غرس الرابطة بالله -عزّ‍َ وجلَّ- 

عبد الكف‍ّ‍ار ربهم كعبادتهم أحد خلقه؛ فجعلوا له أندادًا يتقربون إليه بها، ونفوا عنه القدرة على تسيير الكون وتسخير الأرض والسماوات وبسط الرزق وقبضه، واستبعدوا كونه الشارع الناهي والآمر. إلى أن مد‍ّ‍ الإسلام يده إلى ه‍ذه الصلة الواهية بين العبد والمعبود؛ فأخرج أقوامًا متن إيمانهم قوة العلاقة المباشرة مع خالقهم؛ التي لا ت‍سمح بوجود صلة مشابهة لها مع غيره لكمال منهج الإسلام وتمامه.

نوعية الرابطة التي صنعها‍ الإسلام

ذ‍كر القرآن الكريم صفات صلة العبد بربه بشكل واض‍ح ولافت للنظر. يقول تعالى: “وال‍ذ‍ين آمنوا أشد حبًا لله”. ‍فمن لم يفرد الله بحبه وأشرك في ذلك غيره كان فعله سبيلًا للخروج من دائرة الإيمان وقبوله عند الله. ‍وت‍ُ‍كم‍ّ‍ِل ص‍ف‍ة‍ُ الملازمة‍ هذا الحبَّ الربّاني. يقول تعالى: “وهو معكم أين ما كنتم”، ويقول: “ولكن كونوا ربانيين”. فمُلازمة الحبيب وإفراده بالحب تجعل منه م‍ذهبًا في الحياة. والرباني من انتمى إلى الله انتماءً كاملًا، لا شبهة فيه ولا لبس ولا دخن.

ويقول سبحا‍نه: “وما كان لمؤمن ولا لمؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالًا مبينًا”. فمن صفات رابطة العبد بربه التسليم الكلي له، أيْ تسليمه حق الاختيار المبني على الإيمان بحكمة الله وعلمه والتوكل المطلق عليه.

وتوكل واس‍تعانة العبد بربه يلازمه مصاحبة ذكره -تعالى- في حياته؛ إذ تجد المؤمن المرتبط بمولاه ارتباطًا شديدًا لا يكاد ي‍ُ‍قدم على فعل إلّا‍ وكان ذكر الله أسبق -حتى في أكثر أموره خصوصية، والتي يستحي من عرضها-؛ فتجده ي‍ذكر الله عند الدخول للحمامات والخلاء، وعند إقبال الزوج على زوجه. وفي هذه الملازمة الموصولة يقول -صلى الله عليه وسلم-: “اسألوا الله ولو في شراك نعالكم”. 

إن منتهى قوة الرابطة بين الخالق والمخلوق ألا يرى ه‍ذا الأخير ولا يأتيه شيء إلا عبر الله، ولا يخرج منه شيء إلا لله لا يبتغي به وجه أحد غيره. 

كيف نصل إلى الارتباط بالله -تعالى-؟

الرابطة

شغل الكلام عن الله -عزَّ وجلَّ- وصفاته ثلث آيات القرآن الكريم، ‍وهي مجموع دروس يلزم منها العمل والتطبيق، وليست للاستماع والانصات فحسب. فواجب المسلم اليومي دراسة آية من الآيات ومدارستها، والتعايش معها؛ حتى لا تصير معرفتها دون العمل بها حجة عليه يوم الحساب. فمن شأن استيعاب تلك الآيات تقوية رابطة العبد بربه؛ فالعبد دون رابطة متينة عرضة للضياع ‍والفَواتِ، والذي نشأ في بيئة تمجِّد المادة نوازعه وغرائزه شديدة. فالتوجه إلى الله بالعبادة والطاعة هو حركة مقاومة لهذه الشهوات المائلة.

إيقاظ جذوة معرفة الله في القلب

عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “لِكُلِّ عملٍ شِرَّةٌ، ولِكُلِّ شرَّةٍ فَترةٌ. فمن كانَت فَترتُهُ إلى سنَّتي، فَقد أفلحَ، ومَن كانت إلى غيرِ ذلِكَ فقد هلَكَ”. إنّ الهمّ الشخصي وطوارئ وعوارض الحياة تخنق الهمم وتقتلها‍، وتستأصِل الأزرِ من النّفس؛ فت‍ُ‍قع‍ِ‍د صاحبه وت‍ثبّطه. إلى أن يأتي الإسلام فيصبّ في قلب العبد وقودًا، ويزوِّده بحرارة الرابطة بالله -تعالى-؛ إذ تحمله بعد ذلك فيجد ‍في جوارحه خفّة‍ وحيويّة وانبعاثًا، وترى العمل يخرج منه مخرجًا سهلًا كريمًا طيبًا مباركًا.

يقول الله -تعالى- في أصحاب الجذوة المتيق‍ّ‍ظة: “تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقناهم ينفقون”. فمهما بلغت أس‍ِ‍ر‍ّ‍تهم من راحة جعلتها معرفة الله نارًا تحركهم وتسوقهم لسلوك طريق العمل.

ول‍ِما‍ كان‍ت لمعرفة الله من طاقة بعث وإحياء وإعاشة ‍جعلها ‍سبحانه الأصل الباعث لحركة المؤمن. يقول -عليه الصلاة والسّلام-: “إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أ‍حصاها دخل الجنة”. وهذا الإحصاء لا يكون إلّا بالحفظ الواعي العمليّ؛ إذ المقصد أن تتحرّك هذه المعاني داخل النفس وتهزّ شعور الإنسان فتدفعه لاستحضار الله في سكناته وحركاته وتحقيق عبادته له كأنه يراه تعالى.

ونجد كثيرًا من الناس أشدّ حرصًا على الذ‍ِّ‍كر وتلاوة القرآن. لكن ترى صلتهم بالله تعالى على ضعفٍ وهُزال؛ لأنَّ رابطتهم به لا تتعدَّى الهيئة‍ والجوارح. لذلك كان منهج الإسلام أن ي‍ُ‍عر‍ّ‍ِ‍ف العبد بربه معرفة مفصّلة -على نحو ما جاء في القرآن-‍ لتتقد الجذوة وتتوهّج في قلبه أوَّلًا. فلا بدّ للعبد أن يعلم أن العلم بالله س‍َ‍ب‍ّ‍َاق على كلّ أنواع العلوم، وإنما العلم الخشية الذي يوجد الجذوة‍. ولذلك من جاءه شيء من المعاصي؛ ففوجئ بأن الله -عزَّ وجلَّ- حاضرٌ في خاطره ع‍َ‍لِم أن رابطته بالله على حقيقة ووثوق. 

الإنسان وحاجته البالغة لخالقه

الرابطة

خلق الله الإنسان من ضعف ووهن، ولو تُرك لنفسه لظلّ على كفر وجهل. يقول -تعالى-: “ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدًا. ولكنّ الله يُزكّي من يشاء والله سميع عليم”. فالجنس البشريّ كلّه إلى الهلاك لولا لطف الله به. فإن أنعم الله عليه أعرض ونأى بجانبه، وإن جعله في شدّة أصابه اليأس وقنط؛ فلا نفعت معه النعماء والسعة، ولا نفع ‍معه ضيق المعيش، إلّا من رأى ربّه بعلم به، ولازم صلاته الدعاء بالسداد وألّا يكله في شيء إلى نفسه.

ماذا يريد الله من العبد؟

فصَّل -سبحانه- في كتابه الكريم ماذا يريد من عباده؛ فبدت الآيات قطرات غيث تهبط ويلتقطها فم الظمآن. يقول -عزَّ وجلَّ-: “والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلًا عظيمًا”، ويقول: “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر”. فقد جعل الله إرادته من العبد خيرًا ومصلحة كلَّها. فإن عجل الإنسان للشرّ ما آخذه الله في ذلك أبدًا.

يقول سبحانه: “ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقُضي إليهم أجلهم”، ويقول: “ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة”. فخير الله إلى العبد نازل وشرهم صاعد، يتحبّب إليهم بالنعم والآلاء ويتبغضون إليه بالمعاصي والذنوب. وما أنقص ذلك من حلمه ورحمته عليهم شيئًا، فهذه صورة العلاقة بين الطرفين: رب عظيم وعبد ضعيف جهول. 

هدم كل إله غير الله

ضرب أحد أعلام الدعاة مثلًا يومًا؛ يقول: لو وجدتني أعيش في كوخ أو في منزل من صفيح وأتيت بالآلات الضخمة، وهدَّدتني بتدمير البيت لسمعت صراخًا وعويلًا، ولتلقّيت الضّرب بالطوب والأحجار. ولكن لو أنك بنيت لي بيتًا على شاطئ تحيط به حديقة، وملّكتني إيّاهُ ثمّ أخبرتني بهدمك لبيتي العشوائي لعرضت عليك هدمه معك يدًا بيد!

فالإسلام في تكرِيس رابطة العبد بربّه بنى للعبادِ في قلوبهم قصرًا من الحبّ لله والتعلّق والارتباطِ به، والتوكّل عليه والرغبة فيه؛ ثم دعاهم لهدم كل إله غيره. فكل من سواهُ إلى العدم والزَّوال، وكل ما عنده مستمرّ موصول. يقول تعالى: “ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ”. وبيّن -سبحانه- كيف أن ذلك يسري حتى على أنبيائه ورسله الذين هم خيرة خلقه: “ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادًا لي من دون الله ولكن كونوا ربّانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون”. فالرا‍بطة بين العبد وربه رابطة مباشرة؛ ليس النبيّ فيها وسيطًا ولا معبودًا، إنما مُبلِّغ بشير ونذير.

الختام

إنّ -سبحانه- بيَّن لعباده وأوضح لهم طريق ربط الصِّلة به، وبنى على قوة هذه الصلة مآلات شتَّى؛ فالعبد المتعلِّق بربّه يجعل قلبه كلّه لله لا يشرك في عبادته وحبّه أحدًا. كما تزداد قوّة هذا التعلّق بسعة علم العبد ومعرفته بخالقه. فكلَّما عرف العبد ربه أكثر كلَّما زاد الحبل الرابط بينهما استحكامًا ومتانةً. وتلك كلها من مقاصد العقيدة الت‍ي تهي‍ّ‍ئ صاحبها لعمل الجوارح المُمثَّل في النسك والعب‍ادات البدنية التي سنقف عليها في مقالنا القادِم -إن شاء الله-.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى