أنظمة الدولة الوظيفية

بعد سقوط الدولة العثمانية-كآخر مظهر سياسي لوحدة المسلمين-عمل “الاستعمار” ( الحملات الصليبية ) بقيادة بريطانيا وفرنسا على عدم عودة هذه الوحدة بأي صورة من الصور سواء في صورة “الخلافة الإسلامية” أو في صورة اتحاد إسلامي حقيقي، أو حتى في صورة هوية إسلامية جامعة، وتم استبدال الوحدة الإسلامية بالوحدة القومية، والهوية الإسلامية بالهوية العلمانية، واستبعاد أي مظهر سياسي أو هوياتي للإسلام، وصار الإسلام مجرد “دين” يعتبر حرية شخصية للأفراد-وحتى هذه مسموح بها في حدود معينة-وتم استثارة الشعور القومي بدلاً عن الشعور الإسلامي، واستحياء التاريخ الجاهلي بدلاً عن التاريخ الإسلامي، ومن ثم الاعتزاز بالأوطان بدلاً عن الاعتزاز بالإسلام… والاستعمار هو الذي حدد مفهوم الوطن، وحدوده، وما يدخل فيه، وما لا يدخل! وتم للحملات الصليبية رسم الحدود بين المسلمين، وتمزيق وحدهم، وتشتيت فكرهم، والتعمية على عدوهم الحقيقي!

نشوء الأنظمة الوظيفية

وتبعاً لهذه الحملات الصليبية التي كانت تتم تحت شعارات “الديمقراطية، والمساواة، وحماية الأقليات، وحماية مصالح الدول العظمى، وحماية خطوط الملاحة، وحماية أمن إسرائيل، وحماية السلام العالمي… إلخ” نشأ من وراء ذلك من يسمى “الدولة الوطنية القطرية الوظيفية” التي تؤدي عن المحتل الأجنبي الدور في تركيع الشعوب، وتعويق نهضتها، وكبت حريتها، وتعطيل ريادتها، وإفسادها بالبغي والاستبداد، فأدت “الأنظمة الحاكمة” دورها على أكمل وجه، بل وأشد وحشية مما كان يصعنه الاستعمار العسكري القديم!!

وصارت جميع مؤسسات الدولة في خدمة “أنظمة الحكم العميلة للمحتل” وصارت جميع أنظمة الحكم في خدمة المحتل والأسياد في الدول العظمى.. ونشأت الشعوب وأجيال متتالية تحت وطأة هذه “المنظومة السياسية” التي هي أشبه بالسجن الكبير.. حيث الشعوب هي المسجون، والأنظمة الحاكمة هي السجان، وصاحب القرار والسلطة الحقيقية في واشنطن أو باريس أو لندن أو موسكو!!

السبيل للقضاء على الأنظمة الوظيفية

ولقد دلتنا التجارب التاريخية والمعاصرة على أن “الثورة” هي السبيل لتحطيم أسوار السجن، والتخلص من السجان، والتحرر من هيمنة الأسياد، ولا بد لكل ثورة من قوة تحسم أمرها، ولا بد لكل ثورة من “حرس ثوري” يحمي أهدافها، وقادتها، ويحمي رحلتها من الاستبداد إلى التحرر، ومن التعبية إلى الاستقلال، ومن الإفساد إلى العدل والحق.

وحتى تنجح هذه الثورة لا بد من العمل على كل المستويات: الدعوية، والسياسية، والجهادية (العسكرية)، والإبداعية، والتقنية… إلخ.

ولقد فهم البعض من “العمل السياسي” أنه الحفاظ على مؤسسات الدولة الوظيفية، ويتهم أصحاب العمل الجهادي أو العسكري أو الدعوي أن مشروعهم هو تحطيم الأوطان، وتحقيق الأحلام على جثة الوطن ؟!

 كيفية التعاطي مع مؤسسات الدولة الوظيفية

هل ندعمها أم نهدمها ؟

بداية.. إن أصحاب “الثورة الإسلامية” التي شعارها التوحيد لله في العبادة والشعائر والتشريع، والتي تريد عودة عز الإسلام، ومجد أمة الإسلام، هم أشد الناس حباً لأوطانهم، وأعظم الناس حباً لأقوامهم، وأقواهم رغبة في صلاح مجتمعاتهم، فدعوتهم “إصلاحية” وهناك إصلاح لا حل له إلا من الجذور، وهناك إصلاح لا يحتاج إلا قليل جهد.

وظائف الأنظمة الوظيفية

ومؤسسات الدولة الوظيفية هي-كما قلنا-تعمل ليس في خدمة المجتمع بالأصالة، إنما بالتبعية.. فهي في خدمة النظام، فالمؤسسات التعليمية والصحية والخدمية ليس هدفها راحة المواطن، ورفع كرامته، ورعاية إنسانيته بل هي لإعطاءه “شكل” فارغ المضمون، فاسد على مستوى الوسائل والآليات، وفاشل كذلك على مستوى المحتوى والمضمون! تعليم وشهادات نعم.. ولكن لا تعليم حقيقي، رعاية صحية، تؤذي أكثر مما تصلح، وهكذا على كافة الأصعدة.

وأما المؤسسات الأمنية “الجيش والشرطة وأجهزة الاستخبارات” فهي فقط لحماية النظام-الذي هو بالأساس يؤدي وظيفة عن المحتل الأجنبي ولا يملك قراره في شيء اللهم إلا حرية الفتك والتوحش على الشعوب المستضعفة. وقد رأينا رأي العين كيف أن المؤسسات الأمنية التي يفترض لها أن تحمي الشعب إذا بها العصا الغليظة التي تقهره وتدمره، والجيش الذي يُفترض أن يحمي حدود الوطن، إذا به يقتل أبناء الوطن، وتنطلق طائرته بكل قوة لتقتل الشعب الأعزل من كل قوة، بينما عدونا الحقيقي يحمي له حدوده!

كيفية إصلاح الأنظمة الوظيفية

والأمر يُعالج كما يُعالج مريض السرطان، فهناك “ورم حميد” يمكن علاجه بالدواء، وهناك “ورم خبيث” لا علاج له إلا الاستئصال.. وهكذا الحال مع مؤسسات الدولة الوظيفية، هناك بعض الأورام الحميدة-والتي في حالتنا يكون سببها الأورام الخبيثة-ونجد الأورام الحميدة في مؤسسات التعليم والصحة والثقافة… إلخ، وعلاجها يكون سهلاً يسيراً إن شاء الله، وهناك “أورام خبيثة” خاصة في المؤسسات الأمنية لا حل لها إلا الاستئصال، لأنها اختيرت بعناية للتوحش والاستبداد وقهر الشعوب.

وفي كل أحوال العلاج سواء الورم الحميد أو الخبيث لا نسعى أبداً لهدم “مؤسسات الدولة” إنما نسعى إلى “تطهيرها” بما يصلحها ويعالجها، ويجعلها تؤدي دورها الحقيقي لصالح البر والتقوى، والحق والعدل، وخدمة الناس، ونشر الخير، وقمع الشر. مع الإحسان إلى محسنهم، والعفو عن مسيئهم، ورد عدوان المعتدي منهم.

وإن عناصر الخير لا بد وأن توجد في كل مكان مهما استفحل الشر-لتكون نذيراً لقومها-ومثل هذه العناصر لا بد من التعاون معها في البر والتقوى، وعدم إهدار خبراتها، أو الاستهانة بقيمتها.

فهناك مؤسسات تحتاج إلى “بعض الترميم” لتكون على أكمل وجه، وهناك مؤسسات آلية للسقوط، وحتى لا تسقط علينا وعلى شعوبنا.. فلابد من إزالتها لإعادة بنائها على الوجه الصحيح.

إذا.. فالمسالة ليست هي “حماية” مؤسسات الدولة الوظيفية بإطلاق، وليس هو “هدمها” بإطلاق.. إنما هو تصحيح ما يحتاج إلى تصحيح، واستئصال ما فسد منها فساداً لا يرجى معه صلاح.

أخطاء وقع بها بعض المصلحون

بعض الحركات الإسلامية-التي تاهت في الطريق، وتخبطت في التيه-ظنت أن “العمل السياسي” هو الحفاظ على مؤسسات الدولة الوظيفية التي تحارب الإنسان والأوطان، وأن العمل داخل الإطار التي تسمح به الأنظمة العريقة في الفساد والبغي والإفساد سوف ينقذ المسلمين، ويحل معضلة “الدولة القومية ذات التبعية الغربية”!

والعمل السياسي ليس كذلك: إنما-أراه في حالتنا هذه-هو اختراق مؤسسات الدولة الوظيفية لمعرفة حقيقية ما بداخل هذه المؤسسات، وما يحتاج إلى علاج بسيط، وما يحتاج إلى علاج شامل، وتكوين “الجهاز الأمني” للثورة، والتحضير لها.

ومتى استطاعوا “التعاون على البر والتقوى” وتخفيف المعاناة على الناس سلكوا لذلك كل السبل، فصيانة “كرامة الإنسان” – ولو بأقل القليل – هدف عظيم من أهداف الثورة يجب أن يكون مستمراً في كل مراحل الثورة سواء في ما قبل الثورة، أو أثنائها، أو بعدها.. بل إن نهاية الثورة يكون عند استيفاء كرامة الإنسان وحريته وحقوقه.

وعلى الجانب الآخر: فهناك من سلك سبيل “العزلة” أو “التكفير” كأسلوب للمواجهة. وجعل ذلك قضية عقيدة وإيمان، المخالف فيها هو مبتدع مرجئ، تباع للطواغيت.. وهو سبيل يُفسد أكثر مما يصلح، ويدمر أكثر مما يبني. ولا نرى التكفير إلا صخرة عاتية تتحطم عليها طاقات الشباب، وأحلامهم، وتضحيات الأجيال.

فالثورة هي ثورة على البغي والإفساد وعلى التبعية والعمالة وعلى المنافقين والطغاة وإبعادهم عن التوجيه السياسي والاجتماعي، وحصر وجودهم في أوطاننا ما استطعنا لذلك سبيلا، وقبل هذا وذاك عودة “الكتاب”-الذي فيه ذكرنا ورفعتنا بين الأمم-يأخذ مكانه الذي من أجله أنزله الله ليكون لأوطاننا ولشعوبنا ولأمتنا وللعالمين نوراً مبيناً.

أحمد طه

كاتب ومهتم بالشأن الإسلامي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى