طـارق بن زياد: القائد المسلم فاتح الأندلس

يعد القائد طارق بن زياد أحد أكثر قادة المسلمين شهرةً في العالم الإسلامي والغربي، وذلك لما حققه من انتصارات وأعمال كبيرة تركت آثارها حاضرةً حتى يومنا هذا، وتسببت في تغيير وجه العالم لا سيما قارة أوروبا، فقد شكل حدث دخوله لشبه الجزيرة الإيبيرية نقطة تحولٍ جذريةٍ تمثلت بدخول جيش الفتح الإسلامي لأوروبا الغربية لأول مرةٍ في التاريخ، واستقراره في جزءٍ واسعٍ منها، فلم تكن غزوة طارق بن زياد مجرد غارةٍ للكسب ودحر الأعداء، إنما كانت فتحًا مبينًا، واستقرارًا إسلاميًا، ونشرًا للدين، وإعمارًا للأرض التي دخلها نور الحق على يدي هذا القائد.

الأصول والنشأة 

طارق بن زياد: القائد المسلم فاتح الأندلس
لقد سُمِّيَ هذا الجبل باسم “جبل طارق”؛ لأن جيش المسلمين بقيادة طارق بن زياد عندما انطلقوا لفتح الأندلس نزلوا عند هذا الجبل، فكان المدخل للأندلس هو مضيق جبل طارق

اختلف المؤرخون في أصل ومنشأ طارقٍ بن زياد، فقد قيل إنه عربي من شبه الجزيرة العربية، وقيل أيضًا إنه فارسيٌّ من همدان، وقيل إنه من الأمازيغ الأفارقة الذين دخلوا الإسلام على يد موسى بن نصير، ولعل هذا القول الأخير هو الأرجح، وذلك لأنه لو كان عربيَّ المنشأ لنسب لقبيلته، فالعرب تفتخر بأنسابها وأحسابها، وكل قائدٍ عربي معروفٌ من أي قبيلةٍ هو، وإن سكت هو عن اسم قبيلته، فإن قبيلته ذاتها لا تسكت عن المفاخرة به، وإعلان نسبه لها، فلذلك يرجح أنَّ طارق بن زياد هو أمازيغيُّ الأصل، ويؤيد ذلك أنه كان مولًى لموسى بن نصير،  فالموالي هم من غير العرب، لكنه تأثر بطباع العرب وأخذ الإسلام عنهم، وأتقن لغتهم، ووصل إلى درجةٍ عالية من المكانة عند موسى بن نصير الذي فتح الشمال الإفريقي، ووصل إلى طنجة، ولم يبقَ أمامه من المدن في غير طاعته سوى سبتة، التي كانت محتلَّةً وتتبع للتاج الأسباني في ذلك الوقت.

التحضيرات لفتح الأندلس

كانت الخلافة الأموية في ذلك الوقت في عز قوتها وأعلى درجات عنفوانها، فقد ترك عبد الملك بن مروان الدولة لابنه الوليد وهي موحَّدةٌ وقوية، وتمتلك جيوشًا وقادةً خبروا الحرب وتمرسوا في القتال، فكانت الظروف مواتيةً للوليد بأن تتوسع الدولة الإسلامية في الشرق والغرب، فأنفذ لموسى بن نصير بأن يفتتح الأندلس، وأن ينشر الإسلام فيها، خصوصًا بعدما علم ما تعانيه أوروبا من خصوماتٍ فيما بينها سوف تلهيها عن التوحد لقتال جيوش المسلمين، وبالفعل توجه موسى بن نصير لإزالة العقبة الأخيرة في وجهه، وهي مدينة سبتة المغربية، فسلَّم الكونت يليان حاكمُ سبتة المدينةَ للمسلمين، وقد اختُلف في سبب تسليمه وتعاونه مع المسلمين، فقد قيل إنه بتسليمه للمدينة سيحتفظ بحق حكمه لها تحت إمرة المسلمين، وقد قيل أيضًا إنه كان ناقما على لذريق ملك القوط لكونه اعتدى على ابنة يليان الوحيدة التي كانت تعيش في القصر الملكي الإسباني، لكن وإن اختلفت الأسباب فالنتيجة واحدة، إذ إنَّ يليان سلَّم المدينة لموسى بن نصير، وتعاون معه في إمداده بالسفن والمعلومات.

وقد سبق الفتح الإسلامي انطلاق عددٍ من الغزوات الصغيرة التي أرسلها موسى بن نصير لاستكشاف الأندلس قبل إرسال الجيش إلى تلك البلاد، فأرسل طريف بن مالك في سفن للساحل الإسباني، ونزل في إحدى الجزر التي سميت باسمه حتى يومنا هذا، واستطاع طريف أن يغنم مغانم كثيرة، وأن يستكشف طبيعة البلاد وتضاريسها، وأحوال سكانها وجيوشها، فقد التمس الضعف في جيش القوط الإسبان، ووجد أن هذه البلاد قابلة للفتح، وأنّ تحصيناتها ودفعاتها ضعيفة وسهلة الاقتحام، فبدأ موسى بن نصير بتجهيز الحملة لفتح الأندلس، ووضع طارق بن زياد قائدًا على سبعة آلاف رجل جلُّهم من الأمازيغ، فعبر البحر بسفن ومراكب يليان، وقد قيل إنه قد أحرق السفن بعد نزوله ليقطع الأمل على جيشه بالانسحاب، وقد اختلف بهذه الرواية وصحتها، لكن النتيجة هي أنَّ طارقًا توغل في الأندلس بسرعة، واعتمد على أسلوب الحرب الخاطفة، في الهجوم ودحر الأعداء وعدم ترك الفرصة لهم في التقاط الأنفاس، فاستطاع فتح قرطبة، وتوقف عندها ليستعد لملاقاة جيش القوط الذي كان هائلًا، فقد تم تقديره بمائة ألف رجل، لكن على الرغم من هذا العدد الضخم، فقد كان الجيش القوطي ضعيفَ التسليح والتدريب، ولم يكن له خبرةٌ في الحرب، ومع ذلك طلب طارق من موسى بن نصير المدد، فأرسل له خمسة آلاف رجل آخرين، ليكون العدد اثني عشر ألف رجل، لتقع معركةُ وادي لكة، بين المسلمين والقوط، انتهت بهزيمة القوط الإسبان، وموت ملكهم على يد طارق بن زياد، لتصبح الأندلس خاليةً تمامًا من أي جيش يقاوم الفتح الإسلامي، لذلك استغل طارق الفرصة في ذلك فأسرع لفتح طليطلة عاصمة الإسبان، ومن ثم تتابعت المدن الإسبانية بالسقوط، وقد كتب موسى لطارق بأن يتوقف حتى يدركه ويصل إليه، لكن طارقًا استمر بالفتوحات حتى لا يضيع فرصة خلو إسبانيا من أي جيش يقاومه.

أفول نجم طارق بن زياد

بدأ نجم طارقٍ بن زياد بالأفول بعد أن لحق به موسى بن نصير، إذ نهره عن عدم إطاعة الأوامر وحبسه، ليكمل عنه حركة الفتح حتى بلغ جبال البرانس التي تفصل الأندلس عن فرنسا، إذ أمره الخليفة الوليد بإطلاق سراح طارق بن زياد، وأن يتوقفا عند هذا الحد، إذ إنَّ موسى بن نصير أراد أن يجتاح فرنسا وأوروبا، حتى يصل إلى دمشق عبرها، لكن الخليفة خشي على المسلمين أن يتوغلوا في بلادٍ مجهولة، فأمر بوقف الفتوح، وأن يأتي كلٌّ منهما إلى دمشق، لكنه توفي قبل وصولهما، وتولى الخلافة أخوه سليمان بن عبد الملك الذي كان ناقمًا عليهما، إذ طلب منهما التريث في القدوم حتى يتوفى الوليد وينسب فخر فتح الأندلس إلى نفسه، لكنهما أصرَّا على الإسراع للقاء الوليد ولم يفلحا، فقُتل موسى وولده عبد العزيز، واختفى طارق بشكلٍ كامل، ولم يُسمع عنه شيءٌ بعد ذلك، وقد اختلفت الروايات في مصيره، لكن دون أن نعرف أي الروايات هي الأصدق.

الأندلس بعد طارق بن زياد

دخلت الأندلس بعد فتح طارق بن زياد مرحلةً جديدة، إذ استوطن المسلمون في أراضي البلاد المفتوحة، ونجحوا في التعايش مع أهلها ونشر رسالة الإسلام السامية بينهم، وتركوا لمن أراد البقاء على دينه حرية ممارسة العبادة، وكان لليهود أيضًا حظٌٌ في التسامح الإسلامي، إذ استطاعوا المجاهرة بدينهم، وممارسة شعائرهم بعد أن كانوا ممنوعين عنها، ولم تقتصر آثار الفتح الإسلامي عند هذا الحد، إذ بدأت الحضارة العربية تنتقل إلى الأندلس، لتتجلى بأبهى صورها فيها، فقد ظهرت حركة العمارة الإسلامية في بناء المساجد والأحياء الإسلامية، وأخذت حركة نقل الكتب والمعارف تنشط بانتقال كثيرٍ من الناس إليها، وقد تحولت الأندلس من مملكةٍ مسيحية إلى ولاية إسلامية تتبع عاصمة الخلافة الأموية في دمشق، ليستمر الوجود الإسلامي فيها لمدة ثمانية قرون حتى سقوط غرناطة آخر المعاقل الإسلامية، واليوم لا زالت مآذن مساجد المسلمين في إسبانيا تصمت عن الأذان، وتقرع فيها أجراس الكنائس، ليثبت المسلمون مدى تسامحهم وسماحة دينهم في عدم مساسهم بكنائس النصارى عند الفتح، في مقابل انتهاك حرمة مساجدنا ومقدساتنا على أيدي أعدائنا، ومحاولتهم طمس الهوية الإسلامية للأندلس، ومحو ثمانية قرون من تاريخها شكلت العصر الذهبي لها بين يدي المسلمين.

المصادر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى