صفحات من دفتر الالتزام: مظهر الملتزم منحة أم محنة؟!

قد خشع قلبك فلزامًا ستخشع جوارحك، ستنفِر من مظهرك الذي أَلِفْتَه في غفلتك وستتوق للظهور بمظهر التقيِّ الملتزم. إن كنتَ رجلًا أو امرأةً فلا شك أن اللباس الملتزم المحتشم خطوةٌ محوريةٌ تحتاج أن تخطوَها في طريق الالتزام، ستطلبها روحك التي بدأت تحيا ببلسم الإيمان، ولا تحسَبْها خطوةً قليلة الأهمية، بل مظهرك من أَولى أولويات الشيطان في حربه للالتزام والعبادة والإقبال، كيف لا وقد كان هدف إبليس أولَ ما خلق الله أبانا آدمَ وأمَّنا حواءَ، نزع ثيابهما عنهما وإظهار سوآتهما، ليتسبب في خروجهما من الجنة، وما زال هذا دأْبَه مع كل غافلٍ وكافرٍ، نشر العُرِي والسفور والمجون، وهذا التركيز الأول من الشيطان ليس من فراغ، فلأنه يعلم بأن تعويد النفس على العري والسفور، هو استدراجٌ للسقوط في مستنقع الشهوات بقتل الحشمة والحياء وهو التدرج لإخماد نور الإيمان، فالحياء شعبةٌ من شُعَب الإيمان! هذا لندرك أن تغيير المظهر من أكثر العقبات التي سيتصدى بها لك الشيطان المتربص!

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “الولادة نوعان أحدهما: هذه المعروفة، والثانية: ولادة القلب والروح وخروجهما من مشيمة النفْس، وظلمة الطبع… وهذه الولادة كانت بسبب الرسول كان كالأب للمؤمنين، وقد قرأ أُبَيُّ بن كعبٍ-رضي الله عنه-(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو أبٌ لهم)، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بلَّغ رسالة الإسلام للعالمين فكان كالأب الذي وُلِدنا به من جديدٍ، وخرجنا به من الظلام إلى النور، وبالإسلام الذي التزمتَه بالأمس، كانت الولادة لهذا القلب ولهذه الروح المؤمنة، إنه الإسلام الذي يدعو للباس الحشمة للباس التقوى، لتبحر بقوةٍ ونجاحٍ في حياة الإيمان والسعادة والرقي!

لهذا فمن الطبيعي جدًا أن تحب مظهر الالتزام وأن تفرح به نفسك لأنه فطريٌّ، وإن رأيت بعض التردد فاعلم أنك بحاجة لمعالجةٍ وإصلاحٍ وتزوَّدْ بالتقوى والتذكرة.

سمع رجلٌ حديثًا من الإمام مالكٍ فقال: “هذا الحديث ينبغي أن يُكتَب بماء الذهب “، فقال له مالكٌ: “بل ينبغي أن يُكتب بماء العمل”. هو العمل دلالة الصدق، هو العمل توقيع الرضا والقبول.

لهذا فالتردد في الإقبال على الالتزام مظهرًا إن قابلَه نفورٌ في النفس فهذا لأن القلب ما زال بحاجة لبعض العلاج والتذكرة وترسيخ مفاهيم الإيمان والعبودية لله، وقد يكون من تلبيسات إبليس الذي سيعظِّم الأمر ويهوِّل الفعل ويجعل منه الحرب فيخوفِّك ويزرع التردد فيك حتى لا تقبل عليه إقبال المشتاق، فلا تَخَفْ من شيطانٍ عدوٍ مبينٍ، بل تذكَّر أن خشية الله أعظم وأن طاعته ستهوِّن عليك كل خوفٍ!

وممن يخوفك؟! وبمن يخوفك؟! بمحيطٍ غافلٍ، وقومٍ غرقى في جهالاتٍ وظلمٍ للنفس؟! أتخاف من عصى ربه ولا تخاف أن تعصيَ أنت ربك!

إنك في الواقع أمام حالتين، حالة القدرة وانعدام القدرة على الظهور بمظهر الملتزم.

فإما أن يكون محيطك لا يمنع مظهر الالتزام ولكن قد يسخر منه من اعتاد على غفلتك، فهذه علاجها العزم والحزم والإقبال بقوةٍ لا ترددٍ، كما كان حالك مع أداء الصلاة، وستكون خطوةً سهلةً لأنك نجحتَ سابقًا في فرض نفسك في إقامة الصلاة وفروض الإسلام، قد عوَّدْتَهم أن يحترموا رغبتك في التغيير حين قررتَ أن تكون ملتزمًا بأركان دينك الحنيف.

ولا أشك لحظةً واحدةً أن الصَّدْع بمظهر الملتزم سيكون المرحلة الأخيرة في كسر حاجز التحدي بينك وبين أهلك ومحيطك الرافض لالتزامك، فلم يعُد بعدها من تحدٍ يُنَغِّصون عليك حياتك به، بل سيكون الحسمُ ونهايةُ الجدال أمام أيِّ تطورٍ يلحظونه في مسيرة التزامك مستقبلًا. وكما يقال هي الصدمة الأخيرة التي لا صدمة بعدها، والصدمة تورِث الوهْن والخضوع، وهذا سيصاب به من آثر رفض التزامك والسخرية منك. أما في وسطٍ يرحب بالالتزام فلا مشكلةَ البتةَ لديك وفي المحصلة فإن ظهور التزامك في شكلك إنما هو منحةٌ ستذوق معها حلاوة الاستقامة والطاعة والتقوى، ستعرف الاحترام والمهابة التي ستتوِّج ثباتك على الالتزام.

والحالة الثانية أن تكون في وسطٍ يحارب الالتزام بقوة السلطان ويتربص بالملتزمين الغرباء بل ويسلِّط عليهم شرار الناس ممن لا يرقُب في مؤمنٍ إلًّا ولا ذمةً، وفي هذه الحالة أنت في حال ضرورةٍ، وللضرورة أحكامٌ، أنت في محنةٍ، فتسدد وتقارب وتلتزم بالحد الأدنى الذي تُداري فيه القوم حتى لا ينالك منهم أذًى، وإن كان الأذى أحيانًا لا مناصَ منه فحينها ستكون مرحلةُ ابتلاءٍ لصدق إيمانك، والله قد رفع عنك الحرج كما رفعه عن عمار بن ياسرٍ رضي الله عنه، والحمد لله على حكمة الإسلام التي تعطيك الخيارات المناسبة لوضعك وقوتك فتتصرف مع عقبات الالتزام بما تقدر عليه وبمرونةٍ لا تغيِّر من درجات إيمانك. ولهذا فجميلٌ أن تطالع قصص الالتزام الأول بالإسلام من الصحابة لتتعرف على حجم الأذى الذي لاقَوه في سبيل الإيمان بالله ربًّا وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا. وتذكَّر أن تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين، وشر الشرين ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. وما بعد المحنة إلا منحةٌ!

أما التردد مع القدرة على المظهر الملتزم: فهو من الأمراض التي وجب عليك علاجها، والتي تدل على ضَعفٍ في الإرادة وضعفٍ في استيعاب الحكمة من الاستقامة، فإن لم تعالجه بالرجوع إلى حقيقة العبودية لله فهي محنةٌ حقيقيةٌ، وإن عالجتَها انقلبتْ إلى منحةٍ حقيقيةٍ.

وحين نتحدث عن الالتزام في المظهر فلابد أن نوضِح أمرًا كثيرًا ما يُساء فهمه من بعض الناس، فالالتزام لا يعني عبوس الوجه وتجهُّم الملامح والنظرة العدائية!!! ولا يعني لباسًا منفِّرًا ومظهرًا غير مألوفٍ يخلق المسافات بينك وبين من حولك، ويبعدك عن سبل الدعوة والإرشاد، لا يعني الغضب والشدة في الخطاب والغلظة في القول، إننا نتحدث عما فرضه الشارع الحكيم، وأقرَّه أئمة أهل السنة، فالرجل عليه إعفاء لحيته والحرص على لباسٍ لا تظهر معه عورته ولا ينزل تحت الكعبين ولا يصف تفاصيل جسده، في حين المرأة عليها لبس الحجاب الساتر لكل جسدها والذي لا يصفه ولا يكون فتنةً، ومع هذا المظهر التقي، ستكسو الروحَ صفةُ خفض الجناح للمؤمنين، صِفة الذلة للمؤمنين، صِفة المحبة والأُخوَّة في الله لا الاستعلاء والكبر أو الفظاظة والغلظة! ويكفي أن تطَّلِع على شروط اللباس المحتشم للمسلم والمسلمة لتجد أن الإسلام لم يحدد زيًا معينًا، بل هو بابٌ واسعٌ يختلف بأعراف الناس والاختلاف فيه رحمةٌ من الله بعباده وما أعظم الإسلام الذي يحدد الحد الأدنى في الشكليات ويترك لك التصرف فيما لا إشكال فيه.

وما مظهر الالتزام الشكلي إلا بركة الالتزام القلبي، وإلا فلا وزن له إن لم يقترِن بالتزام القلب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إلى أعمالِكُمْ، ولا إلى صُوَرِكُمْ، ولكنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكم، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً، إذا صَلُحَتْ صَلُحَ الجسدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ألا وهي القَلبُ)[1].

بالأمس كنتَ تظهر في شكلٍ أبعدَ ما يكون عن الالتزام واليوم قرَّرتَ أن تُعفيَ لحيتك وتلبسَ لباسًا محتشمًا… كذلك أنتِ علمتِ أن الحجاب فرضٌ على كل مسلمةٍ، وعلمتِ أنه بات أمرًا لا مجال للمداهنة فيه، فهو أمر الله فرضه على المسلمة، وكما الصلاة فرضٌ… الحجاب فرضٌ، ولكنكِ كنتِ بالأمس لا تستترين وكنت قد أَلِفْتِ لباس الموضة والخروج بسفورٍ، وتخشَين أن تتابِعَك الأنظار وربما السخريات، هذه كلها من مكر الشيطان، فلا تلقي لها بالًا وامضي في طاعة ربك فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.

وأعمال البر كلما عظُمت كان الصبر عليها أعظم مما دونها والصبر مع القدرة جهادٌ، بل هو من أفضل الجهاد وإنما أنت في جهادٍ.

إن إعفاء اللحية في بلدٍ لا يقمع الحريات الشخصية لهو أمرٌ سهلٌ وتستطيع أن تفرضه بسهولةٍ وأنت مبتسمٌ منبسط الوجه تعكس أساريرك سكينة الإيمان واتزان الملتزم وسعادة المقبل، ولكن إن كنت في وسطٍ يحارب أي مظهرٍ للتدين فأنت مخيرٌ بين حليّن بحسب درجة الأذى التي قد تصلك من هذه الحرب على الإسلام، إما أن تعفيَ لحيتك وتجعلها منسقةً لا تجذب لك الأنظار ككثيرٍ من الشباب الذي يلتحي لمجرد أن يبدو بشكلٍ مختلفٍ وهو بعيدٌ كل البعد عن الالتزام، بل قد يجعل اللحية كضربٍ من ضروب الموضة، وهي مداراةٌ منك إلى حين تأمن الدار، أو أن تتوقف قليلًا عن إعفائها حتى يزول خطر الترصد والبغي والعدوان على مجرد إعفاء لحيةٍ، أما أنتِ أيتها المقبلة بشوقٍ، اعلمي أن الحجاب حِفظُكِ وصونُكِ من كل اعتداءٍ، فالبسيه واصدعي ولا تأخذْكِ في الله لومة لائمٍ، فإنه الشرف أن تصدعي بأمر الله، واعلمي أنها مجرد أيامٍ ثم يتعودون عليكِ ويخضعون لرغبتكِ وينسون تغيُّركِ ويحترمون رقيَّكِ.

قد يتساءل متسائلٌ، لماذا على الرجل المداراة وعلى المرأة الصدع، ذلك لأن لحية الرجل ليست مَجلَبةً للفتنة إنْ ترك إعفاءها لضرورةٍ… وترْكُها لا يتعدى ضرره إلى المسلمين، وأيضًا هو مجبرٌ على الخروج والبحث عن الرزق في كل يومٍ ومن ورائه مسؤولياتٌ وللضرورة أحكامٌ، بينما المرأة إن خرجت سافرةً فهي الفتنة بعينها لشباب المسلمين بل وقد تعدى ضررها لغيرها فضلًا عن نفسها، وقد يحفظها زوجها أو أهلها في البيت فلا تضطرُّ للاحتكاك والتعامل الذي يجلب عليها العدوان للحجاب إلا في حالات الضرورة. وطبعًا هذه حالةٌ خاصةٌ تقتصر على بلدٍ يحارب مظاهر الالتزام محاربةً مبالغًا فيها، وإلا فإن أكثر البلاد لا تمنع مظهر الالتزام أو تتصدى له بالظلم والعدوان لهذا لن يُحرَم أكثر الملتزمين الجدد من الظهور بمظهرهم الجديد.

 أما لبس النقاب فهذه مكرمةٌ ودرجةٌ للارتقاء للأمام ويكفي أنه صفةُ تمييزٍ لذوات الخدور وصاحبات الفضل والعلم على مر التاريخ الإسلامي، واسألي مجربةً لتخبرك عن لذة هذا الستر والسر العجيب من أسرار الحرية والتحليق، وبما أنه أمرٌ اختَلَف في وجوبه العلماء إن لم تكن ثمةَ فتنةٌ، رغم اعتقادي بقوة الأدلة على وجوبه، فأنتِ أمام رحمة الاختلاف إن كنتِ في بلادٍ لا ترى فرْضِيَّته، وجميلٌ أن تطلعي على أدلة الفريقين وتنظري لما تطيب له نفسكِ وتقدرين عليه، مقبلةً بحبٍ لا إكراهٍ والله هو الهادي إلى سواء السبيل.

ومما  لا خلاف فيه أن حجاب المسلمة فرضٌ، ولباسه واجبٌ في مراحل الالتزام،  وقد حدَّثَتْني بعض المعتنقات للإسلام حديثًا عن مراحل التزامهن واشتركن جميعًا في نقطة الحجاب الذي كان يُعَد بالنسبة لهن نقطة التحدي الأكبر، والخروج للشارع بلباسٍ لم يعتَدْ عليه الناس، كان بالنسبة لهن المواجهة والتحدي في أقوى صوره، ورغم ذلك قد قبلن التحدي، ولكن تأمَّلي كيف أن الله يسَّرَ لهن هذا الالتزام وهن في أرضٍ لا يرفع فيها أذانٌ ولا يَدِينُ أهلها بدين الإسلام، فتخرج في الشارع معتزةً بحجابها الجديد والتزامها الجديد، أَفَلَيْسَ حريًا بك أن تقبلي أنتِ التي ولدتِ في الإسلام، بأسرعَ منها؟!

بعد هذا التطور والظهور الجديد لدينا مرحلةٌ من التعوُّد وتعويد المحيط، وهي مرحلةٌ ستنقضي بمعية الله ورحمته فكلما كان التوكل فيها على الله عظيمًا والإخلاص فيها متينًا، كلما سهُلت وأثمرت بركاتٍ وتيسيرًا. فامضِ في مسيرتكَ أيها الملتزم وأيتها الملتزمة، قد تعوَّد القوم عليكَ اليوم بمظهركَ الملتزم التقي، والمسلم الصادق إذا عَبَد الله بما شُرِع فتح الله عليه أنوار الهداية في مدةٍ قريبة، وتذكر أن العمل لا يُمدح ولا يُذم لمجرد كونه لذةً، بل إنما يُمدح ما كان لله أطوعَ وللعبد أنفعَ، سواءٌ كان فيه لذةٌ أو مشقةٌ، وها قد علمتَ هذا اليوم إذًا فالتزِم…!


الهوامش

[1]  رواه البخاري ومسلم.

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. و أحلى شيء انه اليوم اللحية صارت موضة هههه يعني هذا من حسن حظ الرجال
    اما الحجاب الشرعي فعادي لا غبار عليه .و النقاب في الغرب يتم محاربته كثيرا اما في بلاد مثل مصر مثلا فالنقاب صار شيء عادي جدا الكثير من الفتيات يرتدينه .
    و في النهاية ما دام ليس هناك قوانين جزائية تمنع النقاب . فالفتاة لو تريد ارتداءه باختيارها فلا تهتم بآراء الآخرين . و الله يوفق الجميع للخير .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى