كيف تخوض معركة تربية النفس الأشد والأخطر؟

إن كنت ممن وفقه الله لهدى الإسلام ومنّ عليه بالاستقامة والوعي السليم وأكرمه بفضل المحبة والخدمة لهذا الدين، فلم يعد أمامك ما تخشاه إلا خطرًا واحدًا خلال مسيرتك للعلياء. إنها نفسك أنت، وقلبك بلا شك.

فأن تعرف الحق هذا إنجاز عظيم ولكن الثبات على هذا الحق هو الإنجاز الأعظم والسبيل الوحيد لجني ثمار استقامتك ومعرفتك. وإن ضعف التربية النفسية وهشاشة الأصول القلبية التي تهدد العاملين اليوم لا زالت تمثل ثغرة كبيرة يُنكث معها الغزل، كما خلص لذلك أئمة السلف والعصر.

أئمة الإسلام والحث على جهاد النفس

وقد برع بعض هؤلاء الأئمة في تفصيل حالات النفس البشرية وأوجبوا على صاحبها جهادها، لما في مآلات التراخي في هذا الشأن من عظيم مصاب وفشل.

ولعل إمام هذا الفن، كان العلامة ابن القيم – رحمه الله – الذي كتب فيه كعارف متدرب إلى جانب كونه عالمًا متبصِّرًا، ولهذا كانت أطروحاته تشعّ حكمة وقوة، فاق بها تخصصًا، أستاذه الذي علمّه. فمدارج السالكين وحادي الأرواح والداء والدواء، عكست تفوق كاتبها في مسألة علم تطهير الأنفس وتزكيتها وكشفت عن أسراره ومواهبه في علاج أمراض القلوب وتقويم أصولها.

ولم يزل الدعاة والعلماء يشددون على العناية بهذه النفوس التي ينكشف معدنها وضعفها في ميادين الاحتكاك والصقل والابتلاءات والتفاعلات بين جموع البشر.

الشيخ الداعية والقائد المجاهد

وقد خبر العارفون بمجال الدعوة لله والتحريض على الاستقامة والتمسك بمنهج أهل السنة، أن النفوس التي انبرت لهذا الميدان تقع في هنّات وتسقط في طامات يعترف بها الصادقون الذي أدركوا أن مجاهدة النفس للثبات على درب العطاء والصبر هي مقياس النجاح في كل خطواتهم على محور الزمن.

بل حتى فرسان الجهاد، الفريضة الربانية العظيمة الأثر والعقبى، اتفقوا مع ذات الخلاصات في أن ميدان الجهاد بالسنان يكشف طبيعة النفوس بشكل عجيب ويمتحن صلابة أصول كل قلب نفر في سبيل الله مهما صدقت نيته ظاهرًا وخلصت وجهته أمام الملأ، فحثّ أئمة هذا العلم على أهمية العناية بجهاد النفس قبل جهاد الأعداء للثبات وإحراز النصر المبين.

ومن تأمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخبر فيه أن للشهداء أعلى المنازل بعد النبيين والصديقين وشاء الله أن يصل عددها لمائة درجة كلها للمجاهدين في سبيل الله ،حيث أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض»؛ علم حكمة الخالق سبحانه، الخبير بنفوس عباده، وأدرك أن التفاضل بين هؤلاء يكمن في القلب هذه المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله كما جاء في الحديث الشريف.

بل إن إهمال العناية بهذه النفس ومحاسبتها باستمرار وترك فريضة مجاهدتها بلا تسويف أو فتور، ليعتبر المرض الأفتك الذي قد يقع فيه الداعية الشيخ والقائد المقاتل قبل غيرهما من أصناف العباد باختلاف المراتب الإيمانية.

قبس من التاريخ في تربية النفس

ومن يتأمل في سير السلف الصالح من سطروا صفحات ناصعة من جهاد النفس والأعداء، علم أن الحلقتين متصلتين اتصالا بليغا، فهذا الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يعلمنا درسا في جهاد النفس وترويضها وإخضاعها لإرادة الحق في قلب المعركة حين أخذ الراية وتقدم بها في غزوة مؤتة، وهو على فرسه فجعل يستزل نفسه ويتردد بعض التردد، ثم قال :

أقسمت يا نفـس لتنـزلنـه      لـتـنـزلـن أو لـتكـرهـنه

إن أجلب الناس وشدوا  الرنـه     مــالي أراك تكـرهـين الجـنة

قـد طـال ما كـنت مطمئنه      هـل أنت إلا نطـفـة  في شـنه

وقال أيضا:

يا نفــس إلا تقــتلي تمــوتي      هذا حــــمام الموت قد صليت

ومـا تمنيـت  فقــد أعطــيت   إن تفعلي فعلهـما هــــديتي

وإن تــأخرتي فـقـد شــقيــت

قاعدة في جهاد النفس

إن ما نجده في خلاصات أئمة الإسلام وعلى رأسهم ابن القيم رحمه الله، يؤكد أن حفظ الجذوة الروحية منضبطة بالقرآن والسنة وفهم سلف الأمة على نحو مستقيم هي سبيل الثبات في طريق النجاح والظفر.

ولا يمكن أبدًا أن يخرج العبد من الظلام إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان ولا من الجاهلية إلى الإسلام  إلا إذا عمل عملًا دؤوبًا لتغيير نفسه وتطهير قلبه ولإقامة خُلقه وسلوكياته ولتصحيح ذاته، مدركًا تمام الإدراك أنها عملية مجاهدة ضخمة وتغيير جذري وإخراج لجيل يختلف عن الجيل الذي سبق، كما لخص ذلك ببصيرة ثاقبة، الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل – فرج الله عنه وجزاه الله عن أمة الإسلام كل الخير-.

قال حسن البنا رحمه الله: ” أن تكون الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في صفات أربع: إرادة قوية لا يتطرق عليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره”.

فهذا أحد أعلام الأمة ومؤسس جماعة من جماعات المسلمين الكبرى يؤكد في بداياتها أن الأمة في مسيس الحاجة إلى بناء النفوس وتشييد الأخلاق وطبع أبنائها على خلق الرجولة الصحيحة حتى يصمدوا لما يقف في طريقهم من عقبات ويتغلبوا على ما يعترضهم من مصاعب وأن الرجل سر حياة الأمم ومصدر نهضتها وأن تاريخ الأمم جميعا إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين أقوياء الأنفس. وقد أدرك ذات المعاني غيره من أعلام الأمة من جماعات أخرى عاملة، واتفق الجميع بإجماع تام على وجوب تربية النفس والعناية بالقلب لكل فرد من أفراد الجماعة.

علم قائم بذاته

تربية النفوس والتوبة

إننا نتحدث عن منهج صياغة نفوس المسلمين وتربيتهم وإنشائهم وتزكيتهم وتطهيرهم ومعالجة الآثار الجانبية لاستقامتهم وللثبات كمسلمين. إنه علم قائم بذاته، يربي الأجيال بعلم وليس بهوى، يربي النفس على الاستقامة والثبات والكفّ عن حظوظها المهددة للآمال في مسيرة العمل.

وقد استوقفتني طريقة الشيخ حازم لعلاج هذا النقص في النفس البشرية حين يُشخَّص، ووجدته مطابقا لقاعدة في العلاج مشهورة في الطب البشري، وهي علاج مسببات المرض لا أعراضه، فبعض الأطباء يعمدون لتقديم مخفض للحمى قبل النظر في مسبب هذه الحمى، فتأتي علاجاتهم سطحية مؤقتة وما تلبث الحمى أن ترجع! ولكن الطبيب الحاذق يقدم العلاج الذي يحقق إبادة للجرثومة المسببة فتختفي مع اختفائها أعراض الحمى.

وعلى هذه الطريقة، من كانت مشكلته الغضب الزائد، فلننظر لماذا يغضب قبل أن نعظه في مسألة الغضب؟ فإن كان غضبه للمال، عالجنا حبه للمال بتعليمه الزهد وتبصيره بالورع وحكمة الله في الأرزاق، وإن كان الغضب لأجل أحد من صلبه فلابد من تعليمه التقوى وحب العدل والخير مع غيره قبل نفسه، ومن كان غضبه لأجل حب الإمارة وسياسة الجموع والظهور فلابد من تعليمه حجم جريمته وسوء مطلبه وخطر ما يحسبه أمرًا هينا فيزهد فيها وتخشاها نفسه وتتلاشى مع هذا كل ثورة غضب لأن الدافع لها قد تلاشى.

ومن الناس من يتعظ بالذكر والعمل ومنهم من ينفعه الصمت والتفكر والخلوة والاعتكاف، ومنهم من يقوّمه المسابقة في التصدق والنظر في حاجات المساكين، ومنهم من يجد الشفاء في القرآن والذكر، ومنهم ما يزجره الحرمان وقلة ذات اليد ومنهم من يعالجه معايشة مواطن الموت كالمقابر والمستشفيات وخطوط القتال.

وكم من تارك لسنة يُعاقب بالهزيمة في الحرب كما ذكر ذلك ابن النحاس -رحمه الله- في كتابه مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق، حين ذكر قصة القوم الذين استعصى عليهم فتح حصن من حصون الأعداء وبعد اجتماع ونظر اكتشفوا أن السبب كان تفريطهم في سنة السواك، فما أن استدركوها حتى فتح الله لهم الحصن بنصر عظيم، قلت: أولئك قوم تركوا سنة، ونحن قوم نفرط في الفرض ونطمع بعدها في النصر، فتأمل يا صاحب القلب!

ولن يحقق أي عامل مسلم أو عاملة مسلمة اليوم أهدافهما في مسيرة الحياة ما لم يعتني كل منهما بالعلوم الحقيقية لهذا الدين التي تحيي القلوب وترشد الإنسان لسبيل الرشاد والثبات. يتزود بها الإنسان باستمرار دون انقطاع كضخ القلب للدماء في شرايين الجسد ليحيى ويسعى وإلا فإن مصير انقطاعه الموت.

قال تعالى: ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ) فاطر 6. وفي هذا تنبيه على واجب استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته كأنه عدو لا يتوقف ولا يضعف في محاربة العبد على عدد الأنفاس، إنها معركة مستمرة لا تنقطع وهي الأشد والأخطر على الإطلاق.

تشخيص طبيب القلوب: ابن القيم

ولا يفوتني الاستشهاد في هذا المقام بعصارة اللبيب في مراتب الجهاد لابن القيم التي لا يخلو كتاب يتناول فريضة مجاهدة النفس إلا واستشهد بها، ذكرها في كتابه الماتع “زاد المعاد في هدي خير العباد” -المجلد الثالث- حيث قال: “فجهاد النفس أربعُ مراتب أيضًا:

  1. إحداها: أَنْ يُجاهِدَها على تعلُّم الهُدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عِلمُه، شقيت في الدَّارين.
  2. الثانية: أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرَّدُ العلم بلا عمل إن لم يَضُرَّها لم ينفعْها.
  3. الثالثة: أن يُجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمِهِ مَنْ لا يعلمهُ، وإلا كان مِن الذين يكتُمون ما أنزل الله مِن الهُدى والبينات، ولا ينفعُهُ علمُهُ، ولا يُنجِيه مِن عذاب الله.
  4. الرابعة: أن يُجاهِدَها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كله لله. فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الربَّانِيينَ، فإن السلفَ مُجمِعُونَ على أن العَالِمَ لا يَستحِقُّ أن يُسمى ربَّانياً حتى يعرِفَ الحقَّ، ويعملَ به، ويُعَلِّمَه، فمَن علِمَ وَعَمِلَ وعَلَّمَ فذاكَ يُدعى عظيماً في ملكوتِ السموات.

ومن تأمل في هذه الكلمات أدرك عظمة جهاد النفس، أمام هواها وميولاتها ونزعاتها التي لا يقوى المرء على التخلص منها،  ولكن يمكنه أن يحصرها في حدود المباح والمكروه في شريعة الله كما يمكنه الرقي لمراتب المسابقين في الدرجات العلا، بترقية نفسه والحرص على ثباتها، وأما السبيل لذلك فهو دوام المحاسبة ويقظة الضمير والخشية من الله العظيم ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40 – 41].

للسالك طريق الله 

فيا أيها المسلم المقبل في طريق الله، عليك بتربية قلبك بالعبادات القلبية، وسياسة نفسك بالتدرب على الصبر والقناعة والحكمة والبصيرة. وعليك بوقود الفكر، وهو القراءة النافعة من مشكاة العلوم الإسلامية ومصادر العقيدة الصحيحة والتزود بالفقه النيّر ورقائق العارفين والعبر من تاريخ الإسلام المجيد.

وكما قال أحد العارفين بأمراض القلوب: “يا هذا عليك بعروق الإخلاص وورق الصبر وعصير التواضع، ضع هذا كله في إناء التقوى وصب عليه ماء الخشية وأوقد عليه بنار الحزن على المعصية وصفه بمصفاة المراقبة، وتناوله بكف الصدق واشربه من كأس الاستغفار وتمضمض بالورع وأبعد عن نفسك الحرص والطمع، تشفَى من مرضك بإذن الله”.

ثم عليك بترويض جسدك ليسمع لك ويطيع، فتعوده على الصوم وعلى الصدقة وعلى المشي في حاجات المسلمين وعلى صلاة القيام وعلى التدريب والرياضة والحزم وكل ما يدخل في سبيل إعداد النفس لعظيم المهمات، وكل بحسب ما يُسّر له.

كن قائد نفسك سائسها لا المنقاد لهواها وميولاتها، دليلك في ذلك شريعة الرحمن وسنة خير الأنام ونبراسك تجارب السابقين الأولين من الأخيار ومن اتبعهم من الأحرار. فإن مجاهدتك هذه النفس هو السبيل لتحقيق الفوز، أولم تتدبر قول الله سبحانه وتعالى وهو يقسم (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا إن الله لمع المحسنين). (العنكبوت 69).

يقول ابن القيم – رحمه الله – في تفسير هذه الآية: “علق سبحانه الهداية بالجهاد فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادًا وأفرض الجهاد جهاد النفس وجهاد الهوى وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد.

قال الجنيد: والذين جاهدوا أعداءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص، ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنا، فمن نصر عليها نصر على عدوه، ومن نصرت عليه نصر عليه عدوه.”

فأي عاقل يفرط بعد هذا القسم العظيم في مجاهدة نفسه وتربيتها على الاستقامة والمحاسبة وحسن الأداء إلى آخر رمق. في تطويعها لله وتعويدها الصبر على طاعته واجتناب معصيته فليست المشكلة أن تعلم وإنما أن تعمل بما علمت، ثم تثبت على ما عملت، ولا تحدثني بعدها على بركات جهادك التي سنراها في نفسك وفي أسرتك وفي جماعتك وفي أمتك، ثم لنترقب فجر النصر مستبشرين!

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. جزاكم الله خيرا, موضوع جدّ مفيد.. حبّذا لو قمتم بوضع خاصية لتحميل مثل هذه المقالات وفقكم الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى