تأثير نظرية المؤامرة على فكر العوام في الغرب

من منا لا يصدق بوجود نظرية للمؤامرة في حياتنا، كيف لا وإبليس تآمر على أبينا آدم وأخرجه وحواء من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليرهما سوءاتهما. إن من السذاجة في الحياة عدم التصديق بوجود مؤامرات تُحاك لأمتنا وديننا في الشرق والغرب على مدى الأزمان، وقد تدل مثل هذه السذاجة على أن صاحبها لا يبالي لأمر الدين وما يلقاه اليوم من تحديات.

وقد قال الله تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)، والحديث الذي اشتهر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -على الرغم من ضعفه: “من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”، وقال عمر رضي الله عنه: “لست بالخب ولا الخب يخدعني”.

لكن بعيداً عن طرحنا الإسلامي الذي نعتز به، نحاول أن نركز في هذا المقال على طرح النظريات المؤامرة لدى الغرب وتأثيراته وأسبابه لديهم، خاصة بعد أن أصبح الخطاب المؤامراتي ظاهرًا على أعلى المستويات الغربي. وهنا نود أن نشير إلى أن مصطلح نظرية المؤامرة أشبه ما يكون بمفهوم “الزعم” لدينا، أيْ أن أي محاولة لتفسير أحداث من منطلق وجود قوى خفية هي معرضةٌ للاتهام بالكذب لدى وسائل الإعلام الغربية الرسمية، بحيث يحاول الكثيرون من متصدري تلك النظريات في الغرب تبرئة نظرياتهم من هذا المصطلح، أو حتى التحقيقات الصحفية التي تُعد نزيهة في معايير الغرب تجهد لتبرئة عملها من هذه التهمة.

في الوقت الذي أؤمن بسذاجة الفكر الرافض للفكر التآمري بالكلية، أجد صعوبة لدى أي وسيلة غربية رسمية في مجرد تقبل وجود حقيقي لأي مؤامرة، حتى في الماسونية والمنظمات التي على شاكلتها على الرغم من أنها إلى اليوم منظمات سرية وموجودة في الغرب وتجاهر بفرض السرية على منتسبيها.

لكن ينبغي الإشارة في الفترة الأخيرة، إلى تخمة الإعلام الرسمي الغربي بظهور الخطابات المؤامراتية، حتى على ألسنة كبار سياسي الغرب (وهنا لا أستلزم صحة تلك النظريات، فالكثير منها أسخف من أن يُناقش وتستحق الوصم “الزَّعْمِي”، ومنها ما هو غثاءٌ سياسي لتشهير بطرفٍ ما) لكنها وصلت إلى أعلى مراتب الشخصيات الغربية من السياسيين والمثقفين والإعلاميين وحتى مشاهير الفن، وبالأخص بعد جائحة كورونا، وهو ما دفع منظمة الصحة العالمية حتى بتسميتها بوباء المعلومات.

فسنتناول في هذا المقال مقدار انتشارها وموجز عن أهم آثارها الوخيمة في الوقت الحالي، وأسباب تصديق الناس لنظريات المؤامرة، عبر ما تصدره وسائل الإعلام الغربية.

لوحظ انتشار نظرية المؤامرة وتناميها في الأوساط الشعبية بنحوٍ صاعق على حد تعبير إحدى مقالات الغارديان عن نظريات المؤامرة. وقد أظهرت إحدى التقديرات لدراسةٍ في جامعة شيكاغو عام 2014، بأن نصف الرأي العام الأمريكي عموماً يؤمن بنظرية مؤامرةٍ واحدةٍ على الأقل، لتكرر الدراسة الإحصاءَ في نوفمبر عام 2018 بنتيجةٍ مرتفعةٍ مقدارها 61% من الرأي العام. وتكررتْ مثل هذه النتيجة المفاجئة في جامعة كامبردج، فقد أظهرت دراستها بأن 60% من البريطانيين مقتنعون برواياتٍ باطلة (حسب الكاتب ويقصد بها مؤامراتية).[1]

وبحسب صفحة المنتدى الاقتصادي العالمي، فالأبحاث تظهر بأن نظريات المؤامرة لها الميل في الانتشار في ظل حلول الأزمات بالمجتمع، مثل الهجمات الإرهابية، أو التغيرات السياسية السريعة، أو الأزمات الاقتصادية. تنتشر نظريات المؤامرة في ظل الشك والتهديدات في سعي الناس لمحاولة فهم العالم الفوضوي. وهي نفس الأوضاع التي تحدثها أوبئة الفيروس، وهو ما يفسر انتشار نظريات المؤامرة التي تخص فيروس كورونا.

حدثت ظروفٌ مشابهةٌ مع وباء فيروس زيكا بين عامي 2015-2016. وكانت هذه النظريات تزعم أن الفيروس سلاحٌ بيولوجي بدلًا من أن يكون مصدره طبيعي. وأظهر بحثٌ فحص تعليقات موقع “ريديت” أثناء وباء فيروس زيكا بأنّ الكلام عن نظريات المؤامرة برز كطريقةٍ للناس لمعاوضة حالة الارتياب الشديدة التي شعروا بها تجاه الوباء.[2]

يصرح عالم النفس الاجتماعي من جامعة أنجيلا روسكين من المملكة المتحدة “فيرين سوامي” بأنّ نظريات المؤامرة: “من الواضح يوماً بعد يوم بأن الكثير من الناس أصبحوا يصدقون تلك النظريات، ولهذا الأمر آثارٌ سلبية”.

يصدق الكثير من الناس حول العالم –بمن فيهم نصف الشعب الأمريكي وفقًا لإحدى التقديرات– بنظريات المؤامرة. واليوم، يرى علماء النفس والسياسة ممّن درسوا هذه الظاهرة بأنّ الرقم أصبح أعلى بكثيرٍ من قبل. صحيحٌ أنّ الباحثين لم يتتبعوا بالإحصاء لهذه الاتجاهات عبر الوقت، ما يصعب تحديد صحّة صعود أعداد الناس المصدقة بنظريات المؤامرة؛ إلا أنّ الخبراء –بمن فيهم الآن من المباحث الفيدرالية– يجادلون بأنّه من المؤكد أنّ معدل تعرض الفرد لنظريات المؤامرة قد تزايد، ويعود جزءٌ كبيرٌ من ذلك لأنّ نظريات المؤامرة اليوم تنتشر بسهولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وأحد أكثر مروجي التضليل على وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، هو الرئيس دونالد ترامب نفسه. فقد كرر ترامب ترويج أكاذيب مستخدمًا حسابه الشخصي على التويتر أكثر من 100 مرة، لإثارة شكوك حول موضوع أضرار تغير المناخ، مناقضًا بذلك الإجماع المطلق للعلماء. وأمضى ترامب سنين وهو يروج لسردٍ كاذبٍ عن عدم ولادة باراك أوباما في أمريكا عبر حسابه في التويتر الذي يتابعه 63 مليون متابع.

وعلى هذا الصعيد قال الباحث من جامعة هارفارد “جوزيف فيتريول”:

اليوم، الشخصية المؤامراتية الرئيسية عبر السنوات العشر الفائتة هو الرئيس الأمريكي، وأضاف: وبسبب هذا الأمر، قد نشهد تزايدًا في التأثير والانتشار لهذه الأفكار.[3]

تأثيرات نظريات المؤامرة

1- تقويض ثقة الناس بالمؤسسات الرسمية

تساهم نظريات المؤامرة في تقويض الثقة بين الشعب والمؤسسات السياسية والعلمية والإعلامية. من الأمثلة على ذلك على الصعيد الطبي وما يتبعها من مؤسسات علمية، تزعم نظريات المؤامرة المناهضة للقاحات بأنّ السياسيين وشركات الصناعات الدوائية يخفون عدم فعالية اللقاحات أو حتى أضرارها؛ وهو ما قد قوض من ثقة بعض فئات الرأي العام الغربي في العلوم التجريبية.

وذكرت عالمة الأنثروبولوجي “إيلا درازكفيكز” في بحثها عن المواقف تجاه تلقيح فيروس الورم الحليمي البشري في إيرلندا. فشرحتْ كيف أن فقدان الثقة في المؤسسات الصحية تسبب بهبوط التلقيح 30% بين عامي 2014 و2017.[4]

كما يعزو الكثيرون لتلك النظريات السبب بصعود حالات الحصبة عالميًا، وتسببتْ بحالات إصابات في الولايات المتحدة خلال النصف الأول من عام 2019 أكثر من عدد الحالات في أي سنةٍ بأكملها منذ عام 1994.

في مارس 2019، قام مراهق أوهايو البالغ من العمر 18 عامًا “إيثان ليندنبرغ” والذي لقح نفسه ضد رغبة أمه المناهضة للتلقيح، بالإدلاء بشهادته ضد مخاطر التضليل أمام مجلس الشيوخ في جلسةٍ نالت مشاهدات كثيرة. وذكر المراهق للمشرعين القانونيين بأن أمه مناهضةٌ للتلقيح واستقت جلّ معلوماتها من الفيسبوك. كان قد أعلن في أمريكا عام 2000 بأنه تم القضاء على مرض الحصبة، وكشف المسؤولون الصحيون زيف المزاعم التي ادعت بأن اللقاحات تؤدي إلى مرض التوحد. إلا أنه أحصي في يناير، 11880 حالة مؤكدة عبر 30 ولاية، وهو الرقم الأعلى منذ 25 عامًا وفقًا لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها الأمريكية.[5]

كتب عالما النفس دانيال جولي وبيا لامبرتي في مقالةٍ حديثة: “بأن نظريات المؤامرة الطبية لها من القوة في زيادة الارتياب في السلطات الصحية، وهو ما قد يؤثر على إرادة الناس في حماية أنفسهم”.

ومثل هذه المزاعم تدفع الناس غالبًا لترك التلقيح أو استخدام المضادات الحيوية، واللجوء أكثر إلى النصيحة الطبية من الأصدقاء والعائلة بدلًا من الأطباء.[6]

انتشرت على نطاقٍ واسعٍ منشوراتٌ على الانستغرام تزعم بأنّ فيروس كورونا عملٌ مدبرٌ من قبل بيل غيتس لصالح الشركات الدوائية. وفي ألاباما، زعمت منشورات كاذبة على الفيسبوك بأن قوى خفية أمرت المرضى بأن يُنقلوا سرًا إلى الولاية. وفي أمريكا اللاتينية، انتشرت شائعات لها نفس القدر من البطلان بأنّ الفيروس مُصمم لنشر الإيدز في إيران. وصور بعض الأفراد الموالين للحكومة بأنّ المرض من تدبيرٍ غربي.[7]

بعيدًا عن اللقاحات وإلى العنف والمؤسسة الأمنية، يظهر التشكيك كذلك في كل حادثة إطلاق نارٍ بجامعات ومدارس في أمريكا لتوجه نظريات المؤامرة أصابع الاتهام بأن تلك الحوادث مدبرة من الحكومة نفسها في سبيل السيطرة على السلاح.

وكما سنورد، فقد تصل إلى اتهام أبرياء بافتعال هذه التمثيليات وتدبيرها، وإقصاء غير المؤمنين منها وهو ما يؤدي إلى أثرٍ نفسيٍ سيء. في مقابلةٍ مع أحد الناجين من حادث إطلاق النار في باركلاند المدعو “دايفيد هوغ” وهو أحد قادة إحدى التجمعات المناهضة لحمل السلاح في أمريكا المسماة March for Our Lives، كشف هوغ عن إحباطه من منظري المؤامرات، خاصةً على إثر دعوات من “أليس جونز” لأن يعترف هوغ بأنّ حادث الإطلاق مفتعل ومُعدّ. وأكد هوغ بأنّه “ليس بممثل أزمات، وأنّه مجرد شخص شهد هذا الأمر ومضى فيه، وسيستمر في ذلك”.

ومع تحول طلاب هذه الحركة لأكبر الأنصار لضبط الأسلحة، فإن الضغوطات تتزايد عليهم. وبعد دخول هوغ للمشفى نتيجة ما أصابه من القلق، فقد اضطر هوغ إلى الذهاب في إجازةٍ لأسبوع كاملٍ بغرض الانعزال عن الحياة العامة للحفاظ على صحته العقلية والهروب من سيل الانتقادات المستمر من منظري المؤامرات والناشطين المناصرين لحمل السلاح.[8]

من الأمور الغاية في الأهمية في مواجهة الأزمات الصحية هي الثقة بالتوصيات الصادرة عن المهنيين والمنظمات الصحية. ولكن من يؤمن بنظريات المؤامرة يرى عمومًا عدم الثقة بتلك المجموعات بما فيها المديرون والسياسيون وشركات الدواء. وإذا انعدمت الثقة فغالبًا لن يلتزموا بالنصائح الطبية.[9]

2- جزء من التلاعب السياسي أو التضليل لمصلحة طرفٍ ما

أندرو جاكسون، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابع بالفترة من 1829 إلى 1837.

مثلما تُلفق نظريات المؤامرة ضدّ الحكومات، فإن السياسيين أنفسهم منذ أمدٍ بعيد تلاعبوا بها لتحقيق مصالحهم الشخصية، وكل ما في الأمر أن موضة نظريات المؤامرة عادت من جديد إلى الظهور في السياسية الأمريكية وبقوة هذه الأيام وبالأخص مع أزمة كورونا. قديمًا، الرئيس الأمريكي الأسبق “أندرو جاكسون” كان من أوائل الأمريكيين الذين استفادوا من نظريات المؤامرة عندما زعم معلنًا عن إحداها عام 1824. كان قد خسر الانتخابات الرئاسية عام 1824 بعد التصويت في مجلس النواب الأمريكي، فاقتنع على الفور بأن “هنري كلاي” قد تلاعب بالتصويت للحصول على منصب كوزيرٍ للخارجية في إدارة آدم. وعلى الرغم من أن الأدلة تناقض هذه النظرية فإن الديمقراطيين من أنصار جاكسون اقتنعوا على الفور بالفكرة وهاجموا النخبة المنتصرة.

لقد كانت خطةً محكمةً وقد أثمرت؛ حيث وصل جاكسون للرئاسة عام 1828. ومن يومها يستخدم السياسيون من كلا الحزبين نظريات المؤامرة بغرض تعزيز ودعم أحزابهم بإثارة المخاوف أو زرع الشقاق بين المجموعات السياسية المختلفة.

ومثل هذه التكتيكات أصبحت في مقدمة وقلب جهود حركة حزب “الشاي”. ففي كفاحهم ضد قانون أوباما للرعاية الصحية وضدّ رفع الضرائب، بدأوا بإثارة كذبة النظرية القائلة بعدم ولادة أوباما في أمريكا. وفي سبيل تعزيز الدعاية الأهلانية[10] وعزل أوباما على أنه أجنبي، فقد زرعوا الشقاق بينه لخلفيته غير الأمريكية (على حد زعمهم) وبين المحافظين من أصحاب عقيدة “أمريكا أولاً”.

ظهر حزب الشاي[11] وكذبة نظرية ولادة أوباما إلى العلن والرأي العام مع صعود ترامب إلى الرئاسة الأمريكية، وقد استعار آخرون أسلوبه لمحاولة الحفاظ على السيطرة. ومع تعمق تحقيقات مولار أكثر وأكثر في ارتباطات ترامب مع روسيا، بدأ هذا الأخير بسرد قصةٍ بديلة بأنّه ضحية تآمر تهدف للإطاحة به على الرغم من براءته. وبهذا التلاعب حقق نجاحًا هائلًا داخل حزبه، إذ يرى الآن 71% من الجمهوريين بأنّ التحقيقات غير عادلةٍ ومجرد تبلٍ وحملة تشهير وفقًا للإذاعة الوطنية العامة الأمريكية.

وانتشرت تلك القصة على شكل موجةٍ عكسية ضد البيت الأبيض والأخبار الزائفة. ولكن البروفيسور في دارتموث المدعو “بريندان نيهان” يذكر بأنّ الليبراليين أصبحوا أكثر عرضةً لتقبل الأخبار الزائفة ونظريات المؤامرة التي تنصر رؤيتهم العالمية الخاصة. ويعود ذلك لنمطٍ معروف؛ فكلما فقدتَ السيطرة السياسية، ازداد تقبلك للتضليل الإعلامي.[12] ونظيره ما شاع في الشعوب العربية من تقبل أي نظرياتٍ للمؤامرة خاصةً مع هزيمة ثورات الربيع العربي.

بالنسبة للسياسيين أنفسهم، فهم لا يحتاجون للإيمان بنظريات المؤامرة، أو إقناع الآخرين بالإيمان التام بالنظريات التي يستشهدون بها. فكما يرى بيرغمان، فالهدف الرئيسي منها هي نشر الخوف، وهذا الأسلوب فعالٌ بغرض حشد الدعم. والمشكلة هي في عدم قدرة السياسيين في التحكم بكيفية تفسير الناس لخطاباتهم المؤامراتية. وقد سمعْنا بالهجمات التي نفذها البيض العنصريون في النرويج والمملكة المتحدة ونيوزيلاندا، فقد نفذها أناسٌ كلهم أخذوا بتهديدات الاجتياح من المهاجرين على محمل الجد.[13]

أيضًا وصل الأمر بتلك النظريات للتراشق على المستوى الدولي والسياسة الخارجية، فقد روج أحد المسؤولين الصينيين مزاعم بأنّ الفيروس أدخله الجيش الأمريكي إلى الصين، وهو اتهامٌ سُمح له بالانتشار في وسائل التواصل الاجتماعي الصينية المُراقبة رقابةً تامة.

في فينزويلا، زعم الرئيس نيكولاس مادورو بأنّ الفيروس سلاحٌ بيولوجي موجهٌ للصين. وفي إيران، زعم المسؤولون بأنّها مؤامرة مدبرة لإسكات الأصوات. وزعمت وسائل إعلام موالية لروسيا –من ضمنها أفرعٌ لها في أوروبا الغربية– بأنّ الولايات المتحدة صممت الفيروس لتدمير الاقتصاد الصيني.

وفي كلٍ من الجمهوريتين السوفييتيين السابقتين تركمانستان وطاجكستان، أثنت الحكومتان على علاجاتٍ وهمية، وجادلوا بأن على المواطنين الاستمرار في العمل.

لكن المسؤولين نادرًا ما أحجموا عن ترويج الشائعات حتى في الدول الأكثر ديمقراطية، وخاصة تلك الدول التي تسبب انعدام الثقة فيها بالسلطات إلى صعود قويٍ للحركات الشعبوية.

وقد كتب أحدهم وهو ماتيو سالفيني وهو رئيس حزب رابطة الشمال الإيطالية الشعبوية المناهضة للهجرة مغردًا على التويتر، بأن الصين اخترعت فيروسًا خارقًا رئويًا من الخفافيش والفئران.

اتهم ترامب من يعتبرهم خصوهم بسعيهم لإشعال وضع فيروس كورنا بما يؤذيه هو. وعندما حدث شحٌ في معدّات الحماية الشخصية بمستشفيات نيويورك، اتهم ملمحًا للعاملين الصحين بسرقتهم للأقنعة. وذهب حلفاؤهم إلى أبعد من ذلك.

أشار السيناتور توم كوتون (الجمهوري من أركانساس) وغيره بأنّ الفيروس من الممكن أن الصين أنتجته في مختبرات السلاح. وزعم بعض وسائل إعلام الحلفاء، بأن أعداد الوفيات يضخمها أعداء ترامب.[14]

يزعم بجيرغ وبريسكورن ثيغيسن (2017) بأنّ نظريات المؤامرة تسبب حالةً استثنائية (بالمفهوم السياسي) وفقًا للمفهوم الذي أشار إليه جورجيو أجامبين (الفيلسوف الإيطالي). فمثلها مثل الإرهاب الذي يقوض الديمقراطية بما يبيحه للدولة من حالة استثناء سياسيةٍ تستخدم فيها تدابير غير ديمقراطية؛ فتعمل نظرية المؤامرة على تقويض الخطاب العقلاني بطريقةٍ تبيح فيها حالةً من الاستثناء المعرفي يُستخدم فيه القياس غير المنطقي.

وهذا القياس يتمثّل بوضع نظريات المؤامرة خارج الخطاب الرسمي العام بوصفها غير منطقية ومجرد نظرية مؤامرة ولا تستحق التفكير الجاد والمدارسة. وبهذه الطريقة تبدو نظريات المؤامرة شكلًا من أشكال الإرهاب المعرفي، لما تقوضه من الثقة في المؤسسات العلمية.[15] وعلق جورجيو أجامبين بالتأكيد على هذه الفكرة مع أزمة فيروس كورونا.

3- دفع العوام ممن يصدقونها لأعمال غريبة ومصادمة للعقل قد تضر المجتمع

يرى الغربيون بأنّ نظريات المؤامرة لما لها من تأثير واستمرارية، تستطيع أن تجرّ المجتمع إلى الخراب. ففي السنوات السابقة، دفعتْ هذه النظريات بما أحدثته من أفكارٍ هامشية أحدَ الأفراد لاقتحام مطعم بيزارا بواشنطن بالسلاح، كما دفعتْ شخصًا آخر لاقتحام كنيس بيتسبيرغ وقتل 11 مصليًا فيها.[16]

وللتفصيل قليلًا في أحداث اقتحام المطعم، ففي عام 2016، اقتحم مسلحٌ مطعم بيزارا في واشنطن، لاعتقاده بوجود حلقة تهريب للأطفال المُستعبدين جنسيًا في المطعم تقودها هيلاري كلينتون، وهي معلومة زائفة نشرها حساب “Q” المجهول، المناصر لترامب. والآلاف من الناس – بمن فيهم الممثلة “روزان بار” تصدق أو تُسلم بهذه الأفكار غير المدعومة لهذا الحساب، والتي بدأت في الرسالة المثيرة للجدل على لوحة 4chan.

ويصرح مكتب المباحث الفيدرالية بأنّ هناك احتمالاتٍ عالية بأنّ نظريات المؤامرة تلهم الإرهابيين المحليين لارتكاب الجرائم وأحيانًا أعمال العنف، وأنها في الفترة القادمة ستبرز وتتطور وتنتشر على منصات الإنترنت وفقًا لمنشور أمني حصلتْ عليه أخبار ياهو. وتصرح هذه الوثيقة -الأولى من نوعها في دراسة تهديدات نظريات المؤامرة التي يروجها المتطرفون– بأنّه من المحتمل أن تثير الانتخابات الرئاسية لعام 2020 نظريات المؤامرة، ما يعطي الدوافع للمتطرفين المحليين التي يصدقونها.[17]

وعلى صعيد التغيرات المناخية، يخبرنا عالم النفس ستيف ليواندوفسكي بأن هناك رابط قوي بين الناس المعتنقين ورفضهم لعلم المناخ. وما يجعل الأمر خطيرًا هي استخدام منكري التغيير المناخي لنظريات المؤامرة لتبرير عدم تقليل انبعاثات الكربون فيقول:حينما تسأل منكري التغير المناخي: “حسنًا، إذا كنتَ لا تعتقد بأنّ هذا الأمر يحصل، فلِمَ يتفق جميع العلماء على هذا الأمر؟” فيردوا بالخطاب المؤامراتي كتبرير لأنفسهم في عدم التصديق.[18]

وجد عالم النفس داينيال جولي كيفية تأثير تلك النظريات على تجاوب الناس مع قضية التغير المناخي فقال: “إن تلك النظريات تقلل من دافعك لتقليل البصمة الكربونية، لما تُشعرك به من خيبة الأمل والعجز. فإن كان الأمر كله مؤامرة، فعلمَ نقلل من بصمة الكربون؟”.

وحسب إحدى المواقع الغربية، فقد وجدوا روابط أخرى بين نظريات المؤامرة والتطرف. فقد أخبرنا عالم السياسة “إيريكور بيرغمان” كيف أن علماء السياسة من الشعبويين يستغلونها، وبالأخص نظرية الاستبدال العظيم. وهي الفكرة القائلة بأنّ السكان البيض في الغرب في خطرٍ من الاجتياح والاستبدال بالمهاجرين من غير البيض.[19]

في الوقت التي ظهرت فيه شائعات عن علاجاتٍ سريعةٍ، مثل مادة الكلور المبيضة المُخففة، أو إطفاء جميع أجهزتك الإلكترونية، أو تناول الموز؛ كلها ظهرت كوعودٍ بالحماية من تهديد فيروس لم ينجُ منه حتى قادة العالم.[20]

تلقي نظرية المؤامرة الجديد باللوم على نظام حزم الجيل الخامس بالتسبب بجائحة كورونا، وهذه النظرية من أشد التضليلات عجبًا. ويوجد من هذه النظرية عدّة نسخ، تتراوح من الزعم بأنّ شبكات الجيل الخامس تغير من أنظمة مناعة البشر إلى القول بأنّها تغير من الحمض النووي للبشر وهو ما يجعل أكثر عرضةً للعدوى. وفوقها فهناك فكرة انتشرت في المملكة المتحدة وتقول بأنّ هناك رسائل سرية عن الجيل الخامس وفيروس كورونا في الشكل من أوراق فئة 20 جنيه إسترليني.

نشأت نظرية المؤامرة عن شبكات الجيل الخامس في أوائل مارس، والتي طرحها الطبيب الأمريكي “ثوماس كووان” عبر موقع اليوتيوب (حذفها موقع اليوتيوب فيما بعد وفقًا لسياساته الجديدة). والبعض من الناس أخذ النظرية على محمل الجد إلى الحد الذي دفعهم لحرق أبراج شبكات الجيل الخامس في المملكة المتحدة وتهديد مهندسيها.

إن ظهور العدوان على فئات من المجتمع ليس بالغريب زمن المشاكل والكوارث والأوبئة، فقد أظهرت السجلات التاريخية انتشار نظريات مؤامرة في العصور الوسطى ردًا على تفشي الطاعون في أوروبا، وكانت تلك النظريات تتسم بمعاداتها لليهودية. فهذه النظريات هي جزءٌ لا يتجزأ من كل جائحة. وينخرط الناس في التفكير بهذه النظريات التي تتضمن التمييز ضد الآخرين. وأثناء الجائحات السابقة، طارد الناس الأطباء في الشوارع ظنًا منهم بأنّهم هم المسؤولون عن تلك الجوائح. واليوم في أوروبا، توجه الكثير من الكراهية ضدّ الآسيويين، لكون جائحة الكورونا قد بدأت في الصين. وتساعد شبكة الإنترنت في انتشار نظريات المؤامرة، والأمر أسهل بكثيرٍ من قبل 30 عامًا، ولكن من الصعب القول بأنّ عددها الآن أكثر من قبل.[21]

الجانب النفسي من نظريات المؤامرة وأسبابها

يذكر أحد متتبعي نظريات المؤامرة، أنّه من السهولة أن تحبط مع مناهضي التلقيح من جراء تجاهلهم الفاضح للأدلة التي تثبت سلامة اللقاحات. ويذكر أن مصدر اعتقاداتهم الغريبة وهو الخوف. فقد ولدت هذه الحركة المناهضة للقاحات من مخاوفهم بشأن الصحة الفردية والعائلية تجاه الأنظمة الصحية الحالية من كونها تتسبب بأخطارٍ لا نعلمها. ويعود جذور هذا الأمر من التجارب السلبية مع المختصين الطبيين.

وهؤلاء المناهضون للتلقيح ليسوا لوحدهم. فالكثير من نظريات المؤامرة يمكن إرجاعها للخوف وانعدام الثقة. فنظريات أحداث 11/9 تعود لانعدام الثقة في الحكومة الأمريكية، سبقها كشف خططٍ حكومية وأكاذيب نطق بها سياسيون.[22]

ويبلغ بالأمر بمن يصدق تلك النظريات بشيطنة أبرياء بزعم صلتهم بتلك المؤامرات والاعتداء، وفيما ذكرنا من شهادة مُتهم بريء في حادثة إطلاق نار، فقد عانى الويلات من الترويج ضده والاعتداء والتهديد حتى. وقد كان محظوظاً لنيل مثل تلك الراحة، على عكس الآخرين من مهاجري الهندوراس، الذين عجزوا عن الهروب من المضايقات وقهر منظري المؤامرات، ممّن يتهمونهم بسعيهم لافتعال أزمة أمنية قومية. ومثل هذا الكلام يبدو حسب صحيفة الغارديان صعب التقبل أو حتى غير منطقي، إذا ما أُخذ بالاعتبار خلفيات هؤلاء المهاجرين، فهم فقراء هاربون من الفقر المدقع والعنف وفقدان الأمن من أمريكا الوسطى. ومعظمهم ينوون تقديم طلبات اللجوء على الحدود الأمريكية (وهو أمرٌ قانونيٌ تماماً) أو كان بالأصل قد طلب اللجوء وهو في المكسيك. ومع ذلك، فقد شَيطن الأمريكيون أناسًا أبرياء مع نسائهم وأطفالهم، حائلين بينهم وبين الحصول على الدعم والمساعدة اللتان هم في أمس الحاجة إليها، كل ذلك لتقاتل السياسيين عبر مكائنهم الإعلامية في سبيل الاستحواذ على السلطة.[23]

فمن مزاعمٍ بأن الفيروس سلاح إحيائي خارجي، أو اختراعٌ من أحد الحزبين الأمريكيين، أو جزءٌ من مخططٍ لإعادة هندسة عدد السكان؛ كلّها حولت الفيروس عديم العقل هذا إلى أشبه ما يكون بكائنٍ شريرٍ عاقلٍ مدركٍ. وكل زعمٍ منها يجعل من كل مصيبة غير عاقلة متضمنةً لمعنىً باطنٍ ما مهما كان مبهمًا.[24]

وقد ارتبطتْ زيادة ظهور نظريات المؤامرة بزيادة الاستقطاب والشعبوية والعنصرية. وأخيرًا، فكما يرى “بوبير” (عالم فلسفي) بأن نظريات المؤامرة تخلق أفكارًا خاطئة عن الأسباب الجذرية للحوادث الاجتماعية. فبرؤية الناس للأحداث الاجتماعية على أنها نتائج أفعال أناسٍ متنفّذين ومسيطرين يعملون في السر، بدلًا من كونها نتاج ظروف اجتماعية بنوية، فستقوض من الفعالية السياسية والتغيير الاجتماعي.[25]

ناقش هونيمان وفورمز في دراستهما عام 2018، بأنّه من الصعب أحيانًا رسم خطٍ فاصلٍ واضح بين النقد العقلاني للعلم التجريبي والتشكيكية التي لا مبرر لها. وإن إحدى مخاوف بأنّ انعدام الثقة سيؤدّي بنا عبر التشكيكية التي لا مبرر لها إلى الإيمان بالنسبية الشاملة أو العدمية في عالم ما بعد الحقيقية، حيث أنّه يكفي لمزاعمٍ ما أن يتقبلها الجمهور بمجرد كثرة ترديدها من قبل عددٍ كبيرٍ من الناس.[26]

تكمن المشكلة في محاولة دحض تلك النظريات، إنّ من يروجها يرفض أي مجادلةٍ مضادة، وهو ما يؤدي المزيد من النكران والإحباط والحنق من الشعور بالهزيمة. وفي الواقع، فإن استخدام أدلةٍ نوعيةٍ تؤدي بالطرف الآخر إلى مواقف أشد تصلبًا.[27]

يرى بعض الناس راحةً في اللجوء إلى نظريات المؤامرة؛ متى ما شعروا بفقد السيطرة أو بمواجهة حدثٍ سلبيٍ هائل لا يستطيع أحدٌ السيطرة عليها.[28]

بدأت نظريات المؤامرة (في الآونة الأخيرة) تصبح هي التيار الرئيسي في المجتمع، بعد أن كانت يومًا تغريدًا ما خارج السرب لا يعبأ به الكثير. فمن بين المشاهير التي روجوها الإعلامي البريطاني “إيمون هولمز” والممثل الأميركي “وودي هارلسون”.[29]

إن الشعور بالتفرد بمعرفةٍ خاصةٍ حُرم منها الكثيرون يمنح الإحساس بالقوة والسيطرة في مواجهة أزمةٍ قلبت العالم. ومشاركة هذه المعرفة قد يمنح الناس أمرًا هم بالأمس الحاجة إليه في ظل الإغلاق المستمر (من جراء أزمة كورونا) منذ عدّة أسابيع والوفيات، ألا وهو “الإحساس بالسيطرة”.

فكما تقول عن هذا الإحساس عالمة النفس الاجتماعي البريطانية من جامعة كينت كارين دوغلاس والتي درست نظريات المؤامرة: “إنها تضم جميع المحفزات للأشخاص حتى يؤمنوا بنظريات المؤامرة”.

فدوغلاس ترى أن الناس ممن عانت ملكتهم العقلية الحساسة من الانهيار بمشاعر الحيرة والعجز أشاعوا تلك الشائعات والمزاعم التي لا تُصدق على نحوٍ يومي.

لكن الكثير من تلك المزاعم الكاذبة تروجها الحكومات نفسها لإخفاء فشلها، أو يروجها أحد الأحزاب للبحث عن مكاسب سياسية، أو يروجها متربح من الأكاذيب، هذا عدا أن الرئيس الأمريكي نفسه يروج لعلاجات غير مثبتة وأكاذيب بإلقاء اللوم على الآخرين.

وإن جميع نظريات المؤامرة تحمل رسالةً مشتركةً واحدة وهي: بأن الحماية الوحيدة تأتي من حيازة الحقيقة السرية التي لا يريد “البعض” أن تَعرفها.

إن ما تمنحه تلك الشائعات هو الإحساس الكاذب بالأمان والسيطرة، إلا أن الضرر الذي تلحقه بثقة العامة حقيقيٌ جدًا.

يقول “غراهام بروكي” رئيس مختبر الأدلة الجنائية الرقمي بالمجلس الأطلسي:

لقد واجهنا من قبلُ الجوائح، لكن لم نواجه جائحةً مثلما في هذا الزمن الذي يتواصل فيه جميع الناس ويوصلون إلى قدرٍ هائلٍ من المعلومات.

أناسٌ يتجمعون على شاطئ ريوديجانيرو الأسبوع الفائت، على إثر مزاعم الرئيس البرازيلي بأن كورونا أقل خطرًا مما صرح به الخبراء.

وحذرت منظمة الصحة العالمية ممّا أسمته من وباءٍ معلوماتي نتيجة تنامي البيئة المهيئة للتضليل الإعلامي ولريبة العوام.

وتورد صحيفة النيويورك تايمز تحت عنوان فرعي “جاذبية المعلومات الخفية” مقولة دوغلاس بأن :”الناس تنجذب لنظريات المؤامرة لما تعده من إرضاء حوافز نفسية معينة التي يحتاجها الناس حاجةً ماسة، ومنها: الانقياد للحقائق وحرية تحقيق الرفاه، والإحساس بالسيطرة “[30]. وهنا أنبه لأمر أبسطه أكثر لاحقًا، أن مبرر الكثير في الغرب لتصديق تلك المؤامرات هو الخوف من زوال متعهم الدنيوية، وبتصديق نظريات المؤامرة يجدون المُبرر للتفلت من الإغلاقات والحظر والتدابير الطبية وأي إجراءات تعيق من تحصيلهم تلك المتع.

عودةً على مقال التايمز عن أفكار المؤامرة وكلام دوغلاس: “وإن لم تشبع هذه الحقيقة تلك الحاجات، فإن للبشر قدرةً مذهلة في اختلاق القصص التي حتى بعضنا يدرك كذبها. وأظهر دراسة جديدة بأن احتمال نشر البشر للمعلومات الكاذبة عن فيروس كورونا أكبر بكثيرٍ من احتمالية تصديقها”.

وغرد موقع Snopes المتخصص في التحقق من صحة الأخبار على التويتر: “إن حجم التضليل الإعلامي المنتشر في أعقاب جائحة كورونا قد اكتسح فريقنا الصغير، فنحن نرى العشرات من البشر يهرعون للبحث عن أية وسيلة لإراحة بالهم، ويزيدون الوضع سوءًا بمشاركتهم معلومات مضللة، وفي بعض الأحيان خطيرة”.

تقول الدكتورة دوغلاس: “إن الاعتقاد بأن لدينا معلوماتٍ سريةً قد يساعدنا على الشعور بالتفوق، على أنّنا نوعًا ما في أمان. فإذا ما آمنتَ بنظريات المؤامرة، فإن لديك القوة المكتسبة بالمعرفة التي يفتقدها الآخرون”.[31]

شعور البعض بالوحدة. فبعضها تزيد من “روابطنا نحن” للتجمع “ضدّهم”، وخاصةً الأجانب والأقليات، وهما كبشان شائعان للفداء لشائعات فيروس كورونا وغيرها من نظريات المؤامرة القديمة. لكن مهما قدّمت تلك النظريات من الراحة فهي قصيرة المدى.

تقول دوغلاس بأنّه مع مرور الوقت، كشفت البحوث بأنّ التعامل مع نظريات المؤامرة لا يخفق في سد الاحتياجات النفسية فحسب، ولكنها تزيد سوءاً بما تثيره من مشاعر الخوف أو العجز.

وهذا قد يدفعنا إلى البحث عن تفسيرات أكثر تطرفًا، حالها كحال المدمنين في الحاجة لجرعةٍ أكبر فأكبر.[32]

إن تصديق إحدى نظريات المؤامرة يميل بالشخص للتصديق بأخريات. ويحذر الخبراء بأن عواقب هذا الأمر لن يزيد ولن يفاقم من الجائحة فحسب، بل ستفوقها خطورةً.

إن نظريات المؤامرة الطبية زادت من تنامي المشاكل في السنوات الأخيرة. وكذلك الارتياب في السلطات، وهو دافع رئيسي للعالم للانزلاق نحو الشعبوية المتطرفة. واليوم، يدخل العالم في أزمةٍ اقتصاديةٍ تكاد لا تجد نظيرًا لها.[33]

موقع Yourbias هو موقع لتعريف التحيز الفكري. ويناقش فيه ما سماه التحيز الاعتقادي فيقول: “إذا دعم استنتاج اعتقاداتنا الحالية، فإننا سنبرر كل ما يدعمه”. فكرتي هي أن العلم التجريبي والظروف الشخصية والاضطراب الاقتصادي الناتج عن جائحة كورونا هو أكبر من قدرة تحمل الأفراد، وهو ما يدفعهم للبحث عن حقيقة بديلة كوسيلةٍ لتبرير (تفسير) أو كبلسمٍ مهدئ. والبعض يفهمها لأن تلك النظريات أسهل فهمًا من المخططات والمعلومات المعقدة وما إلى ذلك.[34]

وجد الباحثون بأن مثل هذه الأفكار تحفّزها الرغبةُ في الفهمِ وفرضِ السيطرة والشعورِ والاتصالِ الاجتماعي، إلا أنّ هذه التأثيرات ليست هي ما يحصل عليه المؤمنون بنظريات المؤامرة. فبدلاً من استيفاء هذه الاحتياجات، فإن نظريات المؤامرة تعزز من الشعور بالحيرة والعزلة والحرمان والوحدة، فتؤدي إلى دورة تفكيرٍ مدمرة، من المشاعر السلبية التي تعزز من نظريات المؤامرة، في الوقت الذي كانت فيه تلك المشاعر السلبية في الأول ناتجةٌ من نظريات المؤامرة.

بدلاً من أن تساعد نظريات المؤامرة الناسَ في التغلب على أحاسيس العزلة الاجتماعية والحرمان السياسي، فإنها تنشئ حلقةً من انعدام الثقة تنتهي بهم إلى مزيدٍ من العجز.[35]

الشائعات ليس أقل خطراً من الوباء

وتحت عنوان “نظريات المؤامرة تنتشر أسرع من فيروس كورونا” ذكرت صفحة المنتدى الاقتصادي العالمي بأن الأبحاث الطبية تشير إلى أن تلك النظريات لا تقل خطورةً على المجتمعات من الوباء نفسه.

وتزعم إحدى تلك النظريات أن الفيروس هو سلاحٌ بيولوجي صنيع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لشنّ حربٍ على الصين. بينما آخرون مقتنعون بأنّ الحكومتين الأمريكية والبريطانية استحدثتا الفيروس كوسيلةٍ لكسب الأموال من جراء بيع لقاحٍ محتمل.

وترى الصفحة أن الكثير من تلك النظريات تبدو متكلفةً وصعبة التصديق، فإنّ مثل تلك الأفكار التي تنص على وجود قوىً شريرة تسعى لخطةٍ سريةٍ تنتشر في كل مجتمع، وعادةً ما تخص الصحة. وكشفت إحصائية كبيرة لشركة “يوجوف” للأبحاث عام 2019، بأن 16% من المستطلعين في إسبانيا يعتقدون بأن فيروس الإيدز صنعته ونشرته مجموعةٌ أو منظمة سرية، و27% و12% من المستطلعين في كلٍ من فرنسا وبريطانيا يعتقدون بأنّ “هناك من يحاول عمدًا إخفاء الحقيقة حول التأثيرات الضارة للقاحات”.

في ضوء هذه النتائج، فإن من يصدق بنظريات المؤامرة المتعلقة بفيروس كورونا أقل اتباعًا للنصائح الطبية مثل غسل اليدين المتكرر بمادة مطهرة كحولية أو صابون، أو العزل الذاتي بعد زيارة أماكن معرضة لخطر الفيروس.

بدلًا من ذلك، فتصرفات الناس ستميل للسلبية، وأكثر نحو السلوكيات الوقائية أو ستميل لاستخدام بدائل خطيرة على اعتبارها علاجية. وهذا سيزيد من احتمالية انتشار الفيروس وسيعرض المزيد من الناس إلى الخطر.

يمكن أن نرى فعلياً على أرض الواقع ظهور “مقاربات علاجية بديلة” والبعض منها شديدة الخطورة. مثالٌ على ذلك، نظرية كيو أنون والتي تزعم أن فيروس كورونا من صنع “الدولة العميقة”.

إن لانتشار نظريات المؤامرة الطبية أيضًا عواقب وخيمة لفئاتٍ أخرى من المجتمع. فعلى سبيل المثال أثناء طاعون الموت الأسود بأوروبا، كان اليهود هم كبش الفداء في تحميلهم مسؤولية الوباء. وأدت نظريات المؤامرة هذه إلى حدوث أعمال عنفٍ ومجازر بحق المجتمعات اليهودية في جميع أنحاء أوروبا. وقد أدى وباء الكورونا اليوم إلى تزايد الهجمات العنصرية المستهدفة لفئات الشرق الآسيوي.

إن نظريات المؤامرة تسبب أذى بالغًا للمجتمعات. لا لأنّها تؤثر على اختيارات الناس الصحية، بل حتى تتدخل في كيفية نظر مختلف الفئات لبعضها البعض.

برأيي الشخصي هناك سبب لم يلاحظه الكثير من الكتاب الغربيين لتعودهم -لألفهم- لهذا السبب، وذلك أن نمط الحياة الليبرالية الغربية تفرض ثقلها على التفكير الفردي لديهم. ويظهر هذا التأثير برغبة كل فردٍ منهم بالتحرر من أي قيود تفرضها عليهم حكومتهم (حتى لو بدى بالمنطق والحس الفطري أنها ضرورية لسلامتهم)، فالعقل الغربي لا يُحب بأي حالٍ من الأحوال أن تُفرض عليه مسار حياته اليومية، فهو لا يجد هدفًا في الحياة بقدر ما يجده في الإنجاز اليومي في ظل نظامٍ رأسماليٍ لا يعطي أي قيمة لا مادية ولا معنوية إلا بالإنجاز والربح.

وكل الثقافة الغربية مركزة بهذا الاتجاه، وتسخر كل جوانب الإنسان الأخرى نحو هذا الأمر، حتى إن اعترف بجانبٍ دينيٍ فهو لا يقر به إلا بحدود ما يدفعك لهذا الإنجاز؛ هذا عدا عن القيمة الثانية في الحياة الليبرالية وهي التمتع بالشهوات، وقد حُرِم الكثير منها بسبب الإغلاق المرتبط بالجائحة، فكان لزامًا كردة فعلٍ شعبية إما تبرير التمرد على هذا الإغلاق وعلى الإجراءات الصحية أو الخضوع للإغلاق وقلنا أن هذا يتعارض مع التفكير الفردي الغربي، ومن ثمّ الكثير ممّن خضع ينتهي بهم الحال للإكتئاب والتدهور النفسي وحتى إلى تزايد حالات الانتحار.

المصادر

1.Trapped in a hoax: survivors of conspiracy theories speak out

2.Conspiracy Theories Might Sound Crazy, But Here’s Why Experts Say We Can No Longer Ignore Them

3.Conspiracy Theories Might Sound Crazy, But Here’s Why Experts Say We Can No Longer Ignore Them

4.How dangerous are conspiracy theories?

5.Conspiracy Theories Might Sound Crazy, But Here’s Why Experts Say We Can No Longer Ignore Them

6.Why Coronavirus Conspiracy Theories Flourish. And Why It Matters

7.Why Coronavirus Conspiracy Theories Flourish. And Why It Matters

8.The Dangerous Power of Conspiracy Theories

9.Conspiracy theories are spreading faster than the coronavirus.

10.تبيان: هي نهج سياسي يقوم على حماية مصالح أهل البلاد الأصليين وتقديمها على مصالح المهاجرين.  مقتبسة من الويكيبيديا.

11.تبيان: هي حركة ضمن الحزب الجمهوري الأمريكي ومناصرة لترامب.

12.The Dangerous Power of Conspiracy Theories

How dangerous are conspiracy theories?.13

14.Why Coronavirus Conspiracy Theories Flourish. And Why It Matters.

15.Conspiracy Theories

16.Conspiracy Theories Might Sound Crazy, But Here’s Why Experts Say We Can No Longer Ignore Them

17.Conspiracy Theories Might Sound Crazy, But Here’s Why Experts Say We Can No LongerIgnore Them

18.How dangerous are conspiracy theories?

19.How dangerous are conspiracy theories?

20.Why Coronavirus Conspiracy Theories Flourish. And Why It Matters.

21.“Immune to Evidence”: How Dangerous Coronavirus Conspiracies Spread

22.The Dangerous Power of Conspiracy Theories

23.How dangerous are conspiracy theories?

24.Why Coronavirus Conspiracy Theories Flourish. And Why It Matters.

25.Why Coronavirus Conspiracy Theories Flourish. And Why It Matters.

26.Conspiracy Theories

27.The Dangerous Power of Conspiracy Theories

28.“Immune to Evidence”: How Dangerous Coronavirus Conspiracies Spread

29.Coronavirus conspiracy theories are dangerous – here’s how to stop them spreading

30.Why Coronavirus Conspiracy Theories Flourish. And Why It Matters.

31.Why People Cling To Conspiracy Theories Like ‘Plandemic’

32.Why Coronavirus Conspiracy Theories Flourish. And Why It Matters.

33.How (Ir)rational Is it to Believe in Contradictory Conspiracy Theories?

34.Why People Cling To Conspiracy Theories Like ‘Plandemic’

35.Why People Cling To Conspiracy Theories Like ‘Plandemic’

عبد الوهاب البغدادي

مترجم وصيدلاني

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى