في ذكرى الحملة الصليبية الرابعة ضد بيزنطة: القسطنطينية بعد الفتح الإسلامي

كما اطلعنا على الغزو اللاتيني للقسطنطينية “في ذكرى الحملة الصليبية الرابعة ضد بيزنطة: القسطنطينية بين فتحين” وما ترتب عليه وأثره على السكان اليونانيين، سنطلع على نفس النواحي الثلاث فيما يتعلق بالفتح العثماني، ليتبين سبب تسمية الأول بالغزو والثاني بالفتح:

تقول الموسوعة البريطانية “بدأ الهجوم النهائي في يوم 29 مايو (أيار/ ماي) 1453…ولمدة ثلاثة أيام تركت المدينة للنهب والقتل، وبعدها استعيد النظام بأمر السلطان”، وتحت عنوان “قرون من النمو” تقول: “عندما استولي على القسطنطينية، كانت مهجورة تقريباً، ولكن محمداً الثاني أعاد إسكانها بنقل السكان إليها من مناطق مفتوحة أخرى مثل البلوبونيز وسالونيكا والجزر اليونانية، وبحلول سنة 1480 ارتفع عدد السكان إلى ما بين 60 ألفاً و70 ألفاً….ونقلت العاصمة إلى القسطنطينية من أدرنة في سنة 1457…وبعد محمد الثاني، دخلت القسطنطينية في عهد طويل من النمو السلمي الذي كان يقطعه الكوارث الطبيعية…وكرس السلاطين ووزراؤهم أنفسهم لبناء السبل والمساجد والقصور والمؤسسات الخيرية بما جعل مظهر المدينة يتحول كلياً بعد مدة وجيزة، وإن أكثر العهود تألقاً في البناء التركي هو عهد الحاكم العثماني سليمان العظيم (1520-1566)”.

وتقول موسوعة تاريخ الحضارات العام إنه بعد دفاع مستميت قام به إمبراطور وسكان القسطنطينية، سقطت المدينة في يد السلطان محمد الفاتح “فأسلمها للنهب والسلب واستباحها مدة ثلاثة أيام بلياليها….راح السلطان محمد الثاني وخلفاؤه من بعده وكبار الموظفين التابعين لهم، يتنافسون بحماسة ونشاط، ليجعلوا من الآستانة، عاصمة تكسف، بما بلغته من زهو وزينة وجمال، أمجاد القسطنطينية في أوج عزها البيزنطي”، ولم تخب جذوة النشاط التجاري في الدولة، وتوافد على العاصمة الكثير من الجوالي السلافية والإسلامية، بالإضافة إلى يهود الأندلس المطرودين، والأرمن من الشرق، فأصبحت العاصمة وسراي الدولة “أكبر زبائن لتجارة الكماليات، فبزت في هذا المضمار، ما كانه البلاط البيزنطي في أوج عزه وازدهاره، ويتبين لنا من وصف الرحالة الغربيين والمسافرين أن الآستانة كانت تمور بالحركة وتموج بالنشاط”، وتشير الموسوعة إشارة عامة إلى أن “الميزة التي طبعت الفتح العثماني، تبدو لنا، على الأخص، في هذا العدد الصغير من الناس الذين راحوا ضحية الفتح، كما تبدو جلية واضحة بهذه النسبة الصغيرة من أعمال السلب والنهب التي تعرضت لها المدن المفتوحة ومن فيها من السكان، كما يفسر لنا جيداً كيف أن الفتح العثماني سار سيرته الرتيبة الرضية”.

أما عن الرأي الآخر الأكثر تمسكاً بالتنظيم في الفتح فيستعرضه المؤرخ المعروف ستانفورد شو: “ما إن دخل العثمانيون المدينة فإنهم تقدموا ببطء ونظام، مطهرين الشوارع من بقايا المدافعين، وبينما يسمح القانون الإسلامي بالقتل والنهب في المدينة نظراً لمقاومتها، فإن محمداً وضع قواته تحت سيطرته الصارمة، فقتل البيزنطيين الذين أبدوا مقاومة شرسة فقط، وفعل ما بوسعه لبقاء المدينة سليمة لتصبح مركز دولته العالمية…وقد جعل الفتح العثمانيين ورثة لتقاليد إمبراطورية حيث أصبحت المدينة المفتوحة مرة أخرى عاصمة لدولة واسعة…وكانت الخطوة التالية لمحمد هي استعادة إسطنبول عظمتها الماضية، لقد اختفى معظم سكان المدينة وازدهارها الاقتصادي قبل الفتح بزمن طويل.

وكانت قد أصبحت فقيرة ومقفرة فيها حوالي 60 ألفاً أو 70 ألف نسمة، وحاول محمد قدر الإمكان تجنب النهب الواسع فور الفتح، ولكن كثيراً من السكان هربوا خوفاً ولم يبق فيها أكثر من عشرة آلاف نسمة عند الشروع بإعادة البناء، ولذلك كانت المهمة الأولى هي إعادة الإسكان في المدينة، فصدرت فرمانات تكفل حياة وممتلكات جميع السكان الذين يعترفون بالسلطان ويدفعون الضرائب بغض النظر عن دياناتهم، وقد أراد محمد أن يجعل عاصمته عالماً مصغراً من كل أعراق وأديان دولته، وعندما لم يكن التشجيع كافياً، يتم اللجوء إلى سياسة التوطين بالقوة لجلب المهاجرين من الأناضول والبلقان مع تقديم هدايا من الممتلكات إضافة إلى إعفاءات ضريبية لتمكينهم من استئناف أعمالهم واستعادة الحياة الاقتصادية في المدينة، لقد جاء المسلمون والأرمن واليهود واليونانيون والسلاف وغيرهم من كل أرجاء الدولة….ونتيجة ذلك عادت إسطنبول مزدحمة بالبشر مرة أخرى في غضون فترة وجيزة، وترافقت إعادة الإسكان في المدينة مع أعمال البناء”.

ويقول أيضاً المؤرخ زاكري كارابل: “دخل الجيش العثماني المدينة في التاسع والعشرين من أيار/ مايو [ماي] من العام 1453، ولأن البيزنطيين رفضوا الاستسلام، فقد أعطى محمد قواته الإذن بالنهب والسرقة، وكان الجنود سيثورون لو لم يفعل، ولكن المدينة كانت مسبقاً قد هُجرت وأُخليت أبنيتها بالكامل إلا من بضع كنائس وقصور، وقد تحدث بعض المؤرخين الغربيين اللاحقين عن انتهاك مروع، إلا أنه ليس هناك غير أدلة قليلة على ذلك، وكان الضرر المادي في الأرواح والممتلكات طفيفاً إلى حد ما، بغض النظر عن حجم الضرر المعنوي…..وسرعان ما أوقف السلطان النهب في المدينة، على اعتبارها ستغدو عاصمة إمبراطوريته، كما أنه لم يشأ أن يتحمل أعباء الترميمات غير الضرورية بها، وكان المكان كئيباً بما فيه الكفاية وبحاجة للإصلاح.

وفي الأشهر التالية جدد العثمانيون المدينة هيكلياً وثقافياً، وكان بعض النبلاء البيزنطيين قد هرب، وآخرون أُسروا، وتم افتداء بعضهم الآخر كما أُعدم منهم القليل، لكن محمداً لم يسعه إخلاء كامل المدينة من سكانها اليونان، ومن أجل الحفاظ على حيوية المدينة، فقد فعل محمد ما بوسعه ليؤكد للسكان أن حقوقهم ستبقى محفوظة، حتى إنه حاول أن يغري من بقي منهم بالعودة، وعرض عليهم تعويض ممتلكاتهم التي تضررت أو دُمرت، وكحافز آخر، وعد محمد بأنه لن يتدخل في الشئون الدينية….وفي كانون الثاني عام 1454 قلد السلطان البطريرك منصبه، ومنحه السلطة على شئون الحياة اليومية للسكان المسيحيين في المدينة “بما لا يقل عما كان عليه الأمر في زمن الأباطرة”….ولم يكن محمداً ولا أي أحد من السلاطين العثمانيين مهتماً بتغيير اعتناق السكان اليونان للمسيحية في القسطنطينية، بل على العكس، قدم العثمانيون حوافز لتشجيع اليونان على العمل مع نظام جديد لإحياء المدينة وإعادتها إلى المجد، ومن جانب مسيحيي القسطنطينية، فإن عدم المساس بحقوقهم الدينية أدى إلى تقبلهم لحكامهم الجدد، فوضع المعماريون المسيحيون اليونان خططاً لتعزيز وإعادة بناء الأسوار والتحصينات…وصمموا المساجد وساعدوا محمداً في إعادة تأهيل آيا صوفيا كدار عبادة للمسلمين، كما بنوا سوقاً جديدة واسعة، أصبحت فيما بعد من أشهر أسواق إسطنبول…”.

ويتحدث الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى قائلاً إنه رغم فتح القسطنطينية عنوة فإن السلطان لم يتردد في استعمال سلطاته العرفية لإصدار أوامر تخفف من حدة إجراءات الفتح وتمهد لتعمير المدينة، فقد جعله الفتح إمبراطوراً لروما ووريثاً شرعياً للأراضي التي خضعت في الماضي للأباطرة، ولهذا كان يريد اتخاذ المدينة قاعدة لإمبراطورية عالمية وإعادة بنائها وإغراء سكانها الفارين بالعودة إليها، وكرس بقية حياته لهذه المهمة، فشيدت المدارس والمكتبات والتكايا والمؤسسات الخيرية وصارت المدينة عاصمة للدولة ومركزاً للحياة الإسلامية بل أبرز مركز ثقافي في العالم الإسلامي، وظلت كذلك إلى نقل العاصمة إلى أنقرة في القرن العشرين، وأبقى السلطان كثيراً من المسيحيين واليهود فيها وأرغم جماعات من مختلف شعوب الدولة على السكنى فيها، وأصبحت المدينة تعج من جديد بالحياة والنشاط.

ونظم السلطان أوضاع اليونانيين المقهورين واستمال الكنيسة وجعل البطريرك على رأسها وخلع عليه صلاحيات شبيهة بصلاحيات بابا روما فتمتع بسلطة لم يمارسها سابقوه في العهد البيزنطي، وحافظ المسيحيون على عقيدتهم ومارس اليونانيون التجارة فحصلوا على ثروات طائلة واستقروا حول البطريركية في حي الفنار، وبفضل ثروتهم وبراعتهم اعتمدت عليهم السلطات العثمانية في الاتصال بالدول الغربية فتبوؤوا مركزاً رفيعاً في الدولة “ونخلص من ذلك إلى أن الحكم العثماني كان أحسن من سابقه بالنسبة لليونانيين” لأن العثمانيين كانوا أفضل من الطغاة البيزنطيين، حيث كانوا بوجه عام جادين وأمناء ومستقيمين، وكانت حيويتهم في تسيير شئون الدولة “أعجوبة العالم”.

فقد كانت حكومتهم قوية ومستقيمة، وسياستها المالية معقولة، مع سيادة الأمن والنظام، “ومن المسلم به أن الإمبراطورية العثمانية كانت طيلة القرن الذي تلا سقوط القسطنطينية تحظى بحكم أفضل مما ترزح تحته معظم أوروبا المسيحية، كما أنها كانت أكثر من أوروبا رخاء، على حين أن رعاياها –مسلمين ومسيحيين- كانوا يتمتعون بقسط من الحرية الشخصية ومن نتاج كدهم يفوق ذلك الذي ينعم به رعايا الدول الغربية”، ورغم تعرض بعض سكان البلقان للظلم فإن اليونانيين المتعلمين من سكان المدن الكبرى، لاسيما الفناريون، كانوا أسعد حالاً، فقد اتجه العثمانيون إلى مصالحتهم بعد الفتح فحصلوا على ثقة الحكام بالتدريج، وأحرزوا نفوذاً في الكهنوت والأدب والتعليم والقانون  المدني، وسمح العثمانيون للمحاكم الدينية بالفصل في الأحوال الشخصية المتعلقة بالمسيحيين، وفي النهاية أحرز الفناريون نفوذاً سياسياً، فكان تراجمة الباب العالي والأسطول وحكام رومانيا من الفناريين.

وتعرف الموسوعة البريطانية “الفناري” بكونه “مسئولاً عثمانياً” Phanariote: Ottoman official بما يلي: “هو أحد الأعضاء في واحدة من العائلات اليونانية الرئيسة في حي الفنار بالقسطنطينية (إسطنبول)، الذين كانوا إداريين في البيروقراطية المدنية ويمارسون نفوذاً عظيماً في الإمبراطورية العثمانية في القرن الثامن عشر، وبعض أعضاء هذه العائلات التي حصلت على ثروة ونفوذ عظيمين في القرن السابع عشر، تخلوا عن أعمالهم التقليدية في التجارة لدخول بيروقراطية الإمبراطورية العثمانية، ومن سنة 1669 إلى سنة 1821 خدم الفناريون بصفتهم تراجمة (وهم مترجمون يعملون أيضاً مستشارين للشئون الخارجية ) في الباب العالي (الحكومة العثمانية) والسفارات الأجنبية، كما عُينوا حكاماً للإمارتين الدانوبيتين مولدافيا وولاشيا، وهما ولايتان تابعتان للدولة العثمانية في الفترة بين 1711-1821، ولذلك فهي فترة تعرف بالعهد الفناري في التاريخ الروماني، وهيمن الفناريون كذلك على إدارة الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، وكانوا يتدخلون باستمرار في اختيار الأساقفة بمن فيهم بطريرك القسطنطينية [ثم يذكر أسماء بعض هذه العائلات”.

ويقول المستشرق توماس أرنولد في كتابه “الدعوة إلى الإسلام”: “ولم تكد حاضرة الإمبراطورية الشرقية القديمة تسقط في أيدي العثمانيين سنة 1453، حتى توطدت العلاقات بين الحكومة الإسلامية والكنيسة المسيحية بصفة قاطعة وعلى أساس ثابت”، وقد حرم السلطان محمد الفاتح اضطهاد المسيحيين تحريماً قاطعاً، وزاد من توقير رئيس الكنيسة عما كان يلقاه في زمن الأباطرة المسيحيين، ولقي الأساقفة الإغريق رعاية بالغة جعلتهم في أسقفياتهم كما لو كانوا عمالاً من الأتراك على الأهالي الأرثوذكس، ونتيجة للحماية التي حصل عليها الإغريق في الحياة والمال بالإضافة إلى التسامح، صاروا يسرعون في الموافقة على تفضيل سيادة السلطان على أي سلطة مسيحية، وكان الفتح العثماني يلقى الترحيب من جانب اليونانيين ويعد تخليصاً من حكم الفرنجة والبنادقة الظالم المستبد الذي حول الشعب إلى حالة عبودية يرثى لها.

ومع كون الأتراك غرباء فقد آثر اليونانيون التركي الكافر على الكاثوليك الهراطقة “إيثاراً مطلقاً”، وبعد فتح القسطنطينية بقرن وجدنا مجموعة من الحكام الصالحين استطاعوا بالإدارة الحازمة نشر الأمن والنظام في كافة المقاطعات، وتنظيم الشئون المدنية والقضائية بطريقة رغم أنها لم تحقق المساواة التامة بين المسلمين والمسيحيين فقد جعلت اليونانيين “أحسن حالاً بكثير مما كانوا عليه من قبل”، كما كانت الولايات التركية “أحسن حكماً وأكثر رخاء من معظم جهات أوروبا المسيحية”، وكان الجمهور المسيحي العامل في الزراعة ينعم بحرية وبنصيب من عمله في ظل حكومة السلطان أكثر ممن يعيشون في ظل كثير من الحكام المسيحيين في نفس الزمن، وازدهرت كثير من المدن الكبرى ازدهاراً كبيراً بعدما خلصها الفتح العثماني من الطغيان البيزنطي، واضطرت الدول الأجنبية إلى فتح موانئها للتجار اليونانيين عندما أصبحوا يبحرون في ظل الراية العثمانية ، فحصلوا على احترام وتقدير كان الكاثوليك يرفضون منحه للكنيسة الأرثوذكسية، وحتى في إيطاليا كان هناك من “يتطلعون بشوق عظيم إلى الترك لعلهم يحظون كما حظي رعاياهم من قبل بالحرية والتسامح اللذين يئسوا من التمتع بهما في ظل أية حكومة مسيحية”.

وكانت التجاوزات على العدالة ضئيلة في القرنين الأولين، وحتى في زمن التراجع لم تكن معاناة المسيحيين تفوق معاناة المسلمين، ولم تقع التجاوزات نتيجة سطوة السلطة المركزية، فقد كان سلطانها الفعلي ضئيلاً على أرجاء الدولة العثمانية، وإن الذين اعتادوا على الحديث عن “الرجل المريض” في العصور الأخيرة، يصعب أن يدركوا المشاعر التي ولدتها الدولة العثمانية في نهضتها الأولى نتيجة التفوق الأدبي للعثمانيين في ذلك الزمن، إذ “بينما كان في المجتمع المسيحي في ذلك الحين ما يدعو إلى الصد والنفور، كان في أخلاق الترك ما يبعث على التقريب والاجتذاب، وكان تفوق العثمانيين في عصورهم الأولى إذا ما قورن بانحطاط زعماء الكنيسة المسيحية ومعلميها، لا بد أن يؤثر بطبيعة الحال في العقول الزاهدة التي سئمت الأطماع المنبعثة من الأنانية”، وكتب كثير من الكتاب المسيحيين الذين لا يحبون العثمانيين، المدح والثناء على فضائلهم التي أبهرت معاصيرهم حتى في المجال العسكري حين كان سكان البلاد التي يمر بها الجيش العثماني لا يشكون من الخسارة أو سوء المعاملة.

“وأصبح الدين الإسلامي في ذلك الحين الملجأ الطبيعي لأفراد الكنيسة الشرقية”، رغم أن العثمانيين عموماً لم يجبروا أحداً على اعتناق الإسلام، وكان جمهور المهتدين “من العلماء على اختلاف طبقاتهم ومناصبهم وحالاتهم”، وليسوا من بسطاء الناس، ويقال إن المهتدين الجدد كانوا معظم أصحاب الجاه والسلطة في القصر السلطاني حتى قبل فتح القسطنطينية، وكسبت المعاملة الإنسانية كثيراً من الداخلين في الإسلام في الوقت الذي أخفقت فيه وسائل العنف، وهي ملاحظة تؤكد معلومات الكاتب عن كون التحول إلى الإسلام لم يتم بمجرد الانتصار العسكري (مسألة هامة للرد على دعاوى الانتشار بالسيف) وتساءل كثير من الشعوب المسيحية في ظل الحكم العثماني كيف انتشر الإسلام بهذه الصورة العجيبة لو كان أساسه باطلاً؟، (وهي فكرة يجب أن يتدبرها الذين يظنون أن النصر والتوفيق والصعود كان من نصيب الغرب منذ الأزل وأن الهيمنة الحالية هي دليل حقه المطلق).

ولا بد من التحذير هنا من روايات انتقاص المسلمين في المراجع الغربية، هذا ليس مجرد وسواس بل استنتاج من اختلاف المصادر، ففيما يتعلق بالسلطان محمد الفاتح نجد ول ديورانت في “قصة الحضارة” مع إقراره بمزايا السلطان العقلية والثقافية  والأدبية والخيرية والعسكرية والدبلوماسية، ينسب إليه سمة الإفراط الجنسي حيث لم تجد الأدوية في النهاية في علاج صحته فتوفي في سن الحادية والخمسين، ولكننا نجد مرجعاً لا يقل قوة هو “تاريخ الحضارات العام” الذي وضعه أساتذة من السوربون يقول إن الدولة في عهد الفاتح لم تكن قد بلغت بعد العهد الذي كان السلطان فيه يلازم دار الحريم قط “فالفاتح والقائد المظفر الذي كانه محمد الثاني، لم يُعرف عنه مغامرات عاطفية”.

ونجد مرجعاً ثالثاً هو المؤرخ زاكري كارابل يقدم رواية ثالثة تقول إنه كان من المحتم أن يتعب السلطان ويمرض بعد حياته العسكرية الحافلة، فلم تكن حياته مريحة ولم يصبح سعيداً، وتحليل نفسيته بعد قرون توقعنا في خطر ظلمه، وقد عانى من غلبة الشحوم وداء المفاصل ولم يستطع أطباؤه الفرس واليهود علاجه، فكان رجلاً عجوزاً في سن التاسعة والأربعين، وسواء صحت الرواية الأولى عن الفتح العنيف أم الثانية عن الفتح المنضبط، فالجميع متفقون على حسن العاقبة خلافاً لسوء عاقبة الغزو الصليبي الفرنجي، يقول المؤرخ دونالد كواترت: ” شرع محمد بعد هذا الفتح المبين بإعادة المدينة وتجديدها لاستعادة أمجادها الغابرة، ففي سنة 1478 ارتفع عدد سكان المدينة من 30 ألفاً إلى 70 ألف نسمة”.

يقول المستشرق برنارد لويس: “وعندما دخل السلطان محمد مدينة القسطنطينية المفتوحة لم تكن إلا خرائب، أو أحسن حالاً منها قليلاً، كانت عوامل الانحطاط والفساد التي تعمل عملها منذ مدة قد بلغت منتهاها بكارثة الحرب والاستيلاء العاجل، وأصبح الناجون من الخمسين ألفاً أو نحوه من سكان العاصمة البيزنطية الباقين، أرقاء للمنتصرين بعد المعركة، وأخذوا طريقهم إلى أدرنة، إلى أسواق الرقيق في هذه العاصمة التركية، وتركت القسطنطينية خالية مقفرة، ولكن الأسياد الجدد لم يكونوا قانعين بأن يحكموا مدينة للخرائب والأماكن الخاوية، وفي كلمات مدون السجل المجاهد عاشق باشا زاده: [سرد لجهود السلطان الفاتح الإسكانية والعمرانية]، إن وصف عاشق باشا زاده لسياسة محمد الفاتح الإعمارية، تؤيدها مصادر ووثائق كثيرة أخرى، وإنها لم تكن مقصورة على الأتراك أو المسلمين.

فقد سُمح لليونانيين وغيرهم من المسيحيين –وفي بعض الأحوال قد شُجع هؤلاء – ليتوطنوا في المدينة، كما دُعي اليهود أو وُجهوا من البلاد العثمانية الأخرى إلى استنبول وغلاطة وغيرها….كانت استنبول العثمانية مدينة عظيمة مزدهرة بسكانها المتنوعين النشطين، وكان معظم اليونانيين الذين غادروا المدينة قبيل الفتح قد عادوا إليها إلا القليل منهم، وجاء الآخرون من جميع أنحاء الإمبراطورية ليشاركوهم…إن الأتراك الذين دخلوا القسطنطينية فاتحين لم يكونوا المتوحشين البدائيين كما يصورهم بعض كتّاب الغرب، بل كانوا ورثة وحاملي حضارة قديمة ورفيعة، أي حضارة الإسلام القديمة….وأسهم السلاطين الثلاثة الأول [بعد فتح القسطنطينية] في تطوير العاصمة وتنميتها، وعلى أية حال، كان ذلك في عهد سليمان العظيم أن بلغت العاصمة قمة مجدها، فإنها لكونها مركزاً لإمبراطورية واسعة غنية مترامية الأطراف، كانت تهيئ الوسائل والفرص للفنانين والكتّاب والعلماء والجنود ورجال الحكم والتجار والمتحكمين في العمليات التجارية، فهرع كل هؤلاء إلى العاصمة السلطانية الجديدة من جميع أنحاء الإمبراطورية الواسعة الأرجاء، بل من بلاد وراء حدودها”.

أما المؤرخ فيليب مانسل فيصور دخول السلطان محمد الفاتح مدينة القسطنطينية وسط طريق من الموت، وأحل المدينة للسلب والنهب، وينقل عن مراقب من البندقية أن الدم تدفق خلال الشوارع مثل مياه المطر بعد عاصفة وطفت الجثث فوق الأنهار، ويقول إن الجنود العثمانيين أُعطوا حق استعباد حوالي ثلاثين ألفاً من أهل المدينة، وأُعمل السيف في آلاف غيرهم”، ويتبع ذلك بالقول إن السلطان الفاتح وخلفاءه نظروا إلى أنفسهم على أنهم ورثة الإمبراطورية الرومانية والأباطرة الحقيقيون الوحيدون في أوروبا، وكما أوجد الهابسبورغ فيينا كذلك أوجد آل عثمان القسطنطينية التي ضمت لاحقاً أكثر من سبعين قومية، فغدت التعددية جوهرها، وبعد الفتح جمع السلطان فيها أناساً من كل أرجاء آسيا وأوروبا، ونقلهم بكل عناية وسرعة، وكانوا من كل الأمم، خاصة المسيحيين، لأن ولعه كان شديداً بالمدينة وبتأهيلها وإعادة ازدهارها، وفي السنوات التالية للفتح ظلت المدينة خراباً.

فاستورد السلطان الأتراك واليونانيين، ومع اتساع الدولة “نقل الفاتح يونانيين أكثر وأكثر بالقوة إلى القسطنطينية ووطن مزارعين عبيداً يونانيين تحرروا إبان القرن التالي، في القرى خارج المدينة لضمان تزويدها بالمؤن الغذائية..لم تكن هناك حواجز بين اليونانيين والأتراك الذين عاشوا معاً”، وكان الفاتح الحاكم الأكثر استنارة في زمانه ومن علامات أصالته الفكرية أنه أعاد البطريركية المسكونية التي كانت تترأس الكنيسة الأرثوذكسية منذ القرن الرابع رغم قدرته على ترك الكرسي شاغراً حتى يختفي كما حدث في كثير من الأسقفيات الأخرى في الأناضول، فعين بطريركاً وكاهناً أعلى للمسيحيين وأعطاه حكم الكنيسة وسلطة لا تقل عما كان لأسلافه في عهد الأباطرة بالإضافة إلى حقوق وامتيازات أخرى كثيرة، ونقل البطريرك مقره على منطقة الفنار التي كانت منطقة يونانية بعدما وُطن فيها الكثير من الأسرى اليونانيين، كما جلب السلطان الأرمن الذين كانوا متميزين في الملكية والثروة والمعرفة التقنية والتجارة والكفاءات الأخرى، كما جلب الإيطاليين من المدن المتفرقة، واليهود الذين كان تاريخهم في القسطنطينية استثناء سعيداً في التاريخ اليهودي وسط بحر المآسي حيث المذابح والغيتو ومحاكم التفتيش الأوروبية.

وقد ظلت القسطنطينية “فترة طويلة أعظم مدينة عائلية على الإطلاق، فقد أنتج تفاعل العائلة العثمانية مع القسطنطينية، العاصمة الوحيدة في العالم التي كانت عاصمة على المستويات جميعها: السياسي والعسكري والبحري والديني، الإسلامي والمسيحي على حد سواء، والاقتصادي والثقافي وفن الطعام”.

وتقول الباحثة برناردين كلتي إنه في يوم الفتح العثماني (29/5/1453) استباح الألوف من الأتراك المدينة لمدة سبع ساعات ولم تسلم امرأة أو عمل فني من أيديهم الخشنة، فقد كانت الغنائم والسكان مكافآتهم الموعودة، وعندما دخل السلطان محمد الفاتح المدينة في موكب النصر عند الظهر (لعل الأصح أنه ظهر اليوم الرابع من الفتح وليس ظهر يوم الفتح نفسه) أصبح كل القتال والنهب والفواجع والتخريب في عداد التاريخ، ورغم أن المشهد إعادة لما قام به اللاتين سنة 1204 فإن الأتراك لم يدمروا “في أي وقت احتلوا فيه مدينة، لا قبل هذا الحادث (أي الغزو اللاتيني الصليبي) ولا بعده بالشكل الذي دمر به هؤلاء الفوضويون من الفرنسيين والإيطاليين والفلمنكيين القسطنطينية المسيحية، وقد بقي أثر هذه الأيام الثلاثة التي استبيحت بها المدينة بوحشية لا تعرف الرحمة في ذاكرة الشرق الأرثوذكسي إلى الأبد”.

ثم شجع الفاتح الهجرة إلى المدينة “لإعادة إعمارها” حيث كادت أن تصبح خاوية، ودعا اليونانيين الهاربين إلى العودة ومنحهم مساكن في منطقة الفنار المحيطة بقصر البطريرك، ولم يسمح لهم بتقلد المناصب الحكومية ولكنهم صاروا عمالاً وتجاراً وصيارفة “وعاشوا بسلام”، “ونقلت قرى كاملة من أراض أجنبية لتستقر في المدينة مع سكانها من الصرب والبلغار والأرمن”، واستمرت الإدارة التي نظمها الفاتح إلى القرن التاسع عشر “وأصبحت القسطنطينية مدينة عظيمة مجدداً ولكنها كانت هذه المرة مسلمة لا مسيحية، وعاصمة للشرق”.

ويعيد المؤرخ ول ديورانت ما قاله عن الغزو الفرنجي في قصة الحضارة عند الحديث عن فتح القسطنطينية: “وقتل المنتصرون الألوف، حتى توقفت كل محاولة للدفاع، ثم بدأوا النهب والسلب الذي يجنح إليه الظافرون والذي طال تعطشهم إليه، وأخذ كل بالغ ينتفع به في العمل غنيمة، واغتصبت الراهبات كغيرهن من النسوة في ثورة من الشهوة لا تعرف التمييز، ووجد السادة والخدم من المسيحيين بعد أن زال عنهم الكساء الذي يدل على مكانتهم، أنفسهم متساوين فجأة في العبودية التي لا تمييز فيها، وكبح جماح النهب والسلب هوناً ما”.

ولكنه يضع العثمانيين في سياق المقارنة بزمنهم ويبين المآل المشرق للقسطنطينية في زمن السلطان سليمان القانوني، فتحت عنوان “الحضارة العثمانية” قال إن الانطباع بأن العثمانيين كانوا متوحشين همجاً مقارنة بالمسيحيين ليس إلا وهماً كان القصد منه إطراء الذات، فأساليب الزراعة لدى العثمانيين وعلومهم كانت في أسوأ الأحوال تضارع ما كان موجوداً في الغرب، وتمتع المسيحيون واليهود بقدر كبير من الحرية الدينية، ولأن التوتر بين الكاثوليك والأرثوذكس أفاد العثمانيين، فقد احتضن السلطان محمد الفاتح الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية عمداً، ويحتمل أن شوارع القسطنطينية العثمانية خلت من حوادث القتل أكثر من أية عاصمة أوروبية أخرى، وفضلت الأقاليم المسيحية التي وقعت تحت الحكم العثماني مثل رودس واليونان والبلقان، هذا الحكم على أحوالها السابقة تحت حكم فرسان القديس يوحنا في رودس والبيزنطيين في اليونان والبنادقة في البلقان، وحتى المجر نفسها رأت أن أحوالها في ظل سليمان القانوني أفضل مما كانت عليه في أيام الهابسبورغ.

وتحت عنوان الأخلاق كتب ديورانت إن التشريع التركي كان صارماً في الحرب خصوصاً، ومع ذلك فإن كثيراً من المدن التي استولى الأتراك عليها نهضت أكثر من المدن التي استولى عليها المسيحيون من الأتراك، ويمكننا أن نسرد في هذا المجال ما أورده عن احتلال الإمبراطور شارل الخامس لمدينة تونس سنة 1535 حيث قال إنه دخل المدينة دون مقاومة وأباح لجنوده السلب والنهب لمدة يومين حتى لا يتمردوا، فلقي آلاف المسلمين حتفهم، ودمرت حصيلة قرون من الفنون في يوم أو يومين، وتم تحرير الأرقاء المسيحيين ووقع من بقي من المسلمين في براثن العبودية.

وتحت عنوان “سليمان نفسه” كتب يقول إن السلطان سليمان لم يكن مهيباً أو عظيماً في مظهره، بل في حجم تجهيزات جيوشه واتساع حملاته وزينة عاصمته وفي تشييد المساجد والقصور والقناطر، كان عظيماً في روعة كل ما يحيط به وفي حاشيته، ثم عظيماً في قوة حكمه وفيما حققه، ولأول مرة يضم حكم إسلامي واحد مدناً عظيمة دفعة واحدة: قرطاجة، ممفيس، صور، نينوى، بابل، تدمر، الإسكندرية، القدس، أزمير، دمشق، أفسوس، نيقية، أثينا، طيبة المصرية وطيبة اليونانية، ورغم تسرب الانحلال والفساد في الحكومة فقد قال مارتن لوثر رائد الإصلاح الديني البروتستانتي إنه مما يقال إنه ليس هناك حكومة زمنية أفضل من حكومة الأتراك.

وفي مجال التسامح كان سليمان أجرأ وأكرم من أنداده المسيحيين الذين سعوا لتوحيد المذاهب داخل دولهم، ولكن سليمان رخص للمسيحيين واليهود بممارسة ديانتهم في حرية تامة، وكانت عيوب سليمان في علاقاته العائلية أكثر من عيوب حكومته، ومع ذلك لم نسمع عنه أنه كان يلازم الحريم إلى الحد الذي يضعف صحته وقوته (نقطة هامة لمن يعتنق الصورة الإعلامية عن السلطان من المسلسلات التلفزيونية الرائجة)، ورغم الأخطاء التي ارتكبها والتي تلازم عادة السلطة المطلقة، فإنه كان “أعظم وأقدر حكام عصره دون منازع”.

ويقول الدكتور مصطفى محمد قاسم إن “الاقتران بين آل عثمان والقسطنطينية أنتج أقوى وأكبر إمبراطورية تركية إسلامية، وربما في تاريخ العالم، غطت مناطق شاسعة من جنوب أوروبا وشرقها ووسطها وغرب آسيا ووسطها وشمال إفريقيا، وامتد نفوذها إلى شرق آسيا وجنوب شرق آسيا، وكانت على امتداد تاريخها واحدة من القوى العظمى العالمية وجزءاً من نظام الدول الأوروبية، وكانت عاصمتها واحدة من أكبر العواصم الإمبراطورية في العالم وأعظمها ثراء، وفي بعض الفترات أكبرها وأعظمها ثراء على الإطلاق”.

ويؤكد أكثر من مؤرخ ذلك، فيقول الأستاذ ألبرت حوراني: “وقد نمت استنبول بالمقارنة من مدينة صغيرة في الفترة الواقعة مباشرة قبل الاحتلال العثماني لتصبح بعده مدينة تعد 700 ألف نسمة في القرن السابع عشر، وقد كانت أكبر من أكبر مدن أوروبا مثل نابولي وباريس ولندن”، وهو العدد نفسه الذي تحدث عنه فرانسيس فوكوياما في كتابه “أصول النظام السياسي”.

http://gty.im/503229291

وتقول موسوعة تاريخ العالم إن السلطان محمد الثاني حاصر القسطنطينية 54 يوماً ثم دخلتها قواته، وكانت في ذلك الوقت مدينة مهملة تراجع عدد سكانها إلى 50 ألف نسمة، ولكن العثمانيين شرعوا في حملة رسمية ضخمة لإعادة إسكانها وبنائها، وشجعوا أو أجبروا الآلاف من السكان الجدد على إعادة الاستقرار فيها، ورمموا وطوروا البنية الأساسية في المدينة كالطرق والجسور والأسوار والأسواق وإمدادات المياه، وبأمر من السلطان، قام المسئولون الحكوميون الكبار بتأسيس المئات من المدارس والمساجد وسبل المياه وغيرها من المنشآت العامة التي أوقفوا لها ممتلكات خاصة ضخمة للإنفاق على الحفاظ عليها على المدى الطويل.

وبهذا برزت المدينة بصفتها أكبر المراكز المدنية في المشرق وأكثرها تألقاً، وقد وصل عدد سكانها إلى 400 ألف قبل القرن التاسع عشر، وكان حوالي 45% منهم من غير المسلمين (الغريب أن يحول بعض “التقدميين” هذا المظهر الإيجابي من التسامح الإسلامي إلى دليل على عدم إسلامية الدولة العثمانية حيث “معظم” سكان عاصمتها من غير المسلمين، وبهذا يحاولون فرض مقاييس مرفوضة إسلامياً على تاريخه لمجرد الرغبة في وصمه، دون استشارة أصحاب الشأن أنفسهم، متناسين في الوقت نفسه أن صفة الاحتكار الفكري أكثر التصاقاً بواقع التاريخ السوفييتي الشيوعي الذي صفى كل معارضيه حتى من داخل المدرسة الماركسية نفسها)، وفي السنة التالية للفتح (1454)، أعاد السلطان الفاتح للكنيسة الأرثوذكسية اليونانية جميع امتيازاتها التقليدية، مانعاً كل الهيئات الكاثوليكية اللاتينية في دولته.

ويذكر المؤرخ اليوناني أستيريوس أرجيريو في دراسته “المسيحيون في العصر العثماني الأول (1517-1650)” أنه “منذ فترة طويلة وقبل زوال الإمبراطورية البيزنطية سرى تيار فكري قوي داخل عالم الأرثوذكسية يقول بأن الخضوع للأتراك كحل سياسي هو أجدى بكثير من خضوع كنيسة القسطنطينية لبابا روما، لكن بعد سقوط القسطنطينية ورؤية “الإمتيازات” الممنوحة لبطريركها والسياسة الدينية التي اتبعها الحكم العثماني حيال أتباعه من المسيحيين برز بوضوح طرحان: الأول، كيفية تعايش المسيحيين والمسلمين، والثاني: كيفية تعاون الكنيسة المسيحية والحكم الإسلامي….

ويلاحظ في هذا الصدد أن مؤرخي الأرثوذكس في مؤلفاتهم لهذه الحقبة يصفون الإمبراطورية العثمانية بأنها تواصل طبيعي للإمبراطورية البيزنطية ويصورون سلاطين بني عثمان كخلفاء لأباطرة بيزنطية المسيحيين، كما في تاريخ القسطنطينية السياسي الذي نشره مارتينس كريسيوس (1584) ومختصر تاريخ هيروكوسميكس لبطريرك أورشليم نكتورس (1661-1669)، المنشور في البندقية عام 1667، الذي ذهب في حديثه عن السلطان سليمان القانوني إلى حد تسميته “السلطان الخالد الذكر”.

ولاحقاً، أي بعد حوالي مئة وعشرين عاماً من تحرير “الكتاب” المذكور- أي في أواخر القرن الثامن عشر عندما بدأت الشعوب البلقانية بالاستعداد لخوض الحرب في سبيل التحرر من ربقة النير العثماني- ظهرت سلسلة من الرسائل البطريركية ونصوص دينية-سياسية صادرة عن أوساط القسطنطينية، تعطي السلطان الصلاحيات عينها والمهمة عينها التي تعطيها للإمبراطور المسيحي، وتدعو المؤمنين والإكليروس الأرثوذكسي إلى تقديم واجب الطاعة والخضوع للسلطان الأكبر حامي الإيمان القويم، الخليفة المقتدر، المبوأ بمشيئة الله، من أجل إتمام مقاصده التي لا يسبر غورها….. وبانضمام البطريركيات الشرقية الأرثوذكسية الثلاث [أنطاكية، الإسكندرية، أورشليم] سنة 1517 إلى الإمبراطورية العثمانية.

تمكنت هذه البطريركيات سريعاً من إقامة علاقات مباشرة ببطريركية القسطنطينية، متقبلة بلا عائق يذكر اللاهوت الجديد هذا حول السلطة، وقد تمكن كبار بطاركة الإسكندرية وأورشليم الذين يمتد نفوذهم إلى كافة العالم الأرثوذكسي وحتى إلى ما وراء حدود الأرثوذكسية، من التكيف مع الوضع الجديد وعرفوا كيف يستخلصون منه أكبر قدر من المكاسب، وتوصلوا مثل بطاركة القسطنطينية إلى أن ينخرطوا في اللعبة السياسية الدولية وأن يعملوا لمصلحة الإمبراطورية العثمانية، إن موقف الكنيسة الأرثوذكسية هذا من السلطة العثمانية لا يتناقض مع علاقة البطريركيات الأربع المشرقية بالإمبراطورية الروسية الأرثوذكسية، ولا مع رجاء شعب مغلوب على أمره وتطلعاته الرؤيوية نحو الدور الذي على القيصر أن يلعبه كمنقذ”.

وتذكر المؤرخة ثريا فاروقي أن هذا الوضع لم يتبدل إلا في أواخر القرن الثامن عشر نتيجة سخط رعايا الدولة العثمانية الأرثوذكس من عدم قدرة الحكومة على حماية الشعب الذي تفرض عليه الضرائب، وذلك بعد الهزائم العثمانية أمام الروس في تلك الفترة، “مما جعل الكثير منهم أكثر ميلاً إلى ربط مصيرهم بجيوش الإمبراطورية الروسية مما كان عليه الحال في الفترات السابقة”، وهذا هو ما يسجله الدكتور حاتم الطحاوي.

(لتفاصيل أكثر عن مكانة القسطنطينية بعد الفتح وإعادة حقوق أهلها ومكانة المدينة العثمانية في كتابات الغربيين يمكن مراجعة الكتابين المفصلين للمؤرخين برنارد لويس (استنبول وحضارة الخلافة الإسلامية) وفيليب مانسل (القسطنطينية المدينة التي اشتهاها العالم).

كيف انتهت التعددية

http://gty.im/804445124

بقي بعد ذلك أن نتساءل: كيف قضي على هذه التعددية السكانية والثقافية؟ الجواب هو أن قومية كمال أتاتورك العلمانية هي التي قامت بالتطهير العرقي، وفي ذلك يقول المؤرخان فيليب فارج ويوسف كرباج إن ثلاثة ملايين مسيحي سوف يدفعون ثمن تصادم القوميات وميلاد تركيا الحديثة وتقلبات السياسات الغربية الأمريكية والفرنسية والبريطانية التي تخلت عنهم بعد القيام بإثارتهم، والروسية التي تبدل وجهها بعد الثورة البلشفية، ودفع اليونانيون على وجه الخصوص ثمن طموحات الحكومة اليونانية الزائدة عن الحد والمدعومة بقوات الحلفاء بعد الحرب الكبرى الأولى، ورغم الأفول الذي تعرض له اليونانيون لصالح الأرمن في اسطنبول والأناضول بعد استقلال اليونان (1830)، فإنهم استمروا في الدولة العثمانية لقرن بعد ذلك وفضلوا ازدهارهم فيها على حريتهم في اليونان.

بل سنجد هجرة من اليونان إلى دولة الخلافة تعزز مواقعهم حيث كان القادة العثمانيون يريدون الحفاظ على البنية متعددة القوميات، أما مصطفى كمال أتاتورك فكان أقل كرماً، وفي سبيل تحقيق التجانس القومي الذي لم تستطع جمعية الاتحاد والترقي تحقيقه تم الطرد السكاني المتبادل بين اليونان وتركيا (1923)، والذي لم يكن طرد يونانيين من تركيا وأتراك من اليونان بل طرد أتراك مسيحيين من تركيا ويونانيين مسلمين من اليونان، واستمر نزيف اليونانيين وبقية الأقليات من تركيا، ومنها الجماعة العربية المسيحية بعد المنحة الفرنسية (الاسكندرونة) لتركيا عشية الحرب الكبرى الثانية، لمدة عشرات السنين بعد سنة 1923 في ظل الإجراءات الاقتصادية المتحيزة والحملات الصحفية العنصرية، “وبدلاً من تحقيق السكينة لآخر الباقين من الأقليات ، التي اعتادت على مدار عدة قرون على الاستقلال الذاتي الإداري والديني في ظل نظام الملل، أدت العلمانية إلى تشديد هشاشة وضعهم”، ومع إلغاء الخلافة الإسلامية يُطرد البطريرك اليوناني الأرثوذكسي المقيم في اسطنبول، وتُغلق الجمعية الأدبية اليونانية والمدارس اليونانية، أو يعين عليها مدراء ومدرسون أتراك.

“ومن بين جميع الكوارث التي ميزت تاريخ الجماعة المسيحية في بلاد الإسلام منذ الهجرة (النبوية)، فإن السنوات العشر التي اختفت خلالها الجاليتان الأرمنية واليونانية من تركيا، بين عامي 1914 و 1924، كانت الأكثر جسامة، إن التكلفة البشرية ، 3 مليون نسمة، والمذبحة والمفاجأة غير المتوقعة، قد قطعت بشكل حاسم مسار التاريخ الإسلامي.

والمفارقة الأولى هي أن اختفاء المسيحيين يخالف التطورات التي ترتسم معالمها، فالواقع أنه قد حدث في ظل نظامين عصريين، نظام جماعة تركيا الفتاة والنظام الكمالي، اللذين كانا مفعمين بالروح العلمانية (وهناك من جادل بأن قادة الاتحاد والترقي كانوا من الملحدين وأن معركتهم مع المسيحيين كانت قومية لا إسلامية)، واللذين شكلا بديلاً راديكالياً لسلطة أضفت الشرعية على الإسلام، ولم يكن هناك ما يسمح في اتجاهات ديموغرافيا المسيحيين بالتنبؤ باختفائهم…والمفارقة الثانية هي أن الإسلام الظافر كان يتفاخر بحياة مشتركة مع المسيحيين واليهود، أما إسلام زمن الانحطاط…فإنه يكبتهم….لا مراء في أنها (الإمبراطورية) قد قدمت بنية فريدة قادرة على ضمان السلم الأهلي، وقد استفادت من ذلك ديمغرافية الطوائف المسيحية واليهودية، وقد شهدت نمواً طبيعياً أكثر ارتفاعاً بفضل نظام الملل….وكان المسيحيون ضحايا لإفقار الشعب التركي، كما كانوا، بلا مراء، ضحايا المشاعر المتناقضة التي حفزها لدى هذا الشعب النموذج الغربي”.

“والحال أن السلطان، الذي يخضع جماعات سكانية مسيحية متزايدة العدد بلا توقف، لا يجبرها على التحول إلى اعتناق الإسلام، بل يشركها في السلطة، وسوف يكفي عقد واحد، بين عامي 1914 و 1924، حتى تتوصل الدولة العلمانية المولودة من حطام الإمبراطورية إلى تدمير هذا البنيان لحساب أمة تركية ومسلمة فقط، إن ألف سنة من التاريخ المتعدد الطوائف سوف يجري محوها في عشر سنوات”، وسوف تلجأ السلطة العلمانية إلى أساطير النقاء العرقي، والتي يرفضها الإسلام رفضاً قاطعاً، لتبرير مواقفها الاستئصالية على عادة الأنظمة العلمانية الشاملة كالنازية والفاشية والصهيونية.

ولم يعد في تصور الأجيال اللاحقة أن الأناضول الحالي كان لمدة قرون عثمانية مساحة متنوعة من الطوائف المتعددة ذات الأعداد الضخمة التي تتخلل المسلمين في وسطهم وليس على حدودهم، وظلت كذلك إلى زمن قريب جداً، على عكس الانفراد المسلم الذي أوجدته العلمانية، وهو انفراد اتخذ الهوية التركية على حساب الوجود الكردي أيضاً والذي سحقته بدموية تلك العلمانية بحجة الانسجام القومي للمساحة التي خصصت للأتراك بعد تنازل مصطفى كمال أتاتورك عن الأملاك العثمانية للدول العظمى في اتفاقية لوزان 1923، هذا بالإضافة إلى الوجود العربي المسيحي في الاسكندرونة والذي سيرحل لصالح الانسجام الديني والقومي في تركيا العلمانية، بل يطال الاضطهاد الوجود اليهودي الذي ظل معفياً من الملاحقة زمناً طويلاً.

ويلخص المؤرخ الأسترالي ذو الأصل اليوناني نيكولاس دومانيس، الذي وضع كتاباً خاصاً عن تعايش اليونانيين مع الأتراك في الدولة العثمانية، الأمر بقوله إن القضاء على الدولة العثمانية أدى إلى زوال واحدة من أكثر الدول التعددية استمراراً واستقراراً في التاريخ.

قسطنطينية الأحلام في الدعاية المؤيدة للاستعمار

http://gty.im/463954043

يبدو أن الحملة لا تنتهي حتى عندما يرون مكانة القسطنطينية العظيمة في التاريخ العالمي بعدما فتحها العثمانيون، ويتعرفون على سبب تدهور الأمور بعلمانيتهم الاستئصالية، فلا بأس حينئذ في اللجوء إلى الخيال المريض ليصور لهم أحلام يقظة غير واقعية وذلك بنشر صورة خيالية تشبه مدن الفضاء في أفلام الخيال العلمي والادعاء بلا أي سند علمي أن هذا كان مستقبل القسطنطينية الأسطوري لو لم يدخلها العثمانيون، الغرب إذن يتحدث عن وقف النمو وقطع طرق المسيرة الحضارية، أي يتهم الآخرين بالجريمة الحصرية التي مارسها ضد العالم كله ولم يمارسها أحد قبله.

صوروا خيالاً لم يتحقق إلى اليوم في أي مدينة في الغرب لم يرها العثمانيون في أحلامهم فضلاً عن أن يصلوها، فهل كان من المطلوب أن يشيد العثمانيون مدن أفلام الفضاء أو أفلام الخيال العلمي على الأرض؟ وإذا كان من الممكن تحققها فيجب أن تكون جزءاً من العالم الذي ينهب الآخرين لحساب رفاهيته إذ لا توجد في العالم كله مدينة تعيش بإمكاناتها الذاتية يمكن أن تصل إلى هذا الخيال، ومدن الغرب المتقدمة وصلت على حساب الآخرين، والعثمانيون لم يكونوا من هذا الصنف في تاريخهم.
حال المتحدث بالضبط هو حال من رمتني بدائها وانسلت، الذين قطعوا طرق الحضارات وأوقفوا نموها وحطموا العالم لأجل رفاهيتهم الذاتية يتهمون الآخرين بجريمتهم، اسطنبول لم تنهب 80% من خيرات العالم ليعيش بها 20% من سكان الأرض فقط كما يفعل العالم الغربي اليوم، نعم اسطنبول كانت درة عثمانية شهد بها شهود العيان الغربيون أنفسهم وكتبوا عنها الكثير ولكن ضمن النطاق البشري المعقول، ليرى المفترون ما قاله الغربيون بأنفسهم عنها مقارنة ببقية عواصم أوروبا في زمنها، سواء كانوا شهود عيان أم مؤرخين.

المحك هو المقارنة بالأقران وليس بالخيال، لا نريد الخيال الواسع بل الحقيقة المدونة، وكان هناك مدن تناظرها في العظمة داخل الدولة العثمانية كالقاهرة وحلب لأنها لم تحتكر الموارد، ولم تكن مجرد خيال يبهر عيون البسطاء، سبحان الله ما أوقح الاستعمار وما أجهل من يعجب به، في زمن الحضارة الإسلامية كانت إفريقيا تزخر بإمبراطوريات ضخمة لأنه لم يكن هناك مركز يستغل أطرافاً، فأين هي إفريقيا الآن في زمن الغرب؟ وأين الغرب منها؟ وأين أصبح كل العالم الثالث الذي يلهث خلف لقمة العيش وحدها؟.

نسي الحالمون أن القسطنطينية دمرها صليبيو الحملة الرابعة سنة 1204 وما أعقبها من احتلال أوروبي وكوارث ولم تفق من الدمار إلى زمن العثمانيين الذين كانوا هم الذين أعادوا رونقها فعلاً وكل هذا بشهادة الغربيين أنفسهم، لا على طريقة الاستعمار الذي جاء يمدن فدمر، ويمكننا أن نرسم مدناً كهذه ونتساءل مثلاً: أين كانت ستصل بغداد لو لم يحطمها الغرب؟ وإذا كان الغربيون قد نسوا افتتانهم القديم بها أكثر من هذه الصورة منذ قصص ألف ليلة وليلة حتى جاءوا هم واقتلعوها من الجذور، فلنا أن نكون أكثر واقعية ونأتي بالصور الحقيقية وليس من نسج الخيال المريض لنرى قبل وبعد مجيء الغرب.

خاتمة

http://gty.im/464437125

من مقارنة الحملة الصليبية الرابعة على القسطنطينية سنة 1204 بالفتح العثماني سنة 1453 وجدنا أن الصليبيين دمروا المدينة التي تنتمي إلى ديانتهم بسبب الجشع الذي استمر بعد دخولها زمناً طويلاً ولم تفق منه إلى مجيء العثمانيين الذين يختلفون مع البيزنطيين في الانتماء الديني ولهذا كان الخلاف وارداً في طبيعة ذلك الزمن، وتختلف الروايات بين فتح مدمر وفتح منضبط وقد عرضت ما يجعلنا لا نسلم آلياً بروايات الدمار، ولكن في جميع الأحوال نهضت المدينة بعد ذلك لتصبح أعجوبة الدنيا في تناقض جذري مع نتائج الحملة الصليبية، وقطف جميع العثمانيين ثمار هذا الازدهار بغض النظر عن انتماءاتهم المتنوعة جداً، ونال اليونانيون نصيباً كبيراً من هذا الازدهار الذي عمّر قروناً.

والمهم في هذا النصيب ليس مثاليته المطلقة، فهي محال يجب الكف عن البحث عنه أو القياس به، المهم أن هذا الازدهار كان أفضل حالاً من السابق كما كان أفضل حالاً من الأوضاع في البلاد الأخرى في نفس الزمن، بل ومما لحقه من أوضاع مأساوية بعد انهيار الدولة العثمانية، ولم تتوقف المسيرة إلا بقومية العلمانيين الأتراك الذين قضوا على واحدة من أكثر الدول تنوعاً واستقراراً في التاريخ، وكما رأينا اتبعت منهجية في البحث التاريخي تتجنب نقض الروايات وتتجه لاستخلاص العبر التاريخية مع التسليم بأقصى ما يدعيه المتحاملون، دون الدخول في معركة التصديق والتكذيب، ومثلاً في موضوع فتح القسطنطينية.

وأركز في فكرتي على عدم تضخيم لحظة المعركة كثيراً، فمن طبيعة كل المعارك البشرية سفك الدماء والنهب، لماذا يطلبون إلينا أن نشذ عن القاعدة في الوقت الذي لا يلتزمون هم فيه بذلك في القرن الحادي والعشرين؟، وحتى لو كنا مثاليين فمن الصعب الإثبات في خضم الروايات المتحاملة، منهجي هو التسليم بكل ما يقولونه في ذلك، لا بأس وقع كل ما تدعونه من قتل واستباحة ونهب، ولكن انظروا إلى التاريخ الممتد بعد ذلك مدة قرون وإلى الحياة اليومية التي سادت في المدينة والتي نص حتى المتحاملون على أنها استعادت عافيتها بسرعة وصعدت إلى قمة العالم في مدة معقولة ولم يستثن أحد من هذا النمو.

فلا اليونانيين ولا الأرمن ولا اليهود ولا الأوروبيين فضلاً عن المسلمين كانوا بعيدين عن قطف ثمار هذا النمو، حتى اليونانيين عادوا إلى بيوتهم وعوضت ممتلكات من خسر شيئاً، مَن مِن فاتحي الأمس واليوم وغداً فعل أو سيفعل ذلك؟ يحاولون تضخيم الدماء كما فعلوا في غزوة بني قريظة، حتى ألجئوا بعض الباحثين لتقليل عدد القتلى بشكل مضحك وبخجل ملحوظ، ولكن لماذا التركيز على لحظة المعركة للإيحاء باضطهاد عنصر كان يعيش في قمة الغنى والثروة والمناصب في ألفية الحضارة الإسلامية، ولو كانت غزوة بني قريظة أو لحظة فتح القسطنطينية هي الدلالة العظمى لما بعدها أو لأي نزعات استئصال أو استئثار فكيف حدث كل الازدهار الجماعي لتلك الشعوب؟ لماذا ننسى الثوب كله ونركز على بقعة لم تعد مرئية فيه واختفت مع الزمن؟ يجب أن نقيس الحدث بنظائره في زمن ومدى تطوره عما سبقه وعما حدث بعده من تدهور.

هذه هي الواقعية ودعنا من المثاليات الدونكيخوتية التي لم ولن تتحقق إلا في أخيلة الحالمين ومن ثم لا مكان لها في الواقع الذي يهم الناس العاديين، إن الغرب يدخل ويبيد ثم يحتكر البناء والفوائد لنفسه ويسوق العالم للتطبيل لما يحتكره دون بقية الناس حتى الأهالي الأصليين، ثم يهاجموننا بقلة حياء لا نظير لها دون مقارنة منصفة بين ما قدمناه وما قدموه هم للآخرين، قصدي ألا يشغلكم لحظات بسيطة مما يسود عادة في المعارك البشرية، انظروا لما بعدها وكم استمر ذلك؟.

فهنا هي المعركة الحقيقية وستجدون الإجماع عليها من الموافق والمخالف بدلاً من رمي كل الثقل خلف آراء من السهل دحضها عن معارك بالورود والموسيقا، أو الانبهار بكلام أنصار الاحتلال الأجنبي في زمننا وهم يصفقون ويهتفون له وهو يسفك الدماء وينهب ويغتصب ويحتل وينتهك الحقوق ويلوث الأرض والبشر بأسلحته المحرمة وينشر الجهل والمرض والفقر والتعصب والانقسام والفساد، ثم يريدون منا أن ندين الممارسات الأقل منها في ساحة معاركنا فقط بغض النظر عن مدى ثبوتها أو مآلاتها الحسنة، دون أن يقوموا هم بنفس الإدانة لأسيادهم، وهو ما يؤكد أن المعركة ليست حول القيم الإنسانية بل على فرض الاستسلام غير المشروط على أمتنا.

وهذا لا يعني الرغبة في تبرير أخطاء الذات بخطايا الآخرين، ولكننا عندما نكون بين النماذج المتاحة علينا الاختيار بين الأفضل فيها والأصلح للبناء فوقه دون التقيد بسلبيات صدرت عنه، فالواقعية تقتضي مراعاة الممكن عملياً وليس مجرد السباحة في خيال المثاليات التي لم تطبق يوماً، هذه مكانها في الأحلام والأساطير ولا تصلح للعرض البشري، أما من يريد الواقعية فلديه نماذج يمكنه أن يختار الأفضل منها الذي يتيح المجال للجميع ان يدخلوه ولا يقتصر على فئة دون أخرى وليس الاستئصال أو الاستئثار من طبيعته البنيوية، وهذا ما يسهل تجنب ما حدث في الماضي من ثغرات بشرية، خلافاً للنماذج المصممة لفئة حصرية ولم تقبل في تاريخها دخول الآخرين في جنتها وأصرت على الاستبعاد للآخرين والاستئثار بالمنافع وحدها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى