سقوط الأندلس: قراءة وتحليل (الجزء الثاني)

أشرنا في الجزء الأول من هذا المقال، كيف أن الأندلس قد عرفت عبر القرون الأربع الأخيرة من تاريخها؛ هزات وسقطات أدت في النهاية إلى السقوط الكامل عام 897هـ/1492، وكما أسلفنا الذكر فقد كانت هذه الهزات في الحقيقة سقوط متكرر انطلق بالفتنة الأندلسية وملوك الطوائف، ثم بنهاية الحكم المراكشي، لينتهي الصراع الإسلامي النصراني بزوال دولة بني الأحمر في غرناطة، آخر معاقل المسلمين بالأندلس في نهاية القرن التاسع الهجري والخامس عشر الميلادي. لكن ماذا بعد ذلك؟ فبالتأكيد لم تنتهي النكبة الأندلسية في هذا الحد، بل بدأ شكل آخر من مأساة المسلمين بشبه الجزيرة الأيبيرية، وبدأت مرحلة جديدة في التاريخ الإسلامي والعالمي تغيرت فيها الموازين وتبدلت فيها الأحوال.

الأندلس ما بعد السقوط

الأندلس

نصَّت اتفاقية تسليم غرناطة على حصول المسلمين على كافة الحقوق والحريات في الممارسة التعبدية والحياة الاجتماعية، لكن ما إن استتب الأمر للنصارى حتى غدروا بهذه المعاهدة، فانتهكوا بنود الاتفاق فبدأوا بتحويل المساجد إلى الكنائس، وبمحاربة جميع المظاهر الإسلامية، فنشأت محاكم التفتيش التي جسدت تعصب النصرانية في حق المسلمين، الذين تنصروا قهرًا وأخفوا الإسلام وسموا بالموريسكيون.

فعانى الأندلسيون المقهورون عقودًا طويلة من إرهاب ديوان التفتيش وجرائمه، فكانت هذه المحاكم التي شرعها الرهبان بأمر من البابا، تذيق كل أصناف التعذيب والتنكيل بأهل الأندلس، من أجل الكشف عن عقيدتهم المخفية، فكان هذا من الفترات المظلمة التي تألم فيها المسلمون في التاريخ، فقُتِلوا تحت التعذيب الوحشي وهُجِّروا واضطُهِدوا طويلًا، حتى ثار آخر من بقي منهم في ثورة البشرات عام 975هـ/1563م، التي كانت آخر حراك إسلامي ضد الاضطهاد النصراني الفظيع، وبعد أن تم إخمادها بدأت إسبانيا تزيد من سياساتها ضد المسلمين، حتى صدر الطرد الشهير عام 1610م ضدهم، وبذلك انتهى الوجود الإسلامي في شكله الأخير ببلاد الأندلس.

حالة الغرب الإسلامي وبلاد المغرب بعد زوال الأندلس

تزامُنًا مع التراجع الإسلامي في بلاد الأندلس؛ برزت الممالك النصرانية بقوة في شبه جزيرة أيبيريا، فكانت البرتغال أول هذه الدول التي استولت على إرث المسلمين وانطلقت في البحار تغزو الأراضي، وجاءت إسبانيا بعدها في آخر سنوات القرن الخامس عشر بعيد سقوط غرناطة وانتهاء الدولة الإسلامية الأخيرة (بني الأحمر) في البلاد الأندلسية، هذه الأخيرة التي كان فقدانها بمثابة ضربة قوية لمنطقة الغرب الإسلامي بأسرها، وبلاد المغرب الكبير الذي كان يعيش حالة من الانقسام والاضطرابات، فقد اضمحلت الدولة المرينية في المغرب الأقصى وقام مكانها الوطاسيون أقرباؤهم، كما انكمش سلطان بنو زيان في تلمسان وضعف الحكم الحفصي بتونس، وقد كان الصراع بين هذه الدول الثلاثة في الوقت التي تدنس فيه الجيوش الصليبية أراضي المسلمين وممتلكاتهم، وبعد سقوط غرناطة أطلق البابا يد اسبانيا والبرتغال على بلاد المغرب، مما مهد لحرب صليبية جديدة.

وكانت سبتة أول مدينة مغربية سقطت في يد الأيبيريين النصارى حيث احتلها البرتغال عام 818هـ/1415م، ووجهوا أنظارهم بعد ذلك إلى الساحل الأطلسي للمغرب، بينما سيطر الإسبان على موانئ المتوسط وهاجمت المغرب الأوسط والأدنى، كما أخضعت النصف الغربي لحوض بحر الأبيض المتوسط، وارتكب هؤلاء الصليبيين مجازر شنيعة في حق المسلمين، وكانت الحملة الصليبية على المغرب خطوة انتقامية من طرف الكنيسة الكاثوليكية، من أجل عدم تكرار تجربة الأندلس في نظرهم، لكون المغرب الدعامة الخلفية لتاريخ الجهاد الأندلسي، ولم يوقف هؤلاء الأيبيريين عند حدهم سوى المجاهدين المغاربة بالإضافة إلى العثمانيين، الذين قاتلوا واستردوا سواحل الشمال الأفريقي، مما أفقد النصارى تحكمهم في مياه المتوسط.

تداعيات السقوط الأندلسي والتحولات الطارئة على الأمة والعالم

شكل سقوط الأندلس ضربة مزلزلة للأمة الإسلامية، التي بدأت بالفعل تخسر مجالها وحيويتها وتفقد نشاطها الحضاري، وكان زوال دولة الإسلام في شبه الجزيرة الأندلسية منعطفًا خطيرًا في التاريخ الإسلامي، حيث دخلت الأمة مرحلة طويلة من الركود والتراجع، أمام أوروبا التي عرفت نهضة على حساب المسلمين، لاسيما في الأندلس حيث انتصرت الصليبية وأخد النصارى ميراث المسلمين وكنوزهم، فبدأوا يبسطون قوتهم التي ستمتد لتسيطر على العالم بعد ذلك.

والعالم نفسه قد دخل عصرًا جديدًا، سُمِّي في التحقيب التاريخي الأوروبي “بالعصر الحديث”، وقد اتخذ بعض المؤرخين حدث سقوط الأندلس بداية لهذا العصر، وبالفعل فإن الأيبيريين أصبحوا يجوبون البحار ويسيطرون على الأراضي في العالم الجديد وفي جنوب شرق آسيا، فضربوا التجارة الإسلامية وضيقوا على المسلمين واحتلوا بعض بلدانهم، فكانت الخطة تطويق العالم الإسلامي كمرحلة أولية للإجهاز عليه.

وعلى المستوى الاقتصادي فقد بدأت أوروبا تنطلق بقوة في هذا المجال، في الوقت الذي يتدهور فيه اقتصاد العالم الإسلامي، حيث انتقلت الخطوط التجارة العالمية من البحر المتوسط الخاضع في معظمه للمسلمين (الدولة العثمانية)، إلى المحيط الأطلسي الذي يجوبه الأوروبيين من الإسبان والبرتغال ثم الإنجليز والفرنسيين.

والحصيلة النهائية في كل هذا هو أن سقوط الأندلس له أبعاد تاريخية حضارية؛ أكثر من كون هذا الأمر مجرد خسارة المسلمين إحدى أقطارهم العديدة في فترة معينة من التاريخ، فهذه البلاد كانت بلا شك من أهم أمصار العالم الإسلامي، كما كانت من أجَل نماذج الحضارة الإسلامية وتقدمها في حقبة العصور الوسطى، والأوروبيون عامة والأيبيريين خاصة لم ينسوا هذا، فهم ما زالوا يحتفلون بذكرى سقوط الأندلس، لكون هذا التاريخ بداية الاندفاع الأوروبي الاستعماري في بلاد الإسلام، والذي سيتفاقم في القرون الأخيرة، حيث الأمة في أسوء وضع لها في العصر الراهن، ولذلك فقضية الأندلس ليست للحنين والبكاء على الأطلال، بل لاستحضار تجارب التاريخ ودروسه، لنقف على قضايانا ومسائل هذا اليوم، ولنستشرف ونخطط للمستقبل المُشرق، وذلك كله سعياً لتحرير أمتنا الإسلامية، ومن ضمن مقتضياتها: استرجاع الأندلس.

عمر اعراب

كاتب باحث في التاريخ والحضارة، من المغرب

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى