ظاهرة الهجوم على الإسلام بالسخرية.. تحليل وتأسيس

ها نحن في وقتنا هذا نرى كلَّ يوم تماديًا وتفشِّيًا جديدًا للسُّخرية من الإسلام العظيم؛ سخرية تزداد رقعتها وتمتدُّ من رؤساء الأقوام إلى أدنيائهم وبالعكس، سخرية تتطور من طور الإخفاء والتستُّر إلى طور الإفشاء والتبجُّح، بل المواجهة بها وجهًا لوجه. ثمَّ تطوَّر الأمر إلى إيجاد منظومة دفاع مُمنهَج عن السُّخرية من الدين الإسلاميّ. ومن هذه النقطة ننطلق لتفكيك شيء من ظاهرة السُّخرية ومحاولة الاقتراب من بنيتها لتحليل وفهم أبعاد هذه الظاهرة الخطيرة. ولتوضيح نقطة اشتباك عظمى يجب توضيحها وهي التي سنطلع عليها سويًّا في البدء.

توضيح السُّخرية من الإسلام.. الفكرة ومَحلَّاتُها

إنَّ أوَّل فكرة تستحقّ الاهتمام في موضوع السُّخرية من الإسلام هي ما يمكن تسميته “الفكرة ومَحلَّاتها”. فالإسلام دين أيْ عقيدة يعتقدها الناس وشريعة يسير المسلمون عليها طالما كانوا مسلمين. وبما إنَّ الدين عقيدة فهو في الأصل فكرة، والأفكار -في الأصل أيضًا- تُهاجَم في ذاتها مثل كلّ المعارك الفكريَّة التي دارت وتدور وستدور في الفلسفة والأدب وغيرهما. هذا هو الطريق الأوَّل للهجوم “الانقضاض على الفكرة نفسها”. وتكون هذه الطريق للأفكار التي ليس لها حِمًى أيْ ليس لديها مَن يدافع عنها، أو التي تمتلك مَن يدافع عنها لكنَّ الجميع يقبل أنْ تُنال وتُهاجم بلا خلاف أو بلا استشعار بالحرج إلا في نفس مُعتنقها. ككلِّ المذاهب الأدبيَّة والفلسفيَّة والمدارس التاريخيَّة والنظريَّات. 

أمَّا الطريق الثاني الذي يلجأ إليه مَن لا يستطيع سلوك الطريق الأوَّل فيكون في حالات: منها أنْ تكون الفكرة التي يُهاجمها داخلة في حيِّز التقديس مثل سائر الاعتقادات والأديان، أو أنْ تكون لها قوَّة تحميها مثل “الشيوعيَّة” مثلا عند الشيوعيِّين، و”العَلمانيَّة” في الدول المُغالية في النهج العلمانيّ. أو أنْ يتفق الحالانِ -أنْ تكون الفكرة مُقدَّسةً وأنْ تكون ذات حمًى- مثل الإسلام في دول قوَّته المتعاقبة -حتى لمْ يبقَ له جامعة تجمع المسلمين تقف دونه- أو كالكيان الصهيونيّ المحتلّ الذي يمتلك القدرة على إيذاء كلّ مَن يفكر في الاقتراب من مقدَّساته -والكيان الصهيونيّ دولة دينيَّة قائمة على أساس عقائديّ-.

وإذا سألنا ما هي الطريق الثانية في السخرية والنَّيْل من العقائد والأفكار؟ فسنجد الإجابة في شرح نقطة اشتباك يجب شرحها. وهي أنَّ الفكرة أصلاً طَيْف في الذهن يحوم وليست مادة تُمسَك وتُدرَك بالحواسّ الخمس. أيْ أنَّ الفكرة -حال كونها فكرةً مُجرَّدةً- أقصى تلاحُم معها هو وُرُودُها في الذهن، أو على الألسُن. ولا بُدَّ لهذه من مَحَلّ تكون فيه في التصوُّر البشريّ؛ وهذه المَحَلَّات تكتسب أمام النقد قوَّة الفكرة المُجرَّدة. لذلك نرى حديث الدول الأوربيَّة عن “المساس بالعلمانيَّة” أو “الإضرار بمبدأ الجمهوريَّة” أو “الاستهانة بالعقد الاجتماعيّ”.

كلُّ هذه التعبيرات تأتي من أفعال ماديَّة على أشياء ماديَّة رغم أنَّ كلّ هذه التُّهَم تعبِّر عن أفكار في الأصل. وإذا سألنا: لماذا هاجمتْ الدولة الأوربيَّة الشخص أو الجهة بحُجَّة الهجوم على فكرة وضح أمامنا أنَّ لكلّ فكرة مَحَلًّا. يكتسب هذا “المحلّ” احترام الفكرة المُجرَّدة وينتقل إليه هذا الاحترام ومُقتضياته. أحببتُ أن أمثِّل بالدول الأوربيَّة حتى يكون المَثَل حُجَّةً على قائله ومُنتهِكه.

وبالعموم نعود فنقول إنَّ الهجوم على أيَّة فكرة لا بُدَّ له من طريقَيْن: إمَّا الهجوم على الفكرة بنفسها دون أيَّة أقنعة أو مُداراة وإمَّا الهجوم على محلّ الفكرة أو مُتمثَّلَاتها في الواقع الحقيقيّ. والحال الثانية تكثر كُلَّما كانت للفكرة قوَّة تحميها. ومثالاً على هذا ميراث أدبيّ ضخم من الهجوم على السياسة والحُكم؛ فهل كان الأديب يسخر أو ينال من الحاكم باسمه أو يُعيِّن النظام؟! بالقطع لا لسبب بسيط هو أنَّ هذا سيُعرِّضه لمَهلَكَة عظمى قد تودي بحياته. بل كان ينتقل إلى كلّ ما في الواقع نفسه من آثار للحُكم ومُتعلَّقات به وإلى كلّ ما يقترب منه ويتمثَّل فيه من قريب أو بعيد. هو في الأصل لا يريد الواقع لذاته، بل يريده ليسخر وينال من الفكرة الأكبر التي لا يستطيع أنْ يهاجمها صراحةً.

ما ذكرناه قبلاً نُطبِّقه على الإسلام؛ فماذا يفعل هذا الاتجاه الذي يريد السخرية من الإسلام. يسلك طريقَيْن: إذا كان بعيدًا عن سُلطة المسلمين يسخر سخرية فجَّة وصريحة من الفكرة نفسها وأصولها مثل السخرية التي نراها في العالم الغربيّ من القرآن أو إله المسلمين أو النبيّ الأكرم -صلَّى الله عليه وسلَّم-. يفعل هذا وهو لا يخشى سلطة المُسلمين، ويرتكن في الأساس على ضعفهم وعلى استضعاف الناقطين باسمهم أو تواطُئهم.

وإذا كان تحت حُكم الإسلام أو في بلاد الإسلام أو بين سمع وبصر المسلمين يلجأ إلى الطريق الثانية: السخرية من مَحَلَّات الفكرة بدلاً من الهجوم المُباشر عليها لاتقاء الشَّرّ الذي سيقع، أو لضمان استمرار هذا النشاط، أو حتى للتفنُّن في السخرية منه. 

الفارق بين مَحَلّ الفكرة ورَمزها

هناك فارق بين مَحَلّ الفكرة ورمز الفكرة. فرمز الفكرة هو أقوى مَحلَّاتها والذي يُحاط بأكبر قدر من الاحترام الذي يصل إلى حدّ القُدسيَّة. وتعنى القدسيَّة الاحترام الأشد الذي يحول دون تقبُّل التجريح في الشيء المُحتَرَم. ولكلِّ إنسان شيء مُقدَّس -مهما كان هو- حتى لو كان إنسانًا حيوانيًّا إلى أقصى درجة مُمكنة، لا يؤمن بشيء فيكون مُقدَّسه شخصَه وجسمَه. فلا إنسان يخلو من مُقدَّس كائنًا مَن كان. ومقدَّسات الإسلام ورموزه منها القرآن الكريم والرسول.

أمَّا المحلّ فهو مُتلَبَّسات الفكرة ومُتمثَّلاتها الملموسة الذي يتعامل معها الشخص. مثال على ذلك: “هيبة الدولة” التي نسمع عنها في الاتهامات “فكرة”، تُنال بإحداث عمل ماديّ من شأنه الإساءة إلى محلَّات هيبة الدولة.

ما هي مَحلَّات الإسلام

من محلَّات الإسلام التي يستخدمها هؤلاء: التراث الإسلاميّ الشرعيّ؛ سواء في هذا الاستهزاء أو السخريَّة من شيء منه أو فيه، أو السخرية منه كلِّيَّةً دون تفرقة وأخذه جُملةً واحدةً بما يفيد في حقِّه التسفيه أو الاحتقار أو الانتقاص. يفعل الفاعل هذا وعينُه على الفكرة لا وعينُه على التراث؛ فما همُّه من الانتقاص من كتابٍ كتَبَه مُؤلِّفٌ منذ ألف عام أو يزيد؟! بل إنَّه يقصد الفكرة التي لا يستطيع السخرية منها مباشرةً، بل يسخر من مبانِيْها ولَبِناتِها لَبِنَةً بعد أخرى.

ومن محلَّات الإسلام لغته؛ فاللغة العربيَّة هي البوابة الأولى والأخيرة للإسلام. وما معارك الشراسة والاستِئْساد التي دارت رحاها حول اللغة العربيَّة إلا طعنًا خفيًّا في الإسلام ومَدخله الرئيس لكتابه وسُنَّته وكلّ تراثه. واللغة العربيَّة هي المثال الأفضل في هذا الأمر. والحُجَّة التي تُشتَهر ويصرخ في أذنَيْك صاحبُها: أنا لا أهاجم الإسلام بل أهاجم اللغة! .. ومن ذلك هجوم الأديب الشهير “طه حسين” على اللغة في تاريخها بتجربة كتابه “في الشعر الجاهليّ” فقد كان الأمر يصبّ لا محالة في التشكيك في أمر الدين نفسه لا لُغته كما يُدَّعى.

ومن محلَّات الإسلام علماؤه الذين قاموا عليه في كلّ المجالات، وجهدوا كلّ الجهد في خدمته. وكذلك ناشروه من الدُّعاة إلى الإسلام. ومن محلَّاته أيضًا بعض مُجاورات تشريعاته مثل السبحة واللحية وغيرهما.

ترميز السُّخرية للمَسخور منه الأداةُ الأشدُّ فاعليَّةً

وهنا نقف لنكشف الآليَّة التي يستخدمها هذا الذي يتَّجه إلى السُّخرية؛ ألا وهي ترميز -أيْ صُنع رمز- هذه المَحلَّات. ويعني هذا إضفاء صفة الإسلام على محلَّاته وإحلاله بها عن طريق الارتفاع بالمَحلّ إلى درجة الرمز الصريح والمُباشر.

مثالاً حتى يتضح الأمر الحديث أو تناول أمر اللحية والجلباب والسبحة والسجادة وخطيب المسجد والمأذون وغيرها ثمَّ الانتقال في أثناء النقاش إلى الإسلام نفسه لا إلى المحل لتكريس الربط الصريح والمباشر بالإسلام حتى تتوحَّد هذه الوسيلة أو المَحلّ بالفكرة نفسها؛ وهنا فقط يستوي الهجوم على مجرَّد محلٍّ للفكرة بالهجوم على أصلها نفسه وهو الإسلام. وهذا نراه في تراث ضخم من الأفلام العربيَّة التي توالتْ جهودها حتى أضفتْ صفة الرمزيَّة على المحلَّات السابقة لتكون رمزًا للإسلام.

ولعلَّ هذا الأسلوب ليس غريبًا بل هو الأسلوب الأساس في المذهب الرمزيّ في الأدب والفنّ عمومًا. ومن ذلك إذا أردنا التمثيل قصائد الأستاذ الشاعر الكبير “أحمد شوقي” في “ديوان الأطفال” الذي يحتوي حكايا عن حيوانات الغابة مليئة بالفُكاهة والحِكَم. هذا في الظاهر لكنَّه على الحقيقة نقد مرير لحُكم وحاكم، واستهزاء فاضح بدائرة الحُكم كلّها. وذلك عن طريق المُشابهة والربط بين صفات هذه الحيوانات وطبيعتها (الحمار الجهل، الثعلب المكر) بالشيء المَرموز له. فهل يأتي على عقل أحد من القرَّاء أنَّ الأستاذ شوقي يريد أنْ يعيب الحمار لأنَّه يكره شكله أو الأرنب لأنَّه يأكل جزره مثلاً؟! بالقطع لا إنَّه يعيب التمثيل الذي يكمن فيه والرمز الذي صنعه.

بماذا صنعه “شوقي” وبماذا يصنعه الساخرون من الإسلام الآن؟ من خلال صُنع رباط قويّ بين محلّ الفكرة والفكرة نفسها عن طريق إبراز الاقتران الدائم بين الاثنين. ومن تكريس هذا الاقتران سيبدأ الذهن دومًا في ربط آليّ بين الفكرة ومحلّها حتى يتوحَّدا تمامًا. فيسهل بعد ذلك على الساخر النيل من الفكرة. والتبرير جاهز: أنا لا أسخر من الفكرة بل من مجرد شيء! .. فهذا هو الأسلوب الأكبر لهم.

وتمثيلاً -حتى نكون مُلامِسِين للمعركة الدائرة- الهجوم والسُّخرية من “صحيح البخاريّ” أو من “الإمام ابن تيميَّة” في الكتب والحوارات التلفازيَّة، والسُّخرية من العلماء وناشري العلم كالسُّخرية من إذاعة القرآن الكريم أو من الأزهر، وكذلك السُّخرية الدائمة من عالِم الدين في الأفلام. كلُّ هذا وسيلة نيل واستهزاء بالفكرة نفسها لا بالمحلّ.

ولعلَّ السائل يسأل؟ هل كلّ ذِكر أو نقاش لشيء من المحلَّات السابقة يعدُّ هجومًا على الإسلام نفسه، أليس هذا مبالغة وجورًا؟ .. والجواب واضح فليس كلّ ذكر أو تناول لهذه المحلَّات هجومًا على الإسلام بالقطع. يتوقَّف هذا على مدى احترام المُهاجم أو الذاكر للمحلّ، وعلى هدفه الذي يهدف إليه -أقصد كلا الهدفَيْن المُصرَّح به وغير المُصرَّح به الذي يُستَشَفّ-، وأيضًا على وجود حالة عامَّة مثل الحال الآن التي أصبحت مُمهَّدةً لمثل هذه العمليَّات الهجوميَّة. ودليل التفرقة على حسب السلوك أنَّ هذه المحلَّات السالفة تُتناوَل بالنقد والتفنيد والتحليل والعرض المستمرّ دائمًا وأبدًا في داخل المجال العلميّ ولمْ يشكّ أحدٌ في أحدٍ في ظلّ سلوك قويم في التناول.

تاريخ ظاهرة السُّخرية من الإسلام

جُون بَابتِيسْت بُوكْلَان المُلقب مُولْيير، مؤلف كوميدي مسرحي، وشاعر فرنسي.

ولعلّ تاريخ هذه الظاهرة قد بدأ في التفشِّي منذ نهاية القرن التاسع عشر مع حلول آثار التغريب على العالمَيْن العربيّ والإسلاميّ، وبدء السير على خُطا الغرب. من ذلك أذكر مسرحيَّة للأستاذ “محمد عثمان جلال” قدَّمها عام 1873م، اسمها “الشيخ مَتْلُوف” -أيْ من التَّلَف- وأصل هذه المسرحيَّة مسرحيَّة أخرى للكاتب المسرحيّ الفرنسيّ الشهير “مُوليير” اسمها “تَرَتُوف” فحرَّفها المُعرِّب إلى “الشيخ مَتْلُوف”. وفيها بدء الاستهزاء بشخصيَّة “الشيخ” وبدء التكريس لترميز -سيأتي فيما بعد بالقطع- لشخصيَّة خطيب المسجد أو العالِم للإسلام نفسه.

ثمَّ توالتْ مئات من الأعمال المكتوبة والمُمثَّلة التي تسير على نفس النَّهج لتُكرِّس لهذا الترميز وصناعة الرمز الإسلاميّ في محلَّات الإسلام. ولعلَّ جميعنا يذكر شخصيَّة شيخ القرية -التي مثَّلها حسن البارودي- في فيلم “الزوجة الثانية” بصوته وهو يردِّد الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ) -النساء 59-، وترسيخ فكرة ضلال ومؤامرة عالم الدين.

وكلنا نذكر في أمر “المِسبحة” المشهد الشهير الذي يقول فيه المُمثل “فريد شوقي”: “أين سبحتك يا معلم؟”، وتكريس شعور المُشاهد أنَّ كلّ هذه المظاهر تدلّ على النفاق لا على الصلاح، وأنَّ جميع مظاهر الدين نفاق واستتار بغشاء رقيق لفعل كلّ قبيح، ويستتبع هذا حلول الفكرة نفسها على الدين نفسه. إلى أنْ وصلنا إلى عصر التبجُّح الذي نحن فيه فصار الكلام على المحلّ وعلى الفكرة نفسها.

الخطَّة المُمنهَجَة للدفاع عن السُّخرية من الإسلام.. مُغالطة التقديس

ولنْ نكون قد تعرَّضنا إلى هذه الظاهرة إلا بتناوُل الجانب الآخر منها؛ وهو سلوك الدفاع عن هذه الظاهرة من جانب المُؤيِّدين لها. فبعد الدفاع المُستتر البسيط الذي يأتي على استحياء بدأ المُدافعون عن السُّخرية من الإسلام بانتهاج منهج منطقيّ احترافيّ.

هذا المنهج المنطقيّ -أو بدقَّة المُتلاعِب بالمنطق- هو ما يُمكن أنْ أسمِّيه بـ”مُغالطة التقديس” التي ينحو فيها المدافع إلى رمي كلّ عائب للتسفيه والسُّخرية بتُهمة هي تقديس المحلّ. فيُباغِت من أمامه فيقول له: إذا أنتم دافعتُم عن البُخاريّ معناه أنَّكم تقدِّسون البخاريّ، وإذا دافعتُم عن إذاعة القرآن الكريم فمعناه أنَّكم تقدِّسون الإذاعة. ويستعين في ذلك بالصوت العالي وبسلوك التشهير، وبحصرك منذ البدء في خانة الاتهام مع أنَّه هو المُتَّهَم بدفاعه عن استهزاء وسخرية.

وواضح أشدّ الوضوح ما في هذا السلوك من مُغالطة؛ فليس الدفاعُ عن أيّ شيء تقديسًا له وإلا لصار الدفاع عن المُتَّهَم تقديسًا له! وكذلك ليس ردّ الاعتداء تقديسًا بأيّ حال من الأحوال. ولنتماشى مع الآخر في رأيه ولنُسلِّم به: أيْ بأنَّنا نقدس -في زعم مضحك- صحيح البخاريّ مثلاً فماذا تريد منِّي في ذلك؟! ما شأنُك أنتَ ألستَ تدافع عن فكرة أو شيء فلِماذا تُنكر عليّ دفاعي وأنتْ تُهاجمني أصلاً؟! -ولعلَّنا نرى أثر منهج الصهاينة في هذا السلوك الذي نراه اليوم- وبالعموم فهناك دائمًا لأيَّة فكرة مُؤيِّد ومُعارض فلماذا يُسمَّى سلوك المُعارض فعلاً شرعيًّا وممارسةً للحقّ وسلوك المُدافع تقديسًا لها؟!

ولا يخفى أنَّ استخدام “مُغالطة التقديس” نوع من الإرهاب الفكريّ الذي يُمارسه المُدافعون عن السُّخرية ضدّ المُسلمين. ومن كثرة استخدام هذه المغالطة وشيوعها بدأ الجوّ العامّ في المجتمع العربيّ في تقبُّلها بالفعل والانصياع لها. ونظلُّ في هذه الدائرة المُفرغة التي يُخادعون بها البُسطاء -في ظلّ أجواء كُليَّة تتسم بالجهل العامّ والجهل بالديانة- فيُقنِعونهم بأنَّ دفاعهم أو تفكيرهم في الدفاع عن الحقّ أو عن رأيهم المُجرَّد -حتى لو افترضنا الإسلام مُجرَّد رأي في نظر غير المقتنع به- جريمةٌ ليس لهم أنْ يقترفوها. وهذا الوضع العامّ يدلّ دلالة واضحة على المرض المُجتمعيّ المُتفشِّي الذي نحن فيه الآن.

آثار السُّخرية من الإسلام وأهله

باختصار هي:

  1. إسقاط هَيبة الدين من نفوس المسلمين.
  2. تشجيع غير المسلمين على الانقضاض على الإسلام وأهله.
  3. إعطاء الذين يريدون النَّيْل من الإسلام مُبرِّراتٍ لذلك -وإنْ كانت وهميَّة-؛ فمَن يريد الشرَّ بكيان لنْ يدقِّق في تحقيق الأمور، بل سيقلب الحقّ باطلاً.
  4. صناعة جوّ عامّ رُوحُه النُّفُور من الديانة.
  5. تكريس رُوح الكراهية والعدائيَّة في المجتمع الواحد مِمَّا يؤدي إلى تفكيكه وتحزُّبه.
  6. الحضُّ المُباشر والصريح على كراهية الإسلام في العالَم، والعمل على إحداث حالة “الغُربة” مع الإسلام.
  7. المُشاركة بالتسهيل في إيجاد حالة الإلحاد وانتشارها.

دوافع السُّخرية من الإسلام

باختصار هي:

  1. نتاج عقود من مجهودات التغريب التي أدَّتْ إلى نفور الكثير من روح الإسلام وتشريعاته وإرادتهم التخلُّصَ من تلك القيود -التي يرونها قيودًا-.
  2. جهود الغرب المُتتالية في المسارات العُظمى: الاستشراق والتبشير بالمسيحيَّة ونشر الإلحاد بين المسلمين.
  3. استرضاء الغرب وسرعة الوصول إليه ومن ذلك الكتب والروايات التي تدخل حيِّز العالميَّة -لا أقصد الجميع بالقطع-، وكذلك الأفلام العربيَّة التي تدخل المهرجانات العالميَّة -وغالبها كذلك- فكلاهما له خطَّة واحدة هي إعابة الإسلام والسُّخرية منه والنَّيْل من مُقدَّساته وتسفيه أمره.
  4. إرادة الشُّهرة بين الناس؛ فكلُّ كاتب أو صاحب رأي مغمور يرى أنَّ رمي عقيدة القوم سبيل إلى جني شهرة بأسرع طريق مُمكن.

جدليَّة السُّخرية من الإسلام

ولا يمكن إنهاء الحديث إلا بذكر هذه الجدليَّة. وأعني بها العلاقة بين نتائج هذه السخرية -المذكورة سابقًا- وبين دور هذه النتائج في إذكاء وعي زائف أكبر عن الإسلام ومُقدَّساته يساعد هو بدوره على قبول مزيد من السخرية ومزيد من التكريس لها. أيْ أنَّ هناك علاقة بين سلوك السخرية ونتائجه وبين توليد مزيد من السخرية على نطاق أوسع.

نداء للمسلمين وغيرهم

ويجب هنا أنْ يعلم كلّ مُسلم أنَّ الاستهزاء بالله -تعالى- أو بكتابه أو برسوله أو بعقائده أو بشرائعه مُدخِل للمسلم في حيِّز الكُفر الصريح ومُخرج له من دائرة الإسلام أصلاً. فليحذر كلٌّ مِنَّا في هذا الأمر حذرًا بالغًا. وليس الاستهزاء وحسب بل نقله والمُساعدة فيه والمُشاركة له والاحتفاء به. يقول الله -تعالى-: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) -التوبة 66،65-.

وإلى غير المُسلمين احترم غيرك ليحترمك، ولا تتوقَّع من غيرك الجميل وأنت تصنع الفاحش له. وهناك حوارات ما أكثرها وأطولها بين المسلمين وغيرهم في التاريخ التزم الطرفان فيها بالاحترام -رغم الاختلاف الشديد في الرأي- فما أنكرَ أحدٌ على أحدٍ شيئًا. فهناك فارق بين أنْ تتناول شيئًا بالنقاش وأنْ تعمد إلى شيء لتهدمه. 

عبد المنعم أديب

باحث في الفكر الإسلامي والفلسفة. صدرت له كتب أدبيَّة، ومئات المقالات في العالم العربي وخارجه.… More »

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى