو الخليفة يزور امرأة مسنّة في بيتها قد فقدت البصر،  فيعمل على إخراج القمامة منه وخدمتها دون أن تعلم شيئا عمن يكون، ولولا مسابقة عمر رضي الله عنه وحرصه على أن يعلم أي خير سبقه إليه صاحبه ليستدرك، لما سمعنا ربما عن هذه القصة الرائعة في برّ المسنين والمرضى والتواضع لله والمسابقة في الخيرات لحرص الخليفة على كتمان خبر صنيعه. فرضي الله عن صحب محمد صلى الله عليه وسلم وجمعنا بهم في مستقر رحمته.

كانت هذه الفكرة ولك أنت الحرية في تطويرها كما شئت المهم أن تساهمي في إرساء الخير والعلم في المجتمع المسلم وأن تقفي على ثغر من ثغوره المهمة فيجود عطاءك بالبركات على شريحة من المسلمات تستحق التوقير والاحتضان.

وفي الحقيقة تقدر أهمية ما نعمله بحسب نظرتنا لهذا العمل،  فقد تجدين من يميط أذى عن الطريق وبالنسبة له فإن هذا المشروع عظيم عظيم، ذلك لشدة تعظيمه لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ولشدة طمعه فيما عند الله، فكل حسب نظرته لأهمية بذله وكل ونيّته! لهذا فبعض الناس يبلغ المراتب العلا بسبب نواياه التي تطمح للأفضل دائما وإن صعبت الطريق أو تعذرت الأسباب، قال تعالى (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون). وانظري لعظمة هذا الدين حينما يؤجر المرء بحسب صدقه، فمن الناس من يسبّح تسبيحة واحدة تكون في الميزان أثقل من آلاف التسبيحات من غيره، فهل يدفعنا هذا إلا لإتقان عبادتنا وأعمالنا والإخلاص في نوايانا وعطاءاتنا.

ثم لا يعني هذا أن يصاب المرء بالعجب والغرور بل بقدر تعظيمه لأدائه أو عمله بقدرما يشعر بشعور التقصير الذي يدفعه دائما لمزيد من العطاء والبذل، إنها معادلة رائعة، نشعر بأهمية عملنا فنزيد في وتيرة عطاءنا التي تزيد أيضا بزيادة شعورنا بالتقصير. فتأملي معي كيف يصل العطاء ذروته!

والآن بعد أن تجلت لك أهداف المشروع الجديد، فإن وجدت في نفسك إقبالا فلا تتأخري وإن وجدت في نفسك ترددا فقلبي صفحات المشاريع التي أبسطها لك لاشك أنك ستجدين ضالتك في مشروع ما. المهم في النهاية أن تشغلي وقتك بما ينفعك وينفع أمتك.

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى