من تاريخ حروب الإرهاب باسم نشر الحضارة، فرنسا في الجزائر!

جاء في كتاب “معضلة التنمية الاستعمارية: نظرات في دعاوى إيجابيات الاستعمار” عند الحديث عن الحياة في المستعمرات في ظل الاستعمار: “يقول المؤرخ يوجين روجان إن العالم العربي لم يشهد استعماراً استيطانياً كالاستعمار الفرنسي في الجزائر إلا في فلسطين، وقد واجهت فرنسا مقاومة الأمير عبد القادر بسياسة الأرض المحروقة في المناطق الداخلية بهدف إضعاف التأييد الشعبي للأمير، وقام الجنرال بيجو بإحراق القرى وإفزاع الماشية ودفعها للهرب وإتلاف المحاصيل واقتلاع البساتين وقتل الرجال والنساء والأطفال وعدم قبول الأسر، مما أدى إلى تحطيم اقتصاد الريف، وكان للحرب آثار مدمرة على الجزائر إذ راح ضحيتها مئات الآلاف من الجزائريين، وصارت الجزائر جزءاً من فرنسا ولكن سكانها غير الأوروبيين أصبحوا رعايا وليسوا مواطنين وكان الفرق هائلاً بين الطرفين في مجال الحقوق السياسية والواجبات والمزايا الاقتصادية والأوضاع الإدارية والقانونية، (وهو مجال بحث غير مطروق عند أنصار التغريب المغرمين بتشريح التاريخ الإسلامي وذم الرعوية للدولة الإسلامية التي تختلف جذرياً عن رعوية الدول الاستعمارية التي تعني التمييز بلا شك والتي شرعها وبررها في الحالة الجزائرية فيلسوف الديمقراطية أليكسيس دي توكفيل الذي ساند وحشية الجنرال بيجو أيضاً (ويكيبيديا)).

ويقول المؤرخ فلاديمير لوتسكي إن الفرنسيين استخدموا أشد الأساليب وحشية لإرهاب الشعب الجزائري، وأبادوا القبائل الموالية للأمير عبد القادر عن بكرة أبيها، ويستشهد بشهادات عاصرت الأحداث أكدت أن الفرنسيين قاموا بقطع آذان الأسرى وسبي الزوجات والأطفال والاستيلاء على القطعان، وعرضوا النساء في المزاد العلني كالدواب، وقطعوا رءوس الأسرى لتلقين العرب درساً في احترام السلطة، ” وأدى نير المستعمرين إلى كارثة اقتصادية تامة في الأرياف الجزائرية، ففي غضون الأعوام 1868-1870، عمت البلاد المجاعة واقتات الناس الحشائش وفي حالات كثيرة كانت تلاحظ حوادث أكل لحوم البشر، ورافقت المجاعة الكوليرا التي أودت بحياة عشرات الآلاف من الضحايا”، وفي عام 1866 كان عدد الجزائريين مليونين و 652 ألفاً فهبط العدد أكثر من نصف مليون بعد ست سنوات أي مات خُمس مجموع السكان من المجاعة والأمراض والأعمال الوحشية التي ارتكبها الاستعمار.

وعن تنمية الجزائر يقول لوتسكي أيضاً إن الفرنسيين نظروا إلى الجزائر بصفتها سوقاً لترويج البضائع ومصدراً للخامات والمواد الغذائية، بالإضافة إلى كونها مكاناً لتصدير الفائض السكاني الفرنسي، وكان اغتصاب الأرض هو الأسلوب الذي حقق به الاستعمار تبعية الجزائر لفرنسا، وبحلول سنة 1917 كان المستوطنون قد استولوا على 55% من مجموع الأراضي المسجلة في الجزائر معظمها بأيدي 10 آلاف من المستعمرين مقابل الملايين من الشعب الجزائري، وإذا كان استيراد البضائع الفرنسية قد دمر الصناعة الجزائرية فإن تصدير الخامات والغذاء أخضع عمليات إنتاجها أي الزراعة والتعدين للهيمنة الاستعمارية بالاستيلاء على الأراضي، “وأدت السياسة الوحشية، التي انتهجها “الممدنون” الفرنسيون والرامية إلى الاستيلاء على الأراضي إلى تدمير الاقتصاد الفلاحي العربي، ولقمع القبائل المتمردة، دمر الفاتحون الينابيع وحولوا الواحات المزدهرة إلى صحاري، واستولى المعمرون على أحسن المراعي، وأبعدوا الرحل إلى الأراضي القاحلة وإلى البقاع الداخلية من البلاد ذات المناخ القاسي، ولم يستطع المبعدون العثور على العشب لإطعام قطعانهم التي هلكت من شدة الجوع والعطش ومن الصيف القائظ والشتاء القارس”.

وقد استولت الاحتكارات الفرنسية على مناجم الحديد والفوسفور، وتأسست بضعة بنوك في الجزائر مرتبطة بالبنوك في فرنسا، ومدت الخطوط الحديدية لتشجيع التجارة وللأهداف العسكرية، وقبل عام 1885 زاد مجموع السكك الحديدية في الجزائر عن 2000 كيلومتر، وكانت التجارة مرتبطة بفرنسا تصديراً للخامات واستيراداً للبضائع، وتقوض بذلك إمكان تأسيس صناعة تحويل جزائرية، وكان العمال الأوروبيون منفصلين عن العمال الجزائريين ويتمتعون بوضع أفضل منهم بكثير، إذ كانت أجورهم أعلى وأعمالهم أسهل وأنظف ويتمتعون بحقوق لم تكن للعمال الجزائريين.

ويقول المؤرخ الفرنسي روبير شنيرب إن الاستيطان الفرنسي في الجزائر لم يكن من الممكن أن يتحقق إلا على حساب السكان الأصليين، وكان من المتوقع أن توفر إفريقيا الشمالية موئلاً لعشرين مليون فرنسي بعد قرن من بداية الاحتلال، ولكن الجزائر لم توفر الظروف المؤاتية التي توفرت في كندا وأستراليا، أما جمهور المسلمين فيها فلم يتطور تطوراً يستحق الذكر، ولم يستفد كثيراً من مؤسسات الحماية والتربية، ولم يفتتح أول مستشفى إلا بعد اكثر من ستين عاماً، وقد فتكت الأمراض بأعداد كبيرة من الأهالي لاسيما الأمراض التي زادت بدخول الفرنسيين كالتدرن الرئوي والسفلس، وقضى المحتلون على المؤسسات التعليمية التي كانت تزود الناس بالتعليم الديني ولم تعط تجارب المدارس العربية التي أنشأها الفرنسيون نتائج مشجعة، وأدت التغيرات التقنية إلى القضاء على النشاطات القديمة ولم تتحسن أحوال المتخلفين، وأدى تغير التيارات التجارية القديمة إلى خسارة البربر والعرب بفعل التيارات والأسواق الجديدة التي أدت إلى الهجرات التي فككت عرى الروابط العائلية، ومع تعود قسم من السكان على الأساليب الجديدة في الرعي والزراعة، فقد ظل السواد الأعظم يعيش “عيشة رزية”، وضحت البلاد بزراعة الحبوب والمواشي التي تقوم عليها مطالب الحياة والاكتفاء مع كون هذين القطاعين حيويين جداً للأهالي واتجهت نحو زراعة العنب لأجل خمور فرنسا.

ولم تشمل الديمقراطية الفرنسية الجزائريين إذ لم يستهدف التمثيل الجماهير الإسلامية، وبعد ثورة 1898 المطالبة بالاستقلال الذاتي مُنح المستوطنون مزيداً من الحقوق والحريات وبقي الجزائريون في وضع اجتماعي متدن، ووافقت هذه الحالة مصالح الحكام في فرنسا، وجعل قانون صدر في سنة 1865 الجزائريين رعايا وليسوا مواطنين فرنسيين، وكان على من يريد أن يُبحث منحه المواطنة أن يتخلى عن هويته الإسلامية ويقبل بالعيش وفق قوانين الأحوال الشخصية الفرنسية، ورغم بريق المواطنة لم يتقدم للحصول عليها من ملايين الجزائريين سوى ألفي شخص في مدة ثمانين عاماً.

ورغم عدم شمول الجزائريين بحماية القانون الفرنسي فقد كان باستطاعتهم أداء الخدمة العسكرية التي أصبحت تجنيداً إلزامياً قبل الحرب الكبرى الأولى (1913) حين جندت فرنسا في الحرب أكثر من 200 ألف مسلم جزائري قُتل منهم ما بين 25-80 ألفاً غير أعداد هائلة من الجرحى، ومع ذلك كانت القوانين المطبقة على الجزائريين تتسم بالتمييز إذ عاقبتهم على أفعال مسموح بها للفرنسيين، كالحرية السياسية في انتقاد الحكومة، وكانت تذكرهم دائماً أن الجزائري مواطن من الدرجة الثانية في وطنه، وقد دفع هذا الوضع المعجبين بالحضارة الغربية للمطالبة باندماج الجزائر في الأمة الفرنسية، وأنكر بعض المتحمسين منهم وجود هوية جزائرية مستقلة عن فرنسا وقالوا : فرنسا هي أنا، وحتى عندما وصلت الجبهة الشعبية الاشتراكية للحكم في فرنسا (1936) ونادت بعلاقات جديدة مع المستعمرات كان القانون الذي اقترحته بهدف تأبيد الاستعمار الفرنسي (مشروع بلوم فيوليت) لا يتيح المواطنة إلا لعدد ضئيل من الجزائريين لا يزيد عن 25 ألفاً من أصل 4.5 مليون ومع ذلك عارضته جماعة الضغط الاستيطانية والمحافظون مما أدى إلى سقوط المشروع وسقطت حكومة الجبهة الشعبية نفسها.

ثم عادت فرنسا لاستخدام الجزائريين في الحرب الكبرى الثانية وجندت أعداداً كبيرة منهم زادت كثيراً عن مائة ألف، وظن دعاة الاندماج بفرنسا أن هذه فرصتهم للمطالبة بحقوقهم ولكنهم صُدموا لرد الفعل الفرنسي الذي قام بقتل 45 ألف جزائري في أثناء الاحتفالات بانتصار الحلفاء في الجزائر يوم 8/5/1945 وهو ما قاد إلى الثورة الجزائرية سنة 1954 التي ارتكب الفرنسيون أثناءها كثيراً من عمليات الاعتقال والتعذيب الجماعية وواسعة النطاق مما أدى إلى تشريد 3 ملايين ريفي جزائري من منازلهم وسقوط مليون ونصف المليون شهيد، (أما العدد الإجمالي لضحايا الاستعمار الفرنسي في الجزائر فقد وصلت تقديراته إلى عشرة ملايين شهيد).

وكان الانسحاب الفرنسي من الجزائر مفضلاً لدى الإدارة الفرنسية على أعباء دمج الجزائر بمستوى الحياة الفرنسية في زمن الرئيس ديغول في الوقت الذي كان فيه الخلاف الداخلي الفرنسي مستقطباً بين رفض السلطة دمج الآخرين وإصرار المستوطنين على الاستعمار والاستغلال وهو نفس الخلاف داخل المجتمع الصهيوني بين طرف يفضل التنازل عن أعباء السكان الفلسطينيين لصالح نقاوة الهوية اليهودية وطرف يفضل الاحتلال مع الاستغلال، أي الهوية أم الهيمنة، وهو خلاف تقليدي في المجتمعات الاستيطانية الديمقراطية وكان محكوماً باستمرار بحسابات المصالح المادية إذ تنتصر وجهة النظر التوسعية أمام السكان الأصليين الضعفاء أو القلائل كما حدث في أمريكا، وتنتصر اعتبارات الهوية أمام المقاومة الشرسة كما في الجزائر، وما زال الخلاف محتدماً في فلسطين بين أخذ ورد، وهذه أدلة حاسمة على حصرية الحضارة الغربية وكونها مقصورة على النخبة وترفض إشراك الآخرين في مزاياها، ومع ذلك تجد اليوم كثيراً من اللاهثين الساعين للحاق والاندماج بها ولكن دون جدوى” (كتاب معضلة التنمية الاستعمارية، دار الروافد الثقافية-بيروت، ودار ابن النديم-الجزائر، 2015، ص 133-139).

وعن دوافع الاستعمار جاء في نفس الكتاب:” إن إنكار الدوافع الاقتصادية لعملية الاستعمار كالادعاء بإفادة الضحايا من عملية الاسترقاق ووجوب تقديمهم الشكر لمن أجرم بحقهم، وكلها ادعاءات من جنس تبرئة الذات، ولا بأس بالاطلاع على بعض ما قاله مؤرخون بل مسئولون في الدول الاستعمارية.

يقول الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول: “عندما احتللنا الجزائر، مثل بقية المستعمرات الأخرى، كانت لدينا النية في استغلال المواد الأولية التي كانت تغفو حتى ذلك الوقت، وتجفيف المستنقعات وزراعتها، وزراعة الهضاب القاحلة، وكنا نستطيع أن نأمل في فائض كبير عن نفقة الاحتلال، في ذلك الزمن، كان السعي إلى الغنيمة مقنّعاً بإعلان عن دور يقدمونه لنا كواجب نبيل، إذ كنا نحمل الحضارة، لكن منذ الحرب العالمية الأولى والثانية بالخصوص، تفاقمت تكاليف الإدارة، وازدادت مطالب الأهالي من أجل تقدمهم الاجتماعي، وهو أمر طبيعي تماماً، ولم تعد الفائدة تعوض التكاليف، والمهمة التحضيرية التي لم تكن في البداية إلا ذريعة، أضحت المسوغ الوحيد لمواصلة الاستعمار، لكن بما أنه يودي بكل هذه التكاليف، لِمَ الإبقاء عليه، إذا كانت غالبية السكان لا تريده؟”، والرسالة واضحة: استعمرنا عندما كان الاستعمار مفيداً، فلما أصبح باهظ النفقات علينا التخلي عنه.

ويقول الزعيم السياسي الفرنسي الشهير جول فيري أحد أنصار الاستعمار المتحمسين والذي وصل إلى الحكم وخطط للتوسع وإيجاد امبراطورية فرنسية إن دوافع الاستعمار هي الحصول على المواد الأولية الرخيصة من عمل الأهالي، لاسيما في إفريقيا، والتمتع بأسواق لضمان تسويق المنتجات الصناعية، وبخاصة في آسيا، ولخص فلسفة الاستعمار بقوله كما ينقل الدكتور وهيب أبي فاضل في موسوعته:”الاستعمار ضرورة اقتصادية وعسكرية ومعنوية: فرنسا بحاجة إلى المستعمرات في الوقت الذي ترفع (أي تزيد) فيه الدول الأوروبية الحواجز الجمركية وتحتكر أسواقها وتبحث عن أسواق جديدة، فنحن بحاجة إلى الأسواق العالمية، وأسطولنا بحاجة إلى القواعد البحرية حتى يتمون بالفحم، وفرنسا كدولة عظمى بحاجة إلى سياسة الهيبة والعظمة، فهي بحاجة إلى الاهتمام بأمور العالم والمشاركة فيها، ولا يجوز لدولة عظمى أن تستقيل وتهمل المواضيع العالمية، فإذا شاءت أن تظل دولة عظمى عليها أن تشارك في رسم مصير أوروبا والعالم، عليها أن تنشر في كل مكان لغتها وعبقريتها وسلاحها وأن ترفع علمها”، وينقل عنه ربطه بين المصلحة والمهمة الحضارية إذ يقوم الاستعمار بإيجاد الأسواق وأداء الحقوق تجاه الأجناس الدنيا في نفس الوقت، وفي إيجاز لطبيعة الاستعمار يقول:”السياسة الاستعمارية وليدة السياسة الصناعية”، ويلاحظ أن هذه الاعترافات من فرنسا التي أخفت دوافعها الاقتصادية وأبرزت الدوافع الثقافية أكثر من غيرها، وعلى الضفة البريطانية يقول شارلز ديلك أحد أبرز منظري الاستعمار البريطاني:”حيث تكون المصالح يجب أن تكون السيطرة”، ويعلق المؤرخ روبير شنيرب على ذلك بالقول إن “ارتباط السياسة بالأعمال، ظاهراً كان أو مستتراً، يفسر معظم الفتوحات الاستعمارية”، كما كتب أوجين اتيان في صحيفة تان سنة 1897:”إن المقياس الوحيد الواجب اتباعه في كل مشروع استعماري هو درجة فائدته ومجموع العائدات والمكاسب التي يجب أن يدرها للوطن الأم” (نفس المرجع، ص 75-77).

ويستنتج الكتاب في موضوع التنمية التي ادعى الاستعمار بناءها أن” الاحتلال الفرنسي للجزائر قام بالفعل بإنجازات تطورية، ولكن من استفاد منها هم المهاجرون الأوروبيون الذين استوطنوا البلاد التي ألحقت بالبر الفرنسي، ويقول الباحث الاقتصادي المعروف شارل عيساوي وهو بالمناسبة لا يكن عداء للغرب:”إن تجربة شمال إفريقيا تظهر أن السيطرة الأجنبية المباشرة يمكن أن تقود إلى تطور كبير في الموارد بفوائد قليلة جدا للسكان الأصليين”، ومن صور ذلك أنه في سنة 1945 كان عدد الطلاب الجزائريين في جامعة الجزائر150 فقط من أصل خمسة آلاف، مع أن المستعمرين الأوروبيين المستوطنين الجزائر لم تتعد نسبتهم 14% في أي وقت من الأوقات” (نفس المرجع، ص 331).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى